توقفت لحظة أتأمل المشهد، أيام قليلة فقط قبل ان تُغلق أبواب المدارس، ينطلق الجميع نحو إجازة الصيف، يحملون معهم فرحة الراحة، والابتعاد عن ضغط العمل والالتزامات، لقد كنت أراقب الوجوه، حديث المعلمين عن السفر، وفرصة التفرغ للعائلة، عن السكون الذي ينتظرهم بعد شهور من العطاء المستمر، وبينما تبدو على الوجوه علامات الترقب والارتياح، لا يسعني إلا أن أفكر في شيء واحد؛ ذلك التعب الصامت المتراكم لشهور، الذي لا يراه أحد، والذي يرافق المعلم حتى آخر دقيقة من آخر يوم في الدوام، إنه تعب وجهود مضنية خلف أسوار المدارس... لا تلتقطها العدسات.
عندما نُلقي نظرة سريعة على عمل المعلم، قد يتبادر إلى أذهان البعض أنه مجرد ساعات يُمضيها في الفصل الدراسي، يشرح خلالها دروسًا، يوزع الواجبات، وربما يُنهي يومه بانتهاء الحصة الأخيرة، إلا أن الحقيقة مختلفة تمامًا، بل تحمل بين طياتها مشهدًا خفيًا لا يدركه الكثيرون ولا يراه إلا القليلون؛ مشهدًا عنوانه الأساسي: التعب الصامت الذي يرافق المعلم حتى آخر لحظة من يومه الدراسي.
في ظاهر الأمر، نرى المعلم أمام الطلاب بابتسامته الجميلة ووجهه البشوش، وصوته الهادئ، يحمل كتابه وأوراقه ويبدو متحكمًا في مجريات الفصل الدراسي، لكن خلف هذه الواجهة الظاهرة، تكمن مسؤوليات يومية لا تقل أهمية عن التعليم المباشر، بل قد تكون أكثر إرهاقًا نفسيًا وذهنيًا، منهمكًا بالتخطيط للدروس، متابعة الفروق الفردية بين الطلبة في الصف الدراسي، التعامل مع المشكلات السلوكية، الرد على استفسارات الإدارة، تجهيز الأنشطة اليومية، إعداد الاختبارات وتصحيحها، والإشراف على الطلاب أثناء الأنشطة أو الرحلات، والحرص على تحقيق العدالة بينهم جميعًا، ومع ذلك هذه المهام الظاهرة لا تمثل سوى جزء صغير من الصورة الخفية.
هناك مواقف يومية تحدث داخل الصف لا يعلم عنها أحد شيئًا إلا المعلم والطلاب أنفسهم، مواقف تتطلب صبرًا، وذكاءً عاطفيا واجتماعيا، ومرونة، وأحيانًا حزمًا قاسيًا يُخفي خلفه قلبًا رحيمًا.
تخيّل معلمًا يشرح درسًا معقدًا وبينما يحاول إيصال المعلومة لطلاب متبايني القدرات، يلاحظ في الزاوية طالبًا يحبس دموعه لأنه تعرض للتنمر في الفسحة، أو آخر يبدو شاردًا لأنه يعيش أزمة في بيته لا أحد يعلم تفاصيلها، أو طالب يتحاشى رفع يده خوفًا من السخرية بسبب ضعفه الأكاديمي، كل هذه المشاهد تقع أمام عين المعلم، ويظل مطالبًا بأن يُدير الموقف بحكمة وهدوء وصمت، ويواصل شرحه، ويواسي الطالب المتألم، ويُعيد الثقة الى المتردد، من دون أن يشعر باقي الطلبة في الفصل الدراسي بأي ارتباك أو اضطراب في الموقف التعليمي.
المعلم هو الوحيد القادر على أن يتصرف خلال لحظات قليلة ليحمي كرامة طالب، ويُعيد الانضباط إلى الجو الدراسي، ويُمسك بخيوط الموقف التربوي المتشابك، وكأن شيئًا لم يحدث، ومن خلف جدران الفصل، لا أحد يرى هذا الجهد، ولا أحد يُدرك كم الطاقة النفسية والذهنية التي تُستنزف من المعلم في مثل هذه المواقف.
ثم يأتي الدور الذي ربما يغفل عنه الكثيرون، وهو دور المعلم مع أولياء الأمور، إن المعلم لا يتعامل مع طلابه فقط، بل يحمل على عاتقه مسؤولية طمأنة أولياء الأمور، الاستماع لهم وفهم مخاوفهم، وإيجاد الحلول التربوية المناسبة للتعامل مع أبنائهم. كم من معلم جلس طويلًا بعد انتهاء الدوام ليستمع لأم قلقة على تحصيل ابنها، أو أب يتحدث عن تغيرات ابنه السلوكية، وكل ذلك بإنصات وتواضع، رغم أن يومه الدراسي لم يُبقِ له شيئًا من الطاقة، ولكن ما زال يمسك بجذور الامور الصعبة.
نعم، المعلم يُراعي أكثر من مائة طالب في اليوم، يلاحظهم، يتفقدهم، يُتابع أداءهم، يحس بهمومهم، يتذكر ظروف كل واحد منهم، يعرف من يعاني مشكلة أسرية، ومن يحتاج دعمًا نفسيًا، ومن تراجع مستواه فجأة ويجب التدخل السريع. وفي المقابل هو مطالب بألا ينسى أبناءه في بيته، فهم جزء أساسي من مسؤولياته، انه يُراعيهم في المنزل، بالاهتمام والمتابعة والحب، كذلك طلابه في الصف يُراعيهم في الفصل الدراسي، بالتعليم والتقويم والاحتواء والحب، الفرق الوحيد هو المكان، لكن القلب واحد، والنية واحدة، والجهد واحد لا يقل في أي منهما عن الآخر، ان التعب الذي يشعر به المعلم ليس تعبًا جسديًا فحسب، بل هو مزيج من إرهاق ذهني، واستنزاف عاطفي، وضغط نفسي مستمر، لا يعود المعلم إلى منزله تاركًا العمل خلفه، بل يحمل همومه معه؛ يفكر في الطالب المتعثر، وكيف يمكن أن يساعده، ويقلق بشأن الطالب الذي بدا شارد الذهن في هذا اليوم، يُراجع خطة الغد، ويبحث عن وسائل واستراتيجيات جديدة لجعل التعلم أكثر متعة وفاعلية وأكثر مواكبه مع العصر التكنولوجي.
إن هذا التعب لا يظهر لأنه ببساطة لا تلتقطه العدسات، المعلم يدرك تمامًا أنه اختار بإرادته أن يكون جزءًا من بناء الإنسان، وهو يعلم أن هذا الطريق ليس بالطريق السالك فهو لا يخلو من العثرات والتحديات.
لذا وجب عليه أن يتحلى بالصبر، ويخفي إرهاقه خلف ابتسامة مشرقة ومطمئنة، حتى لا يؤثر تعبه على طلابه، وحتى يظل مصدر أمل وقدوة إيجابية لهم.
إنه من الإنصاف أن نقف قليلًا لنُقدّر هذا الجهد الصامت، وأن نشهد كل ما يدور خلف كواليس مهنة التعليم، وأن ندرك تمامًا أن المعلم رغم كل التعب الذي يرافقه، يظل صامدًا، لأنه ببساطة يحمل أعظم الأدوار وهو «صناعة الإنسان».
لذا قبل أن تُفكّر يومًا في الانضمام الى هذه المهنة العظيمة وتكون معلمًا، عليك أن تتوقف صادقًا مع نفسك، وتسألها: هل لديك الاستعداد الحقيقي لقبول هذا الواقع؟ هل تملك النفس الطويل، والصبر، والحكمة التي تجعلك تتحمل ضغوط هذه المهنة؟ هل لديك مهارات التواصل الاجتماعي، والذكاء العاطفي؟ وهل ترى بعين البصر والبصيرة التي تؤهلك لتكون معلمًا حقيقيًا؟ أم أنها مجرد وظيفة تؤدي واجبا فيها فقط وتتقاضى عليها راتبًا نهاية كل شهر!
فكّر جيدًا، هل أنت مستعد أن تُعامل طلابك كما تُعامل أبناءك؟ فتكون عادلًا ومنصفًا في أن تتفقد أحوالهم، وتتحمل مسؤولياتهم، وتُراعي اختلافاتهم تمامًا كما تفعل مع أولادك في بيتك؟ هل فكّرت مليًّا في أنك ستقف يومًا في مواجهة ولي أمر غاضب، يلومك على تراجع مستوى ابنه، أو يتهمك بالتقصير في احتوائه، أو يُلقي عليك مسؤولية مشكلات سلوكية، ربما لا تملك السيطرة عليها كلها. هل تدرك أنك ستقابل مواقف صعبة داخل الصف، لحظات يتعرض فيها أحد طلابك للتنمر، أو يشعر بالخوف والخذلان، وسيُطلب منك الحكمة، والحزم، والاحتواء، في آن واحد، دون أن يتسرّب القلق إلى باقي التلاميذ في الفصل الدراسي؟ هل أعددت نفسك لكل هذه الأمور؟
إنها ليست مجرد مهنة، إنها رسالة، إنها مهنة الأنبياء، ومهنة تنبثق منها كل المهن، جهد لا تُظهره الصورة بالكامل، وعطاء لا يُكتب بالقلم على الورق، لكنه يُخلّد في نفوس الطلاب، ويُثمر في مستقبلهم الزاهر.
هل فعلًا لديك الاستعداد الحقيقي لأن تُحمّل نفسك مسؤولية بناء الإنسان؟ وأن تقبل تعبا وتبذل جهودا مخلصة... لا تلتقطها العدسات!
كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي:
قم للمعلم وفه التبجيلا.. كاد المعلم أن يكون رسولا
أعلمت أشرف أو أجل من الذي.. يبني وينشئ أنفساً وعقولا؟
(من ديوان الشوقيات)
{ عميدة شؤون الطلبة
- جامعة البحرين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك