العدد : ١٧٢٦٧ - الأربعاء ٠٢ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٧ محرّم ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٢٦٧ - الأربعاء ٠٢ يوليو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٧ محرّم ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

العجز الأوروبي وعقدة الذنب التاريخية

بقلم: د. عصام عبدالفتاح

الثلاثاء ٠١ يوليو ٢٠٢٥ - 02:00

في‭ ‬محاورةِ‭ ‬جورجياس‭ ‬يحاورُ‭ ‬سقراطُ‭ ‬ثلاثةً‭ ‬من‭ ‬كبارِ‭ ‬السفسطائيين‭: ‬جورجياس‭ ‬وبولوس‭ ‬وكاليكليس‭ ‬عن‭ ‬فكرةِ‭ ‬العدالة‭ ‬ويطرحُ‭ ‬عليهم‭ ‬سؤالًا‭ ‬مثيرًا‭: ‬‮«‬أيهما‭ ‬أقبح‭ ‬ارتكاب‭ ‬الظلم‭ ‬أم‭ ‬احتماله؟‮»‬‭.‬

كان‭ ‬من‭ ‬رأي‭ ‬سقراط‭ ‬أن‭ ‬ارتكابَ‭ ‬الظلم‭ ‬أشدُّ‭ ‬قبحًا‭ ‬من‭ ‬احتماله‭ ‬وإنه‭ ‬لو‭ ‬خيِّر‭ ‬بين‭ ‬الاثنين‭ ‬لاختار‭ ‬دون‭ ‬تردد‭ ‬أن‭ ‬يتحملَ‭ ‬الظلم‭ ‬والامتناع‭ ‬عن‭ ‬ارتكابه‭ ‬وعندما‭ ‬فرغ‭ ‬من‭ ‬إفحام‭ ‬جورجياس‭ ‬وبولوس‭ ‬واجهه‭ ‬ثالثهم‭ ‬كاليكليس‭ ‬قائلًا‭: ‬‮«‬الحق‭ ‬يا‭ ‬سقراط‭ ‬إنك‭ ‬وأنت‭ ‬تزعم‭ ‬هنا‭ ‬أنك‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة‭ ‬تصدعنا‭ ‬بسفسطة‭ ‬منبرية‭ ‬عما‭ ‬هو‭ ‬قبيح‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬الطبيعة‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬جميل‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬القانون‭.. ‬والسر‭ ‬الذي‭ ‬اكتشفته‭ ‬يا‭ ‬سقراط‭ ‬وأنت‭ ‬تستخدمه‭ ‬بسوء‭ ‬نية‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬إذا‭ ‬تكلم‭ ‬أحدنا‭ ‬عن‭ ‬القانون‭ ‬سألته‭ ‬أنت‭ ‬عن‭ ‬الطبيعة‭ ‬وإذا‭ ‬تكلم‭ ‬معك‭ ‬عن‭ ‬الطبيعة‭ ‬سألته‭ ‬عن‭ ‬القانون‭!.. ‬ففي‭ ‬الواقع‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬الأكثر‭ ‬قبحًا‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬الطبيعة‭ ‬هو‭ ‬دائمًا‭ ‬الأكثر‭ ‬ضررًا‭ ‬وهو‭ ‬تحمل‭ ‬الظلم‭ ‬بينما‭ ‬الأقبح‭ ‬تبعًا‭ ‬للقانون‭ ‬هو‭ ‬ارتكابه‭.. ‬لكن‭ ‬الضعفاء‭ ‬والسواد‭ ‬الأعظم‭ ‬يا‭ ‬سقراط‭ ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬سنوا‭ ‬القوانين‮»‬‭.‬

لا‭ ‬يفتأ‭ ‬المرء‭ ‬يتذكر‭ ‬عبارات‭ ‬كاليكليس‭ ‬كلما‭ ‬دار‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬القانون‭ ‬الدولي‭ ‬ومفاهيم‭ ‬الشرعية‭ ‬الدولية‭ ‬والنظام‭ ‬العالمي‭ ‬ومنظماته‭ ‬الدولية‭ ‬وعلى‭ ‬الأخص‭ ‬‮«‬الأمم‭ ‬المتحدة‮»‬‭. ‬كان‭ ‬من‭ ‬رأى‭ ‬كاليكليس‭ ‬أن‭ ‬‮«‬القوة‭ ‬هي‭ ‬القانون‭ ‬الأعلى‮»‬‭. ‬ولئن‭ ‬تمكن‭ ‬سقراط‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬إفحام‭ ‬خصمه‭ ‬فإن‭ ‬الحجج‭ ‬التي‭ ‬أوردها‭ ‬كاليكليس‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬حجية‭ ‬في‭ ‬التفرقة‭ ‬التي‭ ‬عقدها‭ ‬بين‭ ‬منظوري‭ ‬الطبيعة‭ ‬والقانون‭. ‬فالإنسان‭ ‬الهمجي‭ ‬يعيش‭ ‬بالطبيعة‭ ‬كحيوانات‭ ‬البراري‭ ‬حيث‭ ‬تكون‭ ‬الكلمة‭ ‬العليا‭ ‬فيها‭ ‬للقوة‭ ‬وحدها‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬محل‭ ‬للحديث‭ ‬عن‭ ‬القوانين‭ ‬والأخلاق‭ ‬في‭ ‬الأدغال‭. ‬

أما‭ ‬إنسان‭ ‬الحضارة‭ ‬فهو‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬يؤمن‭ ‬بالقيم‭ ‬الأخلاقية‭ ‬والقانون‭ ‬وخاصة‭ ‬قيمتي‭ ‬المساواة‭ ‬والعدالة‭ ‬للجميع‭ ‬دون‭ ‬تفرقة‭ ‬بين‭ ‬قوي‭ ‬وضعيف‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬تجسد‭ ‬رمز‭ ‬العدالة‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬تمثال‭ ‬لآدمي‭ ‬أعمى‭ ‬ممسكًا‭ ‬بميزان‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬من‭ ‬يشغل‭ ‬كفتيه‭.‬

إننا‭ ‬لو‭ ‬تأملنا‭ ‬المجازر‭ ‬الوحشية‭ ‬التي‭ ‬ترتكبها‭ ‬إسرائيل‭ ‬يوميًا‭ ‬في‭ ‬غزة‭ ‬والضفة‭ ‬الغربية‭ ‬وإصرار‭ ‬رئيس‭ ‬وزرائها‭ ‬على‭ ‬إبادة‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬عن‭ ‬بكرة‭ ‬أبيهم‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يبقى‭ ‬لهم‭ ‬أثر‭ ‬في‭ ‬بلدهم‭ ‬المحتل‭ ‬دون‭ ‬اكتراث‭ ‬باستنكار‭ ‬العالم‭ ‬وإدانته‭ ‬لجرائمه‭ ‬ورغم‭ ‬ضغوط‭ ‬حلفائه‭ ‬الأوروبيين‭ ‬عليه‭ ‬لكي‭ ‬يسمح‭ ‬بوصول‭ ‬المساعدات‭ ‬الإنسانية‭ ‬للمدنيين‭ ‬لا‭ ‬نملك‭ ‬إلا‭ ‬إعادة‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬خطاب‭ ‬كاليكليس‭ ‬لسقراط‭. ‬لماذا؟‭ ‬لأن‭ ‬نتنياهو‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬ليجرؤ‭ ‬على‭ ‬مواصلة‭ ‬حرب‭ ‬الإبادة‭ ‬لولا‭ ‬أنه‭ ‬موقن‭ ‬بأن‭ ‬الأوروبيين‭ ‬أضعف‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يقدموا‭ ‬على‭ ‬إيقافه‭. ‬فالأوروبيون‭ ‬هم‭ ‬أنفسهم‭ ‬الذين‭ ‬منحوا‭ ‬اليهود‭ ‬حق‭ ‬احتلال‭ ‬فلسطين‭. ‬فلا‭ ‬أحد‭ ‬منهم‭ ‬مثلا‭ ‬يجرؤ‭ ‬أن‭ ‬يطالبهم‭ ‬بالجلاء‭ ‬عن‭ ‬فلسطين‭ ‬وإنما‭ ‬أضعف‭ ‬الإيمان‭ ‬أن‭ ‬يطالبهم‭ ‬بحل‭ ‬الدولتين‭ ‬استنادا‭ ‬إلى‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬المشروعية‭ ‬فالاتفاقية‭ ‬أقرها‭ ‬كرها‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬‮«‬الأقوى‮»‬‭ ‬وليس‭ ‬إلى‭ ‬شرعية‭ ‬العدالة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تعرفها‭ ‬حياة‭ ‬الغاب‭.‬

ورغم‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬حل‭ ‬الدولتين‭ ‬ذاته‭ ‬من‭ ‬إقرار‭ ‬وتسليم‭ ‬ضمني‭ ‬بالاحتلال‭ ‬الصهيوني‭ ‬لفلسطين‭ ‬فالأوروبيون‭ ‬وعتاة‭ ‬فقهائهم‭ ‬مصابون‭ ‬بعقدة‭ ‬ذنب‭ ‬قديمة‭ ‬تؤنبهم‭ ‬على‭ ‬تركهم‭ ‬اليهود‭ ‬يحترقون‭ ‬في‭ ‬أفران‭ ‬هتلر‭ ‬ولا‭ ‬ريب‭ ‬أن‭ ‬اللوبي‭ ‬اليهودي‭ ‬قد‭ ‬استغل‭ ‬عقدة‭ ‬الذنب‭ ‬هذه‭ ‬في‭ ‬دفع‭ ‬الأوروبيين‭ ‬على‭ ‬استصدار‭ ‬قانون‭ ‬يؤثم‭ ‬‮«‬العداء‭ ‬للسامية‮»‬‭ ‬لكي‭ ‬يؤمن‭ ‬يهود‭ ‬العالم‭ ‬ضد‭ ‬كل‭ ‬نقد‭ ‬يمسهم‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬فاقوا‭ ‬النازي‭ ‬في‭ ‬فظائعه‭.‬

ورغم‭ ‬أن‭ ‬العالم‭ ‬يتوجع‭ ‬ألمًا‭ ‬عند‭ ‬مشاهدة‭ ‬تفاصيل‭ ‬الإبادة‭ ‬البشرية‭ ‬الممنهجة‭ ‬التي‭ ‬تمارسها‭ ‬إسرائيل‭ ‬على‭ ‬الأطفال‭ ‬والنساء‭ ‬والرجال‭ ‬وأطباء‭ ‬الإغاثة‭ ‬فهو‭ ‬يبدو‭ ‬عاجزا‭ ‬عن‭ ‬إيقافها‭ ‬ما‭ ‬دامت‭ ‬الكلمة‭ ‬العليا‭ ‬للأقوى‭. ‬

إن‭ ‬القوى‭ ‬الغربية‭ ‬الساخطة‭ ‬على‭ ‬فظائع‭ ‬إسرائيل‭ ‬هي‭ ‬ذاتها‭ ‬التي‭ ‬استبعدت‭ ‬عن‭ ‬نفسها‭ ‬أي‭ ‬مسؤولية‭ ‬عن‭ ‬الحماية‭. ‬ومهما‭ ‬بلغت‭ ‬الدعاوى‭ ‬المرفوعة‭ ‬ضد‭ ‬إسرائيل‭ ‬أو‭ ‬ضد‭ ‬قادتها‭ ‬أمام‭ ‬محكمة‭ ‬العدل‭ ‬الدولية‭ ‬والمحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية‭ ‬وردود‭ ‬الفعل‭ ‬السلبية‭ ‬التي‭ ‬أثارتها‭ ‬في‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬القوى‭ ‬الغربية‭ ‬فهذه‭ ‬القوى‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬القبض‭ ‬على‭ ‬قادة‭ ‬إسرائيل‭ ‬وتسليمهم‭ ‬للمحاكم‭ ‬الدولية‭.‬

فرغم‭ ‬ادعاءاتها‭ ‬الليبرالية‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬فريسة‭ ‬بين‭ ‬مخالب‭ ‬اللوبي‭ ‬الصهيوني‭ ‬الذي‭ ‬يمسك‭ ‬بمفاصل‭ ‬السلطة‭ ‬فيها‭. ‬إذ‭ ‬ما‭ ‬كاد‭ ‬الرئيس‭ ‬الفرنسي‭ ‬يعلن‭ ‬نيته‭ ‬بعد‭ ‬تردد‭ ‬طويل‭ ‬الاعتراف‭ ‬بالدولة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬ويندد‭ ‬بحصار‭ ‬إسرائيل‭ ‬للمساعدات‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬غزة‭ ‬حتى‭ ‬هاجمه‭ ‬وزير‭ ‬الدفاع‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬بصورة‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭ ‬في‭ ‬شريط‭ ‬فيديو‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬رسالة‭ ‬واضحة‭ ‬لماكرون‭ ‬وأصدقائه‭: ‬ستعترفون‭ ‬بدولة‭ ‬فلسطينية‭ ‬على‭ ‬الورق،‭ ‬وهنا‭ ‬سنبني‭ ‬الدولة‭ ‬اليهودية‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬وسنلقي‭ ‬ورقتكم‭ ‬في‭ ‬مزبلة‭ ‬التاريخ‭ ‬وستزدهر‭ ‬دولة‭ ‬إسرائيل‭ ‬رغما‭ ‬عن‭ ‬أنوفكم‮»‬‭.‬

 

{‭ ‬أستاذ‭ ‬فلسفة‭ ‬اللغة‭ ‬والأدب‭ ‬الفرنسي ‭ ‬بكلية‭ ‬الآداب‭ ‬‭ ‬جامعة‭ ‬حلوان‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا