في محاورةِ جورجياس يحاورُ سقراطُ ثلاثةً من كبارِ السفسطائيين: جورجياس وبولوس وكاليكليس عن فكرةِ العدالة ويطرحُ عليهم سؤالًا مثيرًا: «أيهما أقبح ارتكاب الظلم أم احتماله؟».
كان من رأي سقراط أن ارتكابَ الظلم أشدُّ قبحًا من احتماله وإنه لو خيِّر بين الاثنين لاختار دون تردد أن يتحملَ الظلم والامتناع عن ارتكابه وعندما فرغ من إفحام جورجياس وبولوس واجهه ثالثهم كاليكليس قائلًا: «الحق يا سقراط إنك وأنت تزعم هنا أنك تبحث عن الحقيقة تصدعنا بسفسطة منبرية عما هو قبيح في نظر الطبيعة وما هو جميل في نظر القانون.. والسر الذي اكتشفته يا سقراط وأنت تستخدمه بسوء نية هو أنه إذا تكلم أحدنا عن القانون سألته أنت عن الطبيعة وإذا تكلم معك عن الطبيعة سألته عن القانون!.. ففي الواقع أن ما هو الأكثر قبحًا من وجهة نظر الطبيعة هو دائمًا الأكثر ضررًا وهو تحمل الظلم بينما الأقبح تبعًا للقانون هو ارتكابه.. لكن الضعفاء والسواد الأعظم يا سقراط هم الذين سنوا القوانين».
لا يفتأ المرء يتذكر عبارات كاليكليس كلما دار الحديث عن القانون الدولي ومفاهيم الشرعية الدولية والنظام العالمي ومنظماته الدولية وعلى الأخص «الأمم المتحدة». كان من رأى كاليكليس أن «القوة هي القانون الأعلى». ولئن تمكن سقراط بعد ذلك من إفحام خصمه فإن الحجج التي أوردها كاليكليس لا تخلو من حجية في التفرقة التي عقدها بين منظوري الطبيعة والقانون. فالإنسان الهمجي يعيش بالطبيعة كحيوانات البراري حيث تكون الكلمة العليا فيها للقوة وحدها إذ لا محل للحديث عن القوانين والأخلاق في الأدغال.
أما إنسان الحضارة فهو ذلك الذي يؤمن بالقيم الأخلاقية والقانون وخاصة قيمتي المساواة والعدالة للجميع دون تفرقة بين قوي وضعيف ومن ثم تجسد رمز العدالة في شكل تمثال لآدمي أعمى ممسكًا بميزان لا يرى من يشغل كفتيه.
إننا لو تأملنا المجازر الوحشية التي ترتكبها إسرائيل يوميًا في غزة والضفة الغربية وإصرار رئيس وزرائها على إبادة الفلسطينيين عن بكرة أبيهم حتى لا يبقى لهم أثر في بلدهم المحتل دون اكتراث باستنكار العالم وإدانته لجرائمه ورغم ضغوط حلفائه الأوروبيين عليه لكي يسمح بوصول المساعدات الإنسانية للمدنيين لا نملك إلا إعادة التفكير في خطاب كاليكليس لسقراط. لماذا؟ لأن نتنياهو ما كان في الواقع ليجرؤ على مواصلة حرب الإبادة لولا أنه موقن بأن الأوروبيين أضعف من أن يقدموا على إيقافه. فالأوروبيون هم أنفسهم الذين منحوا اليهود حق احتلال فلسطين. فلا أحد منهم مثلا يجرؤ أن يطالبهم بالجلاء عن فلسطين وإنما أضعف الإيمان أن يطالبهم بحل الدولتين استنادا إلى نوع من المشروعية فالاتفاقية أقرها كرها ذات يوم «الأقوى» وليس إلى شرعية العدالة التي لا تعرفها حياة الغاب.
ورغم ما في حل الدولتين ذاته من إقرار وتسليم ضمني بالاحتلال الصهيوني لفلسطين فالأوروبيون وعتاة فقهائهم مصابون بعقدة ذنب قديمة تؤنبهم على تركهم اليهود يحترقون في أفران هتلر ولا ريب أن اللوبي اليهودي قد استغل عقدة الذنب هذه في دفع الأوروبيين على استصدار قانون يؤثم «العداء للسامية» لكي يؤمن يهود العالم ضد كل نقد يمسهم حتى ولو فاقوا النازي في فظائعه.
ورغم أن العالم يتوجع ألمًا عند مشاهدة تفاصيل الإبادة البشرية الممنهجة التي تمارسها إسرائيل على الأطفال والنساء والرجال وأطباء الإغاثة فهو يبدو عاجزا عن إيقافها ما دامت الكلمة العليا للأقوى.
إن القوى الغربية الساخطة على فظائع إسرائيل هي ذاتها التي استبعدت عن نفسها أي مسؤولية عن الحماية. ومهما بلغت الدعاوى المرفوعة ضد إسرائيل أو ضد قادتها أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية وردود الفعل السلبية التي أثارتها في عديد من القوى الغربية فهذه القوى لا تستطيع القبض على قادة إسرائيل وتسليمهم للمحاكم الدولية.
فرغم ادعاءاتها الليبرالية لا تزال فريسة بين مخالب اللوبي الصهيوني الذي يمسك بمفاصل السلطة فيها. إذ ما كاد الرئيس الفرنسي يعلن نيته –بعد تردد طويل– الاعتراف بالدولة الفلسطينية ويندد بحصار إسرائيل للمساعدات الإنسانية في غزة حتى هاجمه وزير الدفاع الإسرائيلي بصورة غير مسبوقة في شريط فيديو بقوله: «رسالة واضحة لماكرون وأصدقائه: ستعترفون بدولة فلسطينية على الورق، وهنا سنبني الدولة اليهودية على الأرض وسنلقي ورقتكم في مزبلة التاريخ وستزدهر دولة إسرائيل رغما عن أنوفكم».
{ أستاذ فلسفة اللغة والأدب الفرنسي بكلية الآداب – جامعة حلوان.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك