كل دول العالم، وبخاصة الدول المتقدمة والدول الغنية والثرية تندفع بقوة شديدة، ومن دون النظر إلى الوراء قليلا نحو إدخال برامج الذكاء الاصطناعي في جميع مناحي الحياة دون استثناء. بل وإن هذه الدول قد دخلت سباقاً محتدماً قوياً، ومعركة طويلة شديدة من أجل تحقيق السبق والريادة والتفوق في هذا المجال التقني الرقمي الحديث والمتطور، والسعي نحو أن تكون القوة التقنية العظمى المحتكرة لبرامج الذكاء الاصطناعي على المستوى الدولي.
وهذا هو حال الإنسان ونمط تفكيره المعوق الأحادي الجانب، فهو يجري وراء أي جديد وحديث، دون التريث والتفكير قليلاً وبهدوء وعقلانية في تداعيات هذا الجديد على الجوانب الأخرى للحياة، سواء الجانب البيئي أو الاجتماعي أو غيرهما. وهذا يعني أن الإنسان يرفع شعاراً براقاً وجميلاً، ويملأ صفحات الوثائق الرسمية، والتقارير الحكومية بهذا الشعار اللامع الجميل، ولكن في الواقع لا ينفذه، ولا يقترب من تطبيقه في الميدان. وهذا الشعار هو تحقيق التنمية المستدامة في جميع الأعمال والأنشطة التنموية التي يدخل فيها، أي عليه قبل أي يلج في أي برنامج، أو نشاط تنموي أي يدرس كل الجوانب المتعلقة بهذا العمل والنشاط، وبالتحديد الجانب الاقتصادي الذي يتم دائماً التركيز عليه مباشرة والاهتمام به، إضافة إلى الجانبين والبعدين الآخرين، وهما البيئي والاجتماعي، والذي يتم في معظم الحالات تجاهلهما ونسيانهما، ووضعهما خلف ظهره، إلا بعد فوات الأوان، وبعد أن تنكشف الجوانب السلبية البيئية والاجتماعية لهذا النشاط التنموي، وبعد أن يعاني المجتمع البشري برمته من سلبيات ومخاطر هذا البرنامج والعمل التنموي.
والأمثلة التي مرَّت على البشرية وتؤكد مصداقية هذه الظاهرة كثيرة جداً، منها ما هو قديم ومعروف وموثق، ومنها ما هو جديد، ونشاهده أمامنا اليوم، وهو موضة الولوج في الذكاء الاصطناعي في كل شيء، سواء أكان هناك حاجة إليه أم لا، وبخاصة أن هذه البرامج الخاصة بالذكاء الاصطناعي تمتلكها الشركات العملاقة متعددة الجنسية التي لا ترقب في الإنسان والمجتمعات البشرية إلا ولا ذمة، ولا تسعى إلا لتحقيق الربح الكبير والسريع، وتسويق المنتج في كل المجالات والقطاعات، حتى ولو كان على حساب صحة الإنسان وسلامته، وأمن مكونات البيئة التي لا حياة من دونها.
فليس هناك أدنى شك عند أي إنسان في إيجابيات هذه البرامج الخاصة بالذكاء الاصطناعي، ولا ريب عند أحد في الخدمات الجليلة والكبيرة التي تقدمها لتحسين حياة البشر، وتطويرها، وتسريع وتيرتها، فالكل متفق على هذه المحاسن العظيمة. ولكن هل فكر أحد في سلبيات هذا الاستخدام المفرط والواسع النطاق للذكاء الاصطناعي في كل دول العالم وفي جميع القطاعات والمجالات؟ وهل نظر أحد في ما تحتاجه برامج الذكاء الاصطناعي من مصادر وأحجام للطاقة تؤثر في أمن الطاقة من جهة على المستويين القطري والدولي، إضافة إلى تأثيراتها في صحة وأمن مكونات البيئة من جهة أخرى، والتي تنعكس على صحة الإنسان بشكلٍ مباشر؟
لقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية من أولى الدول التي بادرت في التعرف على تداعيات دخول الذكاء الاصطناعي إلى المجتمع البشري، ولكن فعلت هذا بعد أن أدخلت هذه التقنية في كل المجالات، وليس قبل ذلك، حيث شرع الكونجرس قانوناً في الأول من فبراير 2024 تحت عنوان: «قانون التأثيرات البيئية للذكاء الاصطناعي» ( Artificial Intelligence Environmental Impacts Act)، ويهدف إلى إجراء دراسة تقييم الأثر البيئي لاستخدام هذه التقنية الجديدة.
وقد نُشرت الكثير من الدراسات حول استهلاك مراكز البيانات والمعلومات الخاصة بالذكاء الاصطناعي للكهرباء، إضافة إلى استهلاك الطاقة من الاستخدام اليومي للبرامج للأفراد والمؤسسات والوزارات. وجميع هذه الدراسات أجمعتْ على أن الذكاء الاصطناعي يُعد شديد الاستنزاف للطاقة، مما يعني شديد الانبعاثات لغاز ثاني أكسيد الكربون، المتهم الأول بنزول أكبر وأعقد قضية تواجه البشرية الآن، وهي التغير المناخي. ومثل هذه الاستخدامات للذكاء الاصطناعي واستنزافها للطاقة تتناقض مع الجهود الدولية الممتدة عبر 33 عاماً لخفض استهلاك الكهرباء، وبالتحديد خفض حرق جميع أنواع الوقود الأحفوري المسببة للتغير المناخي وتداعياتها العقيمة على كوكبنا وعلى كل من يعيش عليه.
فعلى سبيل المثال، نَشرتْ «الوكالة الدولية للطاقة» تقريراً في يناير 2024 تحت عنوان: «تحليل وتنبؤ انتاج الطاقة حتى عام 2026»، حيث أفادت بأن استهلاك برامج الذكاء الاصطناعي للكهرباء يقدر بعشرة أضعاف برامج البحث العادية. كذلك فإن استهلاك الكهرباء في مراكز البيانات والمعلومات لبرامج الذكاء الاصطناعي تمثل 4.4% من اجمالي استهلاك أمريكا للكهرباء في عام 2023، وبحلول عام 2028 ستزيد كثيراً وتتراوح النسبة بين 6.7 إلى 12%. وعلى المستوى الدولي فقد زادت مراكز البيانات من 500 ألف في عام 2012 إلى أكثر من 8 ملايين في سبتمبر 2024، مما يعني الزيادة المطردة الشديدة لاستنزاف الطاقة الكهربائية، وارتفاع انبعاث الملوثات التي تسبب مشكلات بيئية وصحية، كالتغير المناخي، وتعميق البصمة الكربونية.
وهناك جانب آخر خطير يهدد استدامة إبداع وتطور العقل البشري، وبدأ ينكشف من الاستخدام المفرط وغير المنضبط لبرامج الذكاء الاصطناعي، وبالتحديد التأثير السلبي في الجانب العقلي والذهني، وتدهور القدرات والمهارات العقلية عند الفرد بسبب كثرة الاعتماد على الذكاء الاصطناعي والاتكال عليه في حل مشكلات الفرد اليومية وأداء الواجبات المدرسية، كما يزيد من عزلة الفرد عن أسرته ومجتمعه.
فهناك دراسة أجرتها جامعة «معهد ماساشوستس للتكنولوجيا» وقد خلصت الدراسة أن استخدام الذكاء الاصطناعي عند الأطفال والشباب، وبخاصة في السنوات الأولى من مرحلة التعلم يؤثر في قدراتهم الفكرية والنقدية والتحليلية، ويخفض من مستوى أدائهم الذهني، ويدهور من الإنتاج العلمي المبدع والأصيل الجديد. ومثل هذه التداعيات البيئية الصحية الجسمية والعقلية والذهنية للاستخدام المفرط وغير المقنن لبرامج الذكاء الاصطناعي من المفروض أن تدق ناقوس الخطر للجميع.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك