كان يمكن للنضالات الكبيرة والتضحيات المتواصلة والخسائر الجسيمة التي تكبدها الشعب الفلسطيني على مدى عقود من الزمن أن تقضي في النهاية على القضية الفلسطينية. ومع ذلك، فإن النضال من أجل الحرية في فلسطين بلغ ذروته. فكيف نفسر ذلك؟
تعود محاولات محو فلسطين والشعب الفلسطيني وقضيته إلى أكثر من قرن من الزمن. ويشمل ذلك الآثار التاريخية والمستمرة لوعد بلفور وفترة الانتداب التي تلته، والتي مهدت الطريق لعصر من العنف الشديد والقمع الممنهج وفرض قوانين طوارئ صارمة.
لقد أعقب النكبة المدمرة – التدمير الكارثي للوطن الفلسطيني– سن قوانين طوارئ جديدة وتشريد واسع النطاق طال على مدة العقود الماضية عدة أجيال فلسطينية متعاقبة تعيش اليوم في بلدان الشتات.
وقد تفاقمت هذه الدورة المتواصلة من الحرب المستمرة وعمليات الاحتلال الجديدة والتطهير العرقي المستمر بسبب الافتقار الشامل إلى العمل الدولي والتضامن العربي المستدام، والذي تفاقم بسبب الصراعات الداخلية الفلسطينية.
وتمتد هذه السلسلة من المعاناة إلى عدد لا يحصى من المجازر الإسرائيلية، وتصاعد العنف، والتوسع المستمر للمستوطنات، والتدمير واسع النطاق، والهدم المتكرر للمنازل.
إن الحصار الطويل والبربري الذي فرض على قطاع غزة، والذي اتسم بحرب تلو الأخرى، قد بلغ ذروته الآن في حرب الإبادة الجماعية المستمرة التي تشنها إسرائيل منذ 23 أكتوبر 2023.
ومع ذلك، ورغم هذا التراكم الشامل والهائل من المحن المأسوية، فإن القضية الفلسطينية لا تصمد فحسب، بل تستمر بروح لا تتزعزع، ويتجلى هذا النضال الاستثنائي والدائم في أعمق معانيه في كلمة الصمود.
إن الصمود يتجاوز مجرد الثبات على الموقف والمبدأ؛ فهو يمثل ظاهرة ثقافية عميقة وراسخة الجذور متجذرة في التحدي، والوعي التاريخي، والإيمان الراسخ، والروحانية، وقوة الروابط الأسرية، وتماسك المجتمع.
إن لغة الصمود غنية ومنتشرة بشكل ملحوظ، وتتجلى ببلاغة في الشعر، والقصص المعقدة، والآيات القرآنية، والمصطلحات الثورية القوية والملهمة.
إن كلمات مثل «الصمود» نفسها، و«المقاومة»، و«الحرية»، و«الثورة»، و«حتى آخر قطرة دم»، وحتى كلمة «فلسطين» نفسها، مشبعة بمعاني عميقة ومتعددة الأوجه.
وبالنسبة إلى عدد لا يحصى من الأطفال الذين نشأوا في قطاع غزة، مثلي، فإن الفعل البسيط، ولكن القوي، المتمثل في كتابة كلمة فلسطين على الرمال، في كل كتاب مدرسي، أو على يد الشخص نفسه، يشكل تجربة أساسية وشخصية عميقة وملهمة تترك أثرا لا يمحى.
ومن ثم، فإن أي فهم حقيقي لفلسطين يجب أن يتشكل بدقة من خلال اللغة الأصيلة والتجارب الحية للفلسطينيين أنفسهم، مع التركيز بشكل خاص على أولئك المقيمين في قطاع غزة.
إن هذه الضرورة تدعونا اليوم إلى إحداث تحول كامل في التركيز، والابتعاد عن الوثائق التاريخية مثل وعد بلفور المشؤوم أو قانون الدولة القومية العنصري في إسرائيل.
وبدلاً من ذلك، ينبغي أن ينشأ الفهم بشكل أصيل من روايات الشخصيات المحورية مثل عز الدين القسام، وعبد القادر الحسيني، وأكرم زعيتر، وغسان كنفاني، وصولاً إلى الفلسطينيين المقاتلين في غزة، وأطفالهم الأبرياء، وصحفييهم الشجعان، وأطبائهم المخلصين، وشعبهم العادي، لكنه الشعب المفعم بالبطولة وروح التضحية.
قد يميل إنسان إلى القول بأن مثل هذا المنظور مفرط في العاطفية، إلا أنه يُجسّد بوضوح قناعة راسخة بأن غزة تشكّل جوهر التاريخ الفلسطيني، ومساره النضالي، ومصيره المستقبلي.
إن هذا ليس بنداء عاطفي، بل هو اعتراف عميق بواقع معيش قاسٍ لا يلين: لقد تحملت غزة وطأة أشد مظاهر الاحتلال الإسرائيلي، والفصل العنصري، والحصار، والحرب، والعنف، والتطهير العرقي، والإبادة الجماعية.
والأهم من ذلك، أن غزة هي أيضًا المكان الذي لم تتوقف فيه المقاومة لحظةً واحدة. هذه الحقيقة وحدها كافية لإثبات أن غزة هي العنصر الأكثر أهميةً ووضوحًا في التاريخ المعقد لما يُسمى بالصراع.
إن الإبادة الجماعية الإسرائيلية التي تتكشف في غزة ليست مجرد عقاب جماعي، بل هي نابعة من تصور إسرائيلي مشوه ومرعب للواقع، مفاده أن الشعب الفلسطيني نفسه، وليس أيديولوجية محددة، أو مجموعة أفراد محددة، أو منظمة محددة، هو جوهر القضية الفلسطينية.
وبالتالي، فإن الطريقة الوحيدة المفترضة للقضاء على المقاومة الفلسطينية برمتها ووأدها بشكل نهائي وبصورة كاملة إنما تتمثل في القتل الجماعي وإبادة الشعب والتطهير العرقي للذين تكتب لهم النجاة ويظلون على قيد الحياة.
وإذا كانت إسرائيل، بطريقتها الملتوية والإجرامية العميقة، قد نجحت في استيعاب هذا الفهم المرعب، فإنه يصبح من الضروري بنفس القدر أن نستوعب نحن أيضاً هذا المفهوم الأساسي بشكل كامل.
لذلك، فإن فهمًا جديدًا وعميقا لفلسطين ليس أمرًا مرغوبًا فيه فحسب، بل هو ضرورة مُلِحّة. يجب أن يُركّز هذا الفهم، بشكل لا لبس فيه، على الأصوات الفلسطينية التي تعكس بصدق مشاعر الناس العاديين ورغباتهم وتطلعاتهم وسياساتهم الشعبية الأصيلة.
من الأهمية بمكان ألا يكفي أي صوت فلسطيني، ولا أي رواية تاريخية. هذا النهج المدروس والمركّز سيساعد أيضًا على تحرير كلمة «صمود»، وجميع المصطلحات المرتبطة بها، من اعتبارها مجرد لغة عاطفية عابرة، مما يجعلها جوهرَ خطابنا الجماعي.
ينبغي أن يُعهد للفلسطينيين، كسائر الشعوب الأصيلة المنخرطة في نضال عادل من أجل الحرية، بمسؤولية واضحة عن خطابهم. فهم ليسوا عبئًا على هذا الخطاب، وليسوا مجرد أطراف هامشية فيه، بل هم الشخصيات الرئيسية التي لا يمكن إنكارها.
في غضون 600 يوم منذ هجمات 7 أكتوبر 2023، تمكن الفلسطينيون في غزة، الذين يعيشون في عزلة تامة ويتعرضون للإبادة، من فضح الصهيونية على نحو أكثر شمولاً وفعالية من كل العمل التراكمي الذي تم إنجازه على مدى قرن كامل.
وهذا الإنجاز الضخم هو أيضًا نتيجة مباشرة لروح الصمود البطولية التي أبداها الشعب الفلسطيني.
لقد حان الوقت الآن لإعادة النظر بشكل نقدي في لغة تضامننا مع فلسطين، وتحريرها بوعي من أولوياتنا الأيديولوجية والسياسية، والشخصية في كثير من الأحيان، وإعادة تشكيلها بشكل حاسم على أساس الأولويات الحقيقية للفلسطينيين أنفسهم فقط.
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك