الحديث عن المخدرات ليس سهلا، لا على المستوى الإنساني، ولا على المستوى المجتمعي. والخطأ الأكبر أن نختزله في القانون فقط، أو أن نحصره في نظرة واحدة. قرار إنشاء نيابة متخصصة لجرائم المواد المخدرة والمؤثرات العقلية في البحرين خطوة مهمة، جاءت في وقت يتزايد فيه الوعي بخطورة هذه القضايا، خاصة بعد حوادث مؤلمة راح ضحيتها أبرياء بسبب القيادة تحت تأثير مواد تغيِّب العقل وتترك في أثرها وجعا طويلا في القلوب والبيوت.
ومن المهم أيضا ألا تغيب عن الوعي العام خطورة الدور الذي يلعبه المروّجون والمهربون. هؤلاء ليسوا جزءًا من المشكلة فحسب، بل هم من يغذونها عمدا، ويسهمون في توسيع دائرتها بلا وازع. التعامل معهم يجب أن يظل حازما، واضحا، دون أي تهاون، لأنهم لا يُقحمون أنفسهم فقط في طريق الجريمة، بل يفتحون أبوابه للآخرين. ووسط كل جهود الاحتواء والعلاج، يبقى الردع واجبا لا يُمكن التراخي فيه تجاه من يُتاجر بسموم تُهدد أمن الناس وسلامة أبنائهم.
ورغم وضوح المشهد، يبقى من الإنصاف أن نُعيد النظر في فئة المتعاطين، لا بمنظار التبرير، بل بمنظار الفهم العميق للسلوك الإنساني حين يضعف. فليس كل من تورَّط في التعاطي كان يقصد الفساد، بل أحيانًا كانت البداية من هشاشة لم تجد من يرممها، أو من ضغط نفسي لم يجد من يفهمه، أو من تغرير في لحظة غياب. الخطأ يظل خطأً، والمساءلة لا تُسقط، لكن الاقتصار على العقوبة وحدها يجعلنا ندور في ذات الدائرة، دون أن نكسرها من جذورها.
من التجارب المؤلمة، نعلم أن من يقع في فخ التعاطي قد يجد نفسه لاحقا في عزلة أشد من السجن ذاته، لا بسبب الحكم القانوني، بل لأن المجتمع لا يمنحه فرصة ثانية. وكأن السقطة تلازمه إلى الأبد، حتى حين يحاول النهوض.
وعلى مستوى العالم، تنوعت أساليب المواجهة، فاختارت بعض الدول الدمج بين الوقاية والعلاج والعقوبة، بما يتناسب مع طبيعة مجتمعها. البرتغال، على سبيل المثال، اتخذت نهجا يرتكز على الإحالة إلى لجان دعم نفسي واجتماعي بدلا من الاكتفاء بالإجراءات القضائية. وفي آيسلندا، كانت الوقاية المبكرة عبر التعليم والنشاطات المجتمعية ركيزة رئيسية في تقليل نسب التعاطي بين الشباب. هذه التجارب لا تُعرض هنا للمقارنة، بل للاستئناس، ولمواصلة التفكير في ما يمكن أن نفعله نحن بما يتناسب مع واقعنا وقيمنا وتقاليدنا.
في البحرين، لله الحمد هناك جهود تبذل بالفعل من جهات متعددة، ونقدر ذلك، لكن التحدي يكمن في تعزيز التكامل بينها، وتوسيع نطاق المبادرات بما يتلاءم مع احتياجات الواقع المتغير.
وإن تأملنا في أبعاد هذه القضية، فلن نجد أنها إنسانية فقط، بل تحمل في طياتها أيضا أثرا اقتصاديا بالغا. فالتعامل مع قضايا التعاطي من زاوية العلاج والتأهيل، في الحالات التي يُمكن فيها ذلك، لا يُخفف فقط من الأعباء على المنظومة العدلية، بل يُجنب الدولة خسائر إضافية.
تكلفة الحبس – بما يشمله من تشغيل وسكن ورقابة– غالبا ما تفوق تكلفة العلاج المتخصص، الذي يُسهم بدوره في إعادة دمج الفرد كمساهم في الاقتصاد بدلا من أن يبقى عبئا عليه. بل إن إقصاء المتعافين من سوق العمل لا يخسرهم وحدهم، بل يُهدر طاقة كان من الممكن أن تتحول إلى إنتاج.
من هنا، يمكن التفكير في أدوات داعمة تُكمّل هذا التوجه دون أن تتعارض مع التشريعات، مثل مبادرات تُعرف بـ«برامج الفرصة الثانية»، تُطلقها بعض الجهات لتمكين المتعافين من العودة إلى سوق العمل ضمن بيئة احترافية آمنة، إلى جانب مراكز للدعم النفسي يسهل الوصول إليها في الأحياء السكنية، أو حتى تطبيقات ذكية تراعي الخصوصية وتُسهم في المتابعة والدعم بطرق مرنة ومبتكرة.
لسنا بحاجة إلى تقليص سلطة القانون، بل إلى تكامل الأدوار حوله، بحيث لا يقف وحده في وجه ظاهرة معقدة، بل يُسانده وعي مجتمعي، ونُضج مؤسسي، وحلول عملية متجددة.
نحن لا نقلل من خطر المؤثرات العقلية، ولا نطالب بتخفيف الرقابة أو العقوبة، لكننا ندعو إلى أن تكون المواجهة أوسع من النص، وأقرب إلى الإنسان.
لأن العدالة لا تكتمل حين يُغلق ملف القضية، بل حين يُفتح باب جديد لحياة يمكن أن تبدأ من جديد.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك