لقد حظيت الانتخابات التمهيدية الديمقراطية لرئاسة بلدية مدينة نيويورك، والتي أجريت يوم 24 يونيو 2025، باهتمام كبير وذلك نظرا للدور الكبير الذي تلعبه مدينة نيويورك في الحياة الأمريكية.
تعد نيويورك موطنًا لبعض الرموز الثقافية الأمريكية المميزة على غرار تمثال الحرية، ومبنى إمباير ستيت، ومركز التجارة العالمي، وتايمز سكوير، وبرودواي، ومسرح أبولو في هارلم.
وهي أيضًا المدينة الأكثر اكتظاظًا بالسكان والأكثر تعقيدًا ديموغرافيًا في الولايات المتحدة الأمريكية، مع أحياءها الخمسة الفريدة التي تتعايش بشكل مدهش في نفس الكيان السياسي.
تعاني مدينة نيويورك أيضًا من العديد من التحديات التي تواجه الولايات المتحدة الأمريكية، على نطاق واسع: الجريمة، والإسكان، والمخدرات، والهجرة، والتوترات العنصرية والإثنية، ومشاكل الشرطة، وارتفاع تكاليف المعيشة، والاستقطاب السياسي.
ومع ذلك، تظل مدينة نيويورك بمثابة المغناطيس الذي يستقطب مئات الآلاف من المهاجرين الجدد من جميع أنحاء العالم والشباب من مختلف أنحاء الولايات المتحدة للاستقرار هناك نظرا الى جاذبيتها وما توفره من فرص.
ورغم كل تعقيدات نيويورك ومشاكلها، من المدهش أن يرغب أي سياسي في تولي مهمة حكمها الشاقة. ومع ذلك، ها نحن ذا، في الانتخابات التمهيدية في نيويورك، حيث تنافس تسعة مرشحين رئيسيين على ترشيح الحزب الديمقراطي للانتخابات العامة في نوفمبر. إن الدلالات المتعددة التي حددت تلك المنافسة جعلتها أكثر إثارة للاهتمام.
من بين الديمقراطيين التسعة الرئيسيين المتنافسين على ترشيح حزبهم، كان هناك حاكم سابق، واثنان من المسؤولين المنتخبين على مستوى المدينة، ومسؤول سابق على مستوى المدينة، وأربعة أعضاء منتخبين في المجلس التشريعي للولاية كان من أبرزهم في هذه المرحلة الحاكم السابق أندرو كومو، ونائب الولاية زهران ممداني الذي حقق الفوز في نهاية المطاف.
شغل أندرو كومو، البالغ من العمر 67 عامًا، منصب حاكم الولاية مدة عشر سنوات حتى أُجبر على الاستقالة تحت سحابة من الاتهامات التي تتراوح من الطريقة الانتقامية التي تعامل بها مع الموظفين وغيرهم من المسؤولين، إلى الفساد، وسوء التعامل مع جائحة كورونا (كوفيد-19) في دور رعاية المسنين، والأهم من ذلك، اتهامات ذات مصداقية بالتحرش الجنسي من قبل اثنتي عشرة امرأة.
وقد حظي المرشح أندرو كومو بتأييد جزء كبير من المؤسسة الديمقراطية في ولاية نيويورك، كما حظي بدعم مالي من لجان العمل السياسي الممولة من المليارديرات والتي تنفق ملايين الدولارات نيابة عنه.
خاض أندرو كومو حملة تركز على خبرته ــ وهي سلاح ذو حدين ــ ويؤكد على نهجه الوسطي في السياسة، والذي يعتبر في هذه البيئة السياسية المستقطبة جذابا لبعض سكان نيويورك ومثيرا للانقسام بالنسبة لآخرين.
كان زهران ممداني الذي خرج فائزا يعتبر الخصم الرئيسي لأندرو كومو، وهو يبلغ من العمر 33 عامًا، ولم يمضِ على عضويته في المجلس التشريعي للولاية سوى أربع سنوات. ورغم صغر سنه وقلة خبرته، فإن أجندته التقدمية وأسلوبه الكاريزمي دفعاه إلى منافسة شديدة على الصدارة.
ترشح زهران ممداني بدعم من الاشتراكيين الديمقراطيين الأمريكيين ومنظمات يسارية أخرى في نيويورك، وقد جعلته حملته الشعبية رائدًا في جمع التبرعات الفردية، ووفرت له عددًا قياسيًا من المتطوعين.
ينتمي كلاهما إلى خلفيات عائلية مختلفة تمامًا، وإن كانت بارزة، ذلك أن أندرو كومو هو ابن الحاكم السابق ماريو كومو، وهو شخصية مرموقة في الجالية الإيطالية الأمريكية.
قبل ترشحه لمنصب حاكم الولاية، شغل أندرو كومو منصب رئيس موظفي والده و«مُدبّر شؤونه»، ثم تقلد منصب وزير الإسكان والتنمية الحضرية في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون.
أما زهران ممداني فهو أمريكي مسلم ينحدر من أصول هندية، وقد وُلد في أوغندا، وله والدان بارزان. فوالده محمود، مفكر تقدمي معروف عالميًا وأستاذ في جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة الأمريكية.
أما والدته، ميرا ناير، فهي مخرجة أفلام حائزة عدة جوائز مرموقة. هاجر زهران ممداني إلى الولايات المتحدة مع والديه في سن السابعة، وحصل على الجنسية الأمريكية عام 2018، وكان ناشطًا طلابيًا، وبعد تخرجه، أسهم بنشاط في عدد من القضايا والحملات التقدمية.
وبسبب نشاطه الفاعل وشخصيته المقنعة، فقد قارن البعض صعوده الصاروخي بصعود الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما.
قبل اعلان فوزه، أظهرت استطلاعات رأي مختلفة تقدم أندرو كومو. وبعيدًا عن المنافسة الشرسة، كشفت استطلاعات الرأي أيضًا عن قصة أخرى – قصة تُبرز بوضوح بعض الانقسامات التي يعاني منها الحزب الديمقراطي اليوم.
تقدم أندرو كومو بشكل حاسم بين الناخبين السود، والكاثوليك أو البروتستانت، وغير الحاصلين على تعليم جامعي، وأولئك الذين يتبنون آراء معتدلة أو محافظة، والأكثر فقرا، وكبار السن.
في حين تقدم زهران ممداني أو تعادل مع أندرو كومو بين الناخبين البيض واللاتينيين وخريجي الجامعات والأثرياء والليبراليين والأصغر سنا، كما تقدم بين واحدة من أكبر مجموعات الديمقراطيين في نيويورك: أولئك الذين ليس لديهم انتماء ديني.
ومن الجدير بالملاحظة أيضاً أنه على الرغم من أن أندرو كومو والمنظمات اليهودية المؤسسة جعلوا من رفض زهران ممداني اتخاذ خط مؤيد لإسرائيل قضية كبيرة، فقد تقدم بشكل أكبر من المتوقع على خصمه أندرو كومو في المنافسة على الأصوات اليهودية – وخاصة أن المرشح في المركز الثالث، بريان لاندر، وهو يهودي ومنتقد لإسرائيل أيضاً، قد «أيد» زهران ممداني في الانتخابات التمهيدية.
وكشفت استطلاعات الرأي عن نفس المشاكل التي يواجهها الديمقراطيون على المستوى الوطني، والانقسامات الموجودة بين مختلف المجموعات المكونة لائتلافهم: الشباب مقابل كبار السن، البيض مقابل غير البيض، المتدينون مقابل غير المتدينين، الحاصلون على تعليم جامعي والأكثر ثراء مقابل الطبقة العاملة.
وبما أن هذه الانتخابات تميزت بما يسمى «التصويت بالاختيار الترتيبي» –حيث اختار الناخبون أفضل خمسة مرشحين بالترتيب، ثم تم فرز الأصوات ووزنها بحسب التفضيل – فقد كانت النتيجة متقاربة للغاية بحيث كان من الصعب توقع مآلها.
وتمهيدًا لانتخابات شهر نوفمبر القادم، سيواجه المرشح الديمقراطي عمدة نيويورك الحالي، إريك آدامز، الذي يترشح كمستقل، وقد يشمل أيضًا المرشح الذي حل ثانيًا في الانتخابات التمهيدية، إذ يمكن لكل من أندرو كومو أو زهران ممداني الترشح ضمن قائمة حزب ثالث. إنها المرحلة الأخيرة في منافسة مثيرة.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك