في المجتمعات التي تسعى إلى عدالة أذكى لا أشد، لم تعد العقوبة نهاية الطريق، بل غدت وسيلة لإعادة التوازن بين الفرد ومجتمعه، وبين الخطأ وإمكانية التصحيح. وسط هذا التحوّل في فلسفة العدالة، يبرز مفهوم «العقوبات البديلة» كمسار يُراهن على الإصلاح بدلا من العزل، وعلى استعادة الإنسان بدلا من تهميشه.
وفي هذا الإطار، تبنت البحرين هذا النهج عبر قانون العقوبات والتدابير البديلة منذ عام 2017، ثم مضت خطوة أبعد بتعديل جوهري أُقر مؤخرا، أعاد رسم العلاقة بين الجريمة والعقوبة والفرصة.
لقد جاء قانون العقوبات والتدابير البديلة رقم (18) لسنة 2017 كإشارة مبكرة إلى أن العقوبة لا تعني بالضرورة العزل والانقطاع، بل قد تعني أحيانا إعادة تأهيل وتأصيل للسلوك في محيط الإنسان لا خارجه. ومع التعديل الأخير الذي أقره قانون رقم (20) لسنة 2025، بات المشهد أكثر نضجا، وأكثر دقة، ليس فقط من حيث أنواع العقوبات، بل من حيث فلسفتها وأدوات تنفيذها.
توسع القانون المعدل ليشمل تسعة بدائل قانونية من بينها: الإقامة الجبرية، الخدمة المجتمعية، حضور برامج التأهيل، المراقبة الإلكترونية، والإيداع في مؤسسات العلاج النفسي أو المصحات الصحية، فضلا عن آليات حديثة مثل حظر ارتياد مواقع إلكترونية محددة أو الالتزام بالحضور المتكرر لمراكز الشرطة. هذا التنوع لا يعكس فقط تطورًا في مضمون العقوبة، بل يُشير إلى وعي عميق بتعدّد صور الجريمة وخصوصية كل حالة، وأن الرد القانوني عليها لا يمكن أن يكون واحدا بالضرورة.
لكن التحوّل الجوهري في هذا القانون ليس في تنويع العقوبات، بل في نقل النظرة إلى العقوبة من كونها عقوبة خالصة، إلى كونها فرصة اجتماعية. حين يُطلب من شخص قضى حكمه في خدمة المجتمع أو التأهيل المهني أن يُعيد بناء نفسه وسط الناس لا بمعزل عنهم، فإننا لا نمنحه فقط فرصة شخصية، بل نُهيّئ المجتمع نفسه ليستقبل فردًا جديدا على غير الصورة التي دخل بها المنظومة العقابية.
ولعل ما يُضفي على العقوبات البديلة معنى أعمق في السياق البحريني هو تربة المجتمع ذاته، التي طالما عُرفت بروح التسامح، واحتضان من تغيرت مساراته ذات يوم، لا إقصائه. فالفكرة ليست غريبة عن ثقافتنا الشعبية، التي كانت ترى في بعض الأخطاء زلات تُصحح بالحكمة والمصالحة، لا بالعزل الدائم. هذه الأرضية الأخلاقية والاجتماعية يمكن أن تُسهم في نجاح العقوبات البديلة، لأنها لا تُفرض على بيئة رافضة، بل تُزرع في وجدان قابل لاستيعابها إن أُحسن تقديمها.
ونجاح هذه العقوبات لا يتوقف على نص القانون فحسب، بل يعتمد أيضا على تعزيز دور المؤسسات الأهلية ومراكز التدريب والتأهيل، بوصفها شركاء في تنفيذ العدالة الإصلاحية، من خلال برامج تستوعب المحكوم عليهم ضمن بيئات تراعي الكرامة، وتؤمن بفرصة التغيير.
وفي الوقت نفسه، لا يغفل القانون حق الضحية، ولا يُفرغ العقوبة من هيبتها. بل على العكس، فإن من بين التدابير المعتمدة ما يُلزم الجاني بإصلاح الضرر المادي الناتج عن الجريمة، أو الالتزام بقيود تُقلّص من حركته وتخضعه للمراقبة. هذه ليست «رحمة بلا حساب»، بل عدالة محسوبة، قائمة على المواءمة بين الردع والإصلاح.
ومع أن القانون وضع الإطار، إلا أن الطموح لا ينتهي عند النصوص. يمكن مستقبلا التفكير في إنشاء هيئة مستقلة تُعنى بتقييم تنفيذ هذه العقوبات، وقياس أثرها الواقعي، وتقديم توصيات لتطويرها. كما أن إصدار دليل مبسّط بلغة المواطن عن أنواع العقوبات البديلة وشروطها، سيكون خطوة مهمّة لتبديد التصورات المغلوطة، وتعزيز ثقة المجتمع بها.
لقد كانت البحرين من أوائل الدول الخليجية التي أقرت هذا النوع من التشريعات، واليوم، تؤكد التعديلات الأخيرة أنها ماضية في تطوير منظومتها العدلية بما يواكب روح العصر. إنها رسالة مفادها أن الإنسان لا يُختزل في خطأه، بل يمكن أن يحمل داخله بداية جديدة إذا أُعطي المسار الصحيح.
في النهاية، ليست كل عدالة هي التي تُمارس داخل أروقة المحاكم. أحيانا، تكون العدالة في منح الإنسان فرصة ليفهم خطأه، ويُصلحه، ويبدأ من جديد. وقانون العقوبات البديلة -في صورته الجديدة- هو إحدى هذه الفرص النبيلة التي نرجو أن تُثمر وعيا أكبر بعدالة أعمق.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك