تشير الشكوك المحيطة بادعاء الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب»، تدمير المنشآت النووية الإيرانية، إلى أن «طهران»، لا تزال تملك القدرة على تطوير برنامجها النووي في غضون أشهر. وقد أدى انخراط «الولايات المتحدة»، المباشر في الحرب الإسرائيلية ضد إيران، عبر شنّ غارات جوية في 22 يونيو 2025 على ثلاث من أهم منشآتها النووية، إلى دفع الشرق الأوسط نحو حافة تصعيد خطير. وبرّر «البيت الأبيض»، هذه الخطوة باعتبارها ضربة «ساحقة»؛ أنهت سعي طهران إلى امتلاك أسلحة نووية.
مع ذلك، يرى خبراء غربيون، مثل «برايان كاتوليس»، من «معهد الشرق الأوسط»، أنه من المبكر تحديد مدى الضرر الفعلي الذي أحدثته الضربات، سواء على المدى القصير أو الطويل. ورغم ذلك، لم يتردد «ترامب»، في الادعاء بأن منشآت التخصيب الإيرانية، قد «دُمّرت بالكامل».
إلا أن هذه الثقة لم تصمد أمام تقييم استخباراتي، سُرب لاحقًا إلى شبكة «سي إن إن»، من «وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية»، أفاد بأن الضربات لم تُدمر المكونات الرئيسية للمواقع النووية، بل أخّرت مسارها نحو إنتاج سلاح نووي، لبضعة أشهر فقط. ورغم نفي «البيت الأبيض»، لهذا التقييم، وبأنه «خاطئ تمامًا»، و«صادر عن شخص غير مهم»؛ إلا أن الواقع يشير بوضوح إلى أن برنامج إيران النووي «لم يُدمَّر، بل لا يزال قائمًا»، وإن كان مُصابًا بانتكاسات كبيرة.
من جانبه، حذر «كينيث بوليسي»، من «معهد الشرق الأوسط»، من أن الخطر الأكبر في الضربات العسكرية الأمريكية والإسرائيلية يكمن في أنها قد تدفع «طهران»، إلى الانسحاب من التزاماتها النووية. وبينما أكد «هوارد فرينش»، من جامعة «كولومبيا»، أنه بات من الصعب تصور أنها ستتخلى طوعًا عن طموحاتها النووية، خصوصًا بعد الهجوم؛ فقد أشار «ماكس بوت»، في صحيفة «واشنطن بوست»، إلى أن التاريخ يبرهن أن الغارات الجوية يمكن أن تؤخر التخصيب، لكنها لا توقفه، مؤكدًا أن الدبلوماسية وحدها قادرة على إنهاء البرنامج الإيراني، وهو ما يبدو أن تصرفات «ترامب»، قد قوضته تمامًا.
ومع الهجوم الأمريكي على المنشآت النووية في «نطنز»، و«فوردو»، و«أصفهان»، والذي حمل الاسم الرمزي «عملية مطرقة منتصف الليل»، وشمل أكثر من 125 طائرة عسكرية، و14 قنبلة خارقة للتحصينات، لم يكن مستغربًا أن يُعلن «ترامب»، أن العملية كانت «ناجحة عسكريًا»، ملوّحًا باستهدافات إضافية إن لم تتراجع إيران. وبينما سارع وزير الدفاع «بيت هيجسيث» - وغيره إلى الإشادة بما وصفوه بـ«النجاح الكبير»، أبدت القيادات العسكرية العليا حذرًا في تقييمها، حيث صرح رئيس «هيئة الأركان المشتركة»، الجنرال «دان كين»، بأن الضربات حققت هدفها بإلحاق «تدهور كبير» بالقدرات النووية، إلا أنه امتنع عن تقديم تفاصيل دقيقة، موضحًا أن تقييم الأضرار «سيحتاج إلى وقت».
من ناحية أخرى، أشار «فرينش»، إلى أن الواقع على الأرض أقل بكثير مما يتباهى به «ترامب»، مشيرا إلى أن التقرير المسرّب من وكالة «استخبارات الدفاع الأمريكية»، والذي نُشر في 25 يونيو، عبر شبكة «سي إن إن»، أكد أن المنشآت النووية الإيرانية لم تتعرض لتعطيل شامل. وبيّن أن «مخزونها من اليورانيوم المخصب لم يُدمَّر»، وأن «عددًا كبيرًا من أجهزة الطرد المركزي بقي «سليمًا إلى حد كبير». وذكرت صحيفة «نيويورك تايمز»، أن الغارات أغلقت مداخل منشأتين دون أن تتسبب في انهيار بناياتهما تحت الأرض. ووفقًا لتقديرات استخباراتية أمريكية، كانت إيران قبل الضربة على بُعد ثلاثة أشهر من إنتاج كمية كافية من اليورانيوم لصنع قنبلة نووية، في حين أن الغارات لم تؤخر هذا الجدول الزمني سوى أقل من ستة أشهر.
وفي الواقع، لم تكن هذه النتائج مفاجئة للمراقبين الغربيين الذين سبق أن حذروا من محدودية وجدوى الضربات الجوية. واعتبر «دانيال كورتزر»، من جامعة «برينستون»، و«ستيفن سيمون»، من «كلية دارتموث»، أن التدخل الأمريكي المباشر سيؤدي إلى «تصعيد كارثي»، و«يقضي على فرص التفاوض». كما أشار «ريتشارد نيفيو»، من «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، إلى أن القصف الأمريكي لن يمنعها من مواصلة التخصيب في مواقع سرية منتشرة في أنحاء البلاد.
ولم يغب عن النقاش مسألة نقل إيران لمخزونها النووي. ورجّح محللون أنها عمدت بعد الضربات الإسرائيلية الأولى يوم 13 يونيو، إلى تحريك جزء كبير من مخزونها عالي التخصيب، بالإضافة إلى تأمين أجهزة الطرد المركزي الحديثة. وصرّح «رافائيل غروسي»، مدير عام «الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، أن الوكالة لم تعد قادرة على تحديد كمية، أو موقع مخزون إيران البالغ 400 كيلوجرام من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%. كما أقر نائب الرئيس الأمريكي، «جيه دي فانس»، بأن الولايات المتحدة، لا تعلم أين توجد هذه المواد حاليًا.
أما عن الخبرات الفنية الإيرانية، فقد شددت «برونوين مادوكس»، من «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، على أنه لا يمكن تدمير 20 عامًا من الخبرة النووية بغارة جوية واحدة. فيما أشار «بولاك»، إلى أن الاعتقاد بإمكانية إعادة إيران إلى «الجهل النووي»، عبر الضربات هو «وهم»، مؤكدًا أن لديها منشآت وأجهزة احتياطية منتشرة في أماكن غير معلنة، بالإضافة إلى منشأة سرية جديدة أعلنتها قبل بدء الهجمات. ويُجمع الخبراء على أن العلماء الإيرانيين لا يزالون يحتفظون بكل المعرفة اللازمة لتصنيع سلاح نووي.
ورغم هذه الحقائق، فإن «ترامب»، لم يتراجع عن مزاعمه، بل واصل –عبر منصته «تروث سوشيال»– تأكيد أن الضربات كانت «من أنجح العمليات العسكرية في التاريخ»، مدعيًا أن المنشآت النووية «دُمّرت بالكامل». واعتبرت المتحدثة باسم البيت الأبيض، أن التقرير المسرّب المشار إليه ملفق، وقالت إن استخدام 14 قنبلة زنة كل منها 30 ألف رطل لا بد أنه يعني «إبادة كاملة». وفي السياق ذاته، اتهم وزير الدفاع، تقارير وكالته أنها متأثرة باعتبارات سياسية، وهاجم وسائل الإعلام التي تحدثت عن فشل الضربات، واصفًا إياها بـ«الأخبار الكاذبة».
ومع ذلك، فإن الحقائق الاستخباراتية المتاحة تؤكد أن الضربات -رغم قوتها التدميرية– لم تحقق الهدف النهائي المتمثل في القضاء التام على البرنامج النووي الإيراني. ووفقًا لما نقله «باراك رافيد»، و«زاكاري باسو»، في موقع «أكسيوس»، فإن الاستخبارات الإسرائيلية توصلت إلى النتيجة ذاتها، ووصفت الأضرار بأنها «كبيرة جدًا»، لكنها ليست حاسمة.
علاوة على ذلك، صرح «ديفيد أولبرايت»، خبير الأسلحة النووية، ومؤسس «معهد العلوم والأمن الدولي»، بأن «إعادة بناء برنامج إيران ستتطلب وقتًا وجهدًا هائلين»؛ لكنها «ليست مستحيلة»، خاصة مع المراقبة المشددة. وأكد «نيفيو»، أن هذه الهجمات «ليست نهاية القصة»، إذ يُحتمل أن تتبعها عمليات أخرى؛ مما ينذر بتكرار التصعيد العسكري على مستوى المنطقة.
وفي المقابل، أوضح «بوت»، أن «التاريخ يؤكد أنه من المستحيل عمليًا إنهاء برنامج نووي باستخدام القوة الجوية وحدها»، مشيرًا إلى أن الغزو البري –وهو خيار «لا يفكر فيه أحد» – هو البديل الوحيد، وإلا فإن الحل الواقعي يتمثل في «اتفاق دولي ملزم مثل الاتفاق النووي لعام 2015». ورغم ما شابه من عيوب، فإنه كان سيؤخر برنامج إيران النووي 15 عامًا على الأقل، وهو رقم يفوق بكثير التأخير الزمني القصير الذي أحدثته الضربات الأخيرة، وفقًا لتقديرات الاستخبارات الأمريكية.
ورغم محاولة الرئيس الأمريكي تشبيه عمليته العسكرية، بضربات القنبلة الذرية الأمريكية لليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية؛ إلا أن النتيجة كانت انهيار الثقة المتبقية بين «طهران»، و«واشنطن». وكشف «فرينش»، أن «ترامب»، كان يعلم مسبقًا بنية إسرائيل شنّ هجوم في 13 يونيو، رغم أنه دعا علنًا إلى استمرار الدبلوماسية، ما يُعد خداعًا صريحًا؛ مؤكدا أنه «لا شيء حاسم تحقق» من الضربات الإسرائيلية أو الأمريكية، بل إن «الميزة الكبرى»، التي كانت تتمتع بها «الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، من خلال الرقابة والتفتيش قد فُقدت تمامًا نتيجة لذلك.
وفي ضوء هذا الواقع، يرى «كاتوليس»، أن الموقف يتطلب «أهدافًا واضحة، وفهمًا معمقًا لما يجري على الأرض» –وهي أمور تفتقر إليها «إدارة ترامب». في حين خلص «بولاك»، إلى أن «الأكاذيب المتكررة، والاستعراض المفرط»، للرئيس الأمريكي لا تُقوض فقط مصداقية البيت الأبيض؛ بل تمنح إيران، «مبررًا قويًا»، لمواصلة طريقها نحو امتلاك سلاح نووي، وهو ما تعتبره السبيل الوحيد لمنع أمريكا، وإسرائيل من تكرار مهاجمتها في المستقبل.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك