في مثل هذه الأيام، عندما أُعلنت نتائج الثانوية العامة، وجدتُ نفسي أعود بالذاكرة، إلى ذلك اليوم الذي كنتُ أنتظره بقلق وترقب، كانت لحظة مشحونة بمشاعر مختلطة: فرح، ارتباك، تساؤلات، وخوفٌ من القادم. كنت قلقة من الوقوف على أعتاب مرحلة جديدة، لم أكن أعرف عنها الكثير، إنها مرحلة الانتقال من المدرسة إلى الجامعة، تلك النقلة التي قد تبدو في ظاهرها تعليمية بحتة، لكنها في حقيقتها تحول جوهري في حياة الفرد.
في تلك الليلة، لم أستطع النوم. كانت عيني معلقة بسقف الغرفة، وذهني يطوف في دوائر مغلقة، رغم فرحتي بالنجاح، ورغم كل التهاني التي انهالت عليّ، لم أستطع أن أتجاهل ذلك الشعور العميق بالغموض، شعور كأنني على وشك القفز في حفره لا أعلم عمقها، لم أكن خائفة فقط من الدراسة الجامعية، بل من كل ما تمثله الجامعة من: المسؤولية، الحرية، الغربة النفسية، حينها تخيلتُ الجامعة مدينة ضخمة، أدخلها وحدي دون خريطة، دون دليل، دون مرشد يأخذ بيدي، تخيلتُ أنني أستعد لرحلة سفر طويلة قد تمتد أربع سنوات أو أكثر، إنها ليست رحلة سياحية قصيرة، ولا مغامرة عابرة، بل هي انتقال كامل إلى وجهة جديدة، إلى بلدٍ جديدٍ لا أعرف لغته ولا ثقافته، فكل ما أحمله حقيبةً ممتلئةً بالأسئلة الغامضة.
أن الرحلة قادمة لا محالة، فكلما اقترب موعد الرحلة، ازداد القلق والتوتر، فلا يكفي أن أُجهز جواز سفري أو أُحجز التذكرة، وإنما أنا مطالبة بالاستعداد لها نفسيًّا، بتعبئة حقيبة الوعي قبل أي حقيبة سفر، بقراءة كتيّبات الوجهة، وفهم ثقافتها، والتمرّن على لغتها الخاصة، ومعرفة القوانين التي تحكمها، والعادات التي تمارس فيها، لذا كنتُ أسأل نفسي كيف سيكون أول يوم دراسي؟ هل سأستطيع أن أتعرف على أصدقاء جدد؟ هل سيفهمني الأساتذة؟ هل سأكون قادرة على إثبات نفسي؟ كيف سأتصرف في المواقف المفاجئة؟ ماذا لو تهت في الحرم الجامعي، لا جسدًا، بل ذهنا؟ ماذا لو فشلت؟ هذه الأسئلة لم تكن مجرد هواجس عابرة، بل كانت صوتًا داخليًا يرافقني في كل لحظة، يكشف عن هشاشة الطالب المقبل على نقطة تحوّل، كأنه يختبر استعدادي لهذه الرحلة الجديدة. كنتُ أشعر أنني وحيدة، سأذهب إلى عالم جديد لا يشبه عالم المدرسة في شيء، تذكرتُ حينها كيف كانت المدرسة حضنًا دافئًا، محاطة بأسرة تعليمية لا تسمح لي بالضياع، كل شيء فيها آمنً، مرتب، مألوف، ذلك الوطن الصغير الذي يعرفني وأعرفه. كل شيء كان فيه واضحًا، من صوت الجرس إلى ملامح المعلمين، من الجدول اليومي إلى دفتر الواجبات. كنتُ أعلم تمامًا ما هو المطلوب مني، متى أذهب ومتى أعود، المعلم يعرف اسمي، يلاحظ غيابي، يهتم إن تغير مزاجي، يتواصل مع أسرتي إذا لاحظ أي خلل.
لكن في الجامعة؟ لا أحد يعرفني في البداية، ولا من ينتبه لي إن جلست في الخلف صامتة. كانت حرية الجامعة، في بدايتها عبئًا ثقيلًا على كتفيّ، لم أكن معتادة على هذا النوع من الحرية، لم أكن أعلم كيف أتعامل مع جدول محاضرات مفتوح، مع محاضرين لا يعرفونني، مع نظام يتوقع مني أن أفهمه من تلقاء نفسي، لأول مرة، أشعر أنني مطالبة بأن أكون راشدة بالكامل، أن أختار وأن أقرر، وأن أتحمل نتيجة اختياراتي، يا ترى من أكون في هذا العالم الجديد؟ مجرد رقم بين آلاف الطلبة، كل شيء في الجامعة بدا أكبر منّي، والمباني العديدة، والقاعات الواسعة، والمواقف المزدحمة، والوجوه الجديدة، كلها جعلتني أشعرُ بصغر حجمي.
إنها كانت المرة الأولى التي أختبر فيها شعور الغربة داخل الوطن، ولأن الغربة ليست مكانًا بقدر ما هي شعور، شعرت في بدايتي الجامعية أنني وحيدة، لا أحد يعرف قصتي، ولا أحد يعرف كيف كنتُ في المدرسة. بدأت أبحث عن صديقة تشبهني طباعًا، عن مساحة أتنفس فيها، عن أستاذ يعاملني كإنسانة لا كرقم، ورغم كل ذلك، بدأت أتعلم خطوة بخطوة، بدأت أتعرف على نفسي من جديد، اكتشفت أنني أستطيع أن أعتمد على نفسي، أن أواجه الخوف، أن أرتب أفكاري، أن أتخذ قراراتي، وأن أتحمل نتائجها. الجامعة جعلتني أكبر، أنضج وأتحمل أخطائي، صارت تلك الأسئلة التي أرّهقتني في البداية جزءًا من قصة نضوجي، لم أعد أهرب من المجهول، بل صرت أقترب منه، صرت أقرأ أكثر، أفكر أكثر، وأواجه أكثر. إنها ليست مجرد تحوّل تعليمي، هي رحلة انتقال من عالم الرعاية إلى عالم الاستقلال، من عالم الاعتياد إلى عالم التجريب، ومن عام التقليد إلى عالم المبادرة.
لكن بعد مرور فترة من الزمن وأنا على وشك الانتهاء من هذه الرحلة، توقفت أتأمل: «إنني لم أتعلم دراسة المواد فقط، بل تعلمت كيف أُدير نفسي، كيف أصبح أنا رقيب نفسي، وأقرب الناس إليها، وصاحب القرار في كل ما أفعل» هنا أدركت أن اللغة المنطوقة في الجامعة لم تعد وحدها كافية، بل ظهرت لغات أخرى فيها، يجب أن أتقن أنها: لغة الاستقلال، لغة الحوار، التعبير عن الذات، تحمّل العواقب، فهم الأنظمة، وبناء العلاقات. لم يعد بإمكاني أن أكون صامتة، أو أن أنتظر من يشرح لي كل شيء. أصبحتُ مسؤولة عن جدولي، عن حضوري، عن فهمي، وحتى عن مستقبلي.
إن رحلة الطالب من المدرسة إلى الجامعة هي رحلة سفر طويلة ولكنها ممتعة، قد تتعب في محطاتها الأولى، وقد لا تجد خريطة واضحة لهذا الطريق، لكنك ستصنع خريطتك بنفسك، ومع كل تجربة، تكتشف فيها مدينة جديدة داخلك، وموهبة لا تعرفها، فكرة لم تخطر على بالك، وصديق يصبح شقيق الروح، وفي نهاية كل فصل دراسي، تنظر إلى الوراء وتدرك أنك تقدمت خطوة.
نعم في هذه الرحلة خفت، بكيت كثيرًا، وترددت كثيرًا، لكنني تعلمت في النهاية أن تلك المشاعر كانت الوقود الذي دفعني للأمام، واليوم، حين أعود بذاكرتي للوراء، أبتسم بتفهمٍ وامتنان، وأقول لنفسي: «نعم، كان الخوف جزءًا من الرحلة، ولكنه لم يكن النهاية، وأن ما شعرت به حينها لم يكن ضعفًا، بل وعيًا بحجم المرحلة».
إنها رحلة لا تتوقف عند محطة الامتحانات والنتائج، بل تتجاوزها إلى محطات كثيرة: بناء الشخصية، صقل الفكر، وتوسيع الأفق، هذه الرحلة مليئة بالتحديات، لكنها لا تخلو من الجمال، الذي يكمن في تفاصيلها الصغيرة: في أول عرض تقديمي، في أول علامة مرتفعة تحصل عليها، في أول خيبة تتجاوزها، وفي أول لحظة تفتخر وتقول فيها بثقة: «لقد تغيرتُ... للأفضل في هذه الرحلة الممتعة».
{ عميدة شؤون الطلبة – جامعة البحرين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك