العدد : ١٧٢٦٨ - الخميس ٠٣ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٨ محرّم ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٢٦٨ - الخميس ٠٣ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٨ محرّم ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

العقوبات البديلة.. عدالة ذكية بوجه إنساني

بقلم: نبيلة رجب

الخميس ٠٣ يوليو ٢٠٢٥ - 02:00

في‭ ‬المجتمعات‭ ‬التي‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬عدالة‭ ‬أذكى‭ ‬لا‭ ‬أشد،‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬العقوبة‭ ‬نهاية‭ ‬الطريق،‭ ‬بل‭ ‬غدت‭ ‬وسيلة‭ ‬لإعادة‭ ‬التوازن‭ ‬بين‭ ‬الفرد‭ ‬ومجتمعه،‭ ‬وبين‭ ‬الخطأ‭ ‬وإمكانية‭ ‬التصحيح‭. ‬وسط‭ ‬هذا‭ ‬التحوّل‭ ‬في‭ ‬فلسفة‭ ‬العدالة،‭ ‬يبرز‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬العقوبات‭ ‬البديلة‮»‬‭ ‬كمسار‭ ‬يُراهن‭ ‬على‭ ‬الإصلاح‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬العزل،‭ ‬وعلى‭ ‬استعادة‭ ‬الإنسان‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬تهميشه‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬الإطار،‭ ‬تبنت‭ ‬البحرين‭ ‬هذا‭ ‬النهج‭ ‬عبر‭ ‬قانون‭ ‬العقوبات‭ ‬والتدابير‭ ‬البديلة‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬2017،‭ ‬ثم‭ ‬مضت‭ ‬خطوة‭ ‬أبعد‭ ‬بتعديل‭ ‬جوهري‭ ‬أُقر‭ ‬مؤخرا،‭ ‬أعاد‭ ‬رسم‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الجريمة‭ ‬والعقوبة‭ ‬والفرصة‭.‬

لقد‭ ‬جاء‭ ‬قانون‭ ‬العقوبات‭ ‬والتدابير‭ ‬البديلة‭ ‬رقم‭ (‬18‭) ‬لسنة‭ ‬2017‭ ‬كإشارة‭ ‬مبكرة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬العقوبة‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬بالضرورة‭ ‬العزل‭ ‬والانقطاع،‭ ‬بل‭ ‬قد‭ ‬تعني‭ ‬أحيانا‭ ‬إعادة‭ ‬تأهيل‭ ‬وتأصيل‭ ‬للسلوك‭ ‬في‭ ‬محيط‭ ‬الإنسان‭ ‬لا‭ ‬خارجه‭. ‬ومع‭ ‬التعديل‭ ‬الأخير‭ ‬الذي‭ ‬أقره‭ ‬قانون‭ ‬رقم‭ (‬20‭) ‬لسنة‭ ‬2025،‭ ‬بات‭ ‬المشهد‭ ‬أكثر‭ ‬نضجا،‭ ‬وأكثر‭ ‬دقة،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬أنواع‭ ‬العقوبات،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬فلسفتها‭ ‬وأدوات‭ ‬تنفيذها‭.‬

توسع‭ ‬القانون‭ ‬المعدل‭ ‬ليشمل‭ ‬تسعة‭ ‬بدائل‭ ‬قانونية‭ ‬من‭ ‬بينها‭: ‬الإقامة‭ ‬الجبرية،‭ ‬الخدمة‭ ‬المجتمعية،‭ ‬حضور‭ ‬برامج‭ ‬التأهيل،‭ ‬المراقبة‭ ‬الإلكترونية،‭ ‬والإيداع‭ ‬في‭ ‬مؤسسات‭ ‬العلاج‭ ‬النفسي‭ ‬أو‭ ‬المصحات‭ ‬الصحية،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬آليات‭ ‬حديثة‭ ‬مثل‭ ‬حظر‭ ‬ارتياد‭ ‬مواقع‭ ‬إلكترونية‭ ‬محددة‭ ‬أو‭ ‬الالتزام‭ ‬بالحضور‭ ‬المتكرر‭ ‬لمراكز‭ ‬الشرطة‭. ‬هذا‭ ‬التنوع‭ ‬لا‭ ‬يعكس‭ ‬فقط‭ ‬تطورًا‭ ‬في‭ ‬مضمون‭ ‬العقوبة،‭ ‬بل‭ ‬يُشير‭ ‬إلى‭ ‬وعي‭ ‬عميق‭ ‬بتعدّد‭ ‬صور‭ ‬الجريمة‭ ‬وخصوصية‭ ‬كل‭ ‬حالة،‭ ‬وأن‭ ‬الرد‭ ‬القانوني‭ ‬عليها‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬واحدا‭ ‬بالضرورة‭.‬

لكن‭ ‬التحوّل‭ ‬الجوهري‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬القانون‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬تنويع‭ ‬العقوبات،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬نقل‭ ‬النظرة‭ ‬إلى‭ ‬العقوبة‭ ‬من‭ ‬كونها‭ ‬عقوبة‭ ‬خالصة،‭ ‬إلى‭ ‬كونها‭ ‬فرصة‭ ‬اجتماعية‭. ‬حين‭ ‬يُطلب‭ ‬من‭ ‬شخص‭ ‬قضى‭ ‬حكمه‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬المجتمع‭ ‬أو‭ ‬التأهيل‭ ‬المهني‭ ‬أن‭ ‬يُعيد‭ ‬بناء‭ ‬نفسه‭ ‬وسط‭ ‬الناس‭ ‬لا‭ ‬بمعزل‭ ‬عنهم،‭ ‬فإننا‭ ‬لا‭ ‬نمنحه‭ ‬فقط‭ ‬فرصة‭ ‬شخصية،‭ ‬بل‭ ‬نُهيّئ‭ ‬المجتمع‭ ‬نفسه‭ ‬ليستقبل‭ ‬فردًا‭ ‬جديدا‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬الصورة‭ ‬التي‭ ‬دخل‭ ‬بها‭ ‬المنظومة‭ ‬العقابية‭.‬

ولعل‭ ‬ما‭ ‬يُضفي‭ ‬على‭ ‬العقوبات‭ ‬البديلة‭ ‬معنى‭ ‬أعمق‭ ‬في‭ ‬السياق‭ ‬البحريني‭ ‬هو‭ ‬تربة‭ ‬المجتمع‭ ‬ذاته،‭ ‬التي‭ ‬طالما‭ ‬عُرفت‭ ‬بروح‭ ‬التسامح،‭ ‬واحتضان‭ ‬من‭ ‬تغيرت‭ ‬مساراته‭ ‬ذات‭ ‬يوم،‭ ‬لا‭ ‬إقصائه‭. ‬فالفكرة‭ ‬ليست‭ ‬غريبة‭ ‬عن‭ ‬ثقافتنا‭ ‬الشعبية،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأخطاء‭ ‬زلات‭ ‬تُصحح‭ ‬بالحكمة‭ ‬والمصالحة،‭ ‬لا‭ ‬بالعزل‭ ‬الدائم‭. ‬هذه‭ ‬الأرضية‭ ‬الأخلاقية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تُسهم‭ ‬في‭ ‬نجاح‭ ‬العقوبات‭ ‬البديلة،‭ ‬لأنها‭ ‬لا‭ ‬تُفرض‭ ‬على‭ ‬بيئة‭ ‬رافضة،‭ ‬بل‭ ‬تُزرع‭ ‬في‭ ‬وجدان‭ ‬قابل‭ ‬لاستيعابها‭ ‬إن‭ ‬أُحسن‭ ‬تقديمها‭.‬

ونجاح‭ ‬هذه‭ ‬العقوبات‭ ‬لا‭ ‬يتوقف‭ ‬على‭ ‬نص‭ ‬القانون‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬يعتمد‭ ‬أيضا‭ ‬على‭ ‬تعزيز‭ ‬دور‭ ‬المؤسسات‭ ‬الأهلية‭ ‬ومراكز‭ ‬التدريب‭ ‬والتأهيل،‭ ‬بوصفها‭ ‬شركاء‭ ‬في‭ ‬تنفيذ‭ ‬العدالة‭ ‬الإصلاحية،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬برامج‭ ‬تستوعب‭ ‬المحكوم‭ ‬عليهم‭ ‬ضمن‭ ‬بيئات‭ ‬تراعي‭ ‬الكرامة،‭ ‬وتؤمن‭ ‬بفرصة‭ ‬التغيير‭.‬

وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬لا‭ ‬يغفل‭ ‬القانون‭ ‬حق‭ ‬الضحية،‭ ‬ولا‭ ‬يُفرغ‭ ‬العقوبة‭ ‬من‭ ‬هيبتها‭. ‬بل‭ ‬على‭ ‬العكس،‭ ‬فإن‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬التدابير‭ ‬المعتمدة‭ ‬ما‭ ‬يُلزم‭ ‬الجاني‭ ‬بإصلاح‭ ‬الضرر‭ ‬المادي‭ ‬الناتج‭ ‬عن‭ ‬الجريمة،‭ ‬أو‭ ‬الالتزام‭ ‬بقيود‭ ‬تُقلّص‭ ‬من‭ ‬حركته‭ ‬وتخضعه‭ ‬للمراقبة‭. ‬هذه‭ ‬ليست‭ ‬‮«‬رحمة‭ ‬بلا‭ ‬حساب‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬عدالة‭ ‬محسوبة،‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬المواءمة‭ ‬بين‭ ‬الردع‭ ‬والإصلاح‭.‬

ومع‭ ‬أن‭ ‬القانون‭ ‬وضع‭ ‬الإطار،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الطموح‭ ‬لا‭ ‬ينتهي‭ ‬عند‭ ‬النصوص‭. ‬يمكن‭ ‬مستقبلا‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬إنشاء‭ ‬هيئة‭ ‬مستقلة‭ ‬تُعنى‭ ‬بتقييم‭ ‬تنفيذ‭ ‬هذه‭ ‬العقوبات،‭ ‬وقياس‭ ‬أثرها‭ ‬الواقعي،‭ ‬وتقديم‭ ‬توصيات‭ ‬لتطويرها‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬إصدار‭ ‬دليل‭ ‬مبسّط‭ ‬بلغة‭ ‬المواطن‭ ‬عن‭ ‬أنواع‭ ‬العقوبات‭ ‬البديلة‭ ‬وشروطها،‭ ‬سيكون‭ ‬خطوة‭ ‬مهمّة‭ ‬لتبديد‭ ‬التصورات‭ ‬المغلوطة،‭ ‬وتعزيز‭ ‬ثقة‭ ‬المجتمع‭ ‬بها‭.‬

لقد‭ ‬كانت‭ ‬البحرين‭ ‬من‭ ‬أوائل‭ ‬الدول‭ ‬الخليجية‭ ‬التي‭ ‬أقرت‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬التشريعات،‭ ‬واليوم،‭ ‬تؤكد‭ ‬التعديلات‭ ‬الأخيرة‭ ‬أنها‭ ‬ماضية‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬منظومتها‭ ‬العدلية‭ ‬بما‭ ‬يواكب‭ ‬روح‭ ‬العصر‭. ‬إنها‭ ‬رسالة‭ ‬مفادها‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬لا‭ ‬يُختزل‭ ‬في‭ ‬خطأه،‭ ‬بل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يحمل‭ ‬داخله‭ ‬بداية‭ ‬جديدة‭ ‬إذا‭ ‬أُعطي‭ ‬المسار‭ ‬الصحيح‭.‬

في‭ ‬النهاية،‭ ‬ليست‭ ‬كل‭ ‬عدالة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تُمارس‭ ‬داخل‭ ‬أروقة‭ ‬المحاكم‭. ‬أحيانا،‭ ‬تكون‭ ‬العدالة‭ ‬في‭ ‬منح‭ ‬الإنسان‭ ‬فرصة‭ ‬ليفهم‭ ‬خطأه،‭ ‬ويُصلحه،‭ ‬ويبدأ‭ ‬من‭ ‬جديد‭. ‬وقانون‭ ‬العقوبات‭ ‬البديلة‭ -‬في‭ ‬صورته‭ ‬الجديدة‭- ‬هو‭ ‬إحدى‭ ‬هذه‭ ‬الفرص‭ ‬النبيلة‭ ‬التي‭ ‬نرجو‭ ‬أن‭ ‬تُثمر‭ ‬وعيا‭ ‬أكبر‭ ‬بعدالة‭ ‬أعمق‭.‬

 

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا