مع اقتراب عام 2030 تزداد التساؤلات حول ملامح النظام الدولي في العقد القادم. شهد العقد الماضي تغيرات متسارعة مثل صعود قوى اقتصادية كبرى مثل الصين والهند، وتحديات جديدة كتغير المناخ، وثورة تقنية مذهلة كظهور الذكاء الاصطناعي. تدفع هذه العوامل للتفكير في سيناريوهات متعددة لمستقبل النظام الدولي. هل سيبقى عالمنا تحت هيمنة قطب واحد؟ أم سيبرز نظام ثنائي تقوم فيه منافسة بين قوتين كبيرتين؟ أو يتحول النظام إلى تعددية حقيقية بين عدة مراكز قوة؟ أو ربما ينحدر النظام الدولي إلى فوضى عالمية بسبب تصاعد الانقسامات؟
في هذا السياق، سنحاول تقديم تحليل محايد لهذه الاحتمالات المستقبلية. سنتناول العوامل الجيوسياسية والاقتصادية والتكنولوجية وراء كل سيناريو، مع تحديد شروط تحققها وتداعياتها على المستوى العالمي والإقليمي، مع التركيز على انعكاسات كل مسار على المنطقة العربية.
استمرار القطبية الأحادية
في هذا السيناريو، تستمر هيمنة قوة عالمية واحدة، وعادة ما يُنظر إلى الولايات المتحدة الأمريكية كالقوة الأوفر حظاً للحفاظ على الصدارة. يرتبط تحقق هذا السيناريو بمواصلة التفوق الاقتصادي والتكنولوجي للقطب المهيمن. اقتصاديّاً، إذا واصلت الولايات المتحدة نموّها واستثماراتها الضخمة في تقنيات المستقبل مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمّية، فقد تعزز موقعها وتتفوق على منافسيها. تقنيّاً، ستظل قواعدها البحثية المتقدمة وصناعاتها عالية التقنية دعامة لقدرتها على السيطرة، وستوسع نفوذها عبر شبكات اتصال دولية وبنى تحتية رقمية متطورة.
جيوسياسيا، قد تواصل الولايات المتحدة بناء تحالفات عسكرية وتجارية حول قواعدها ومصالحها. يبقى الحلف الغربي مسؤولاً عن الأمن والتنسيق الاقتصادي، ويظل النظام المالي العالمي معتمداً على الدولار الأمريكي. في الشرق الأوسط، قد تستفيد بعض دول الخليج والشام من الدعم الأمريكي في ملفاتها الأمنية، مما يوفر استقراراً نسبياً في بعض المناطق، بينما تنوع دول أخرى تحالفاتها تحسّباً لتحولات القوة. بوجه عام، يوفر هذا السيناريو قدراً من الاستقرار للنظام الدولي بينما يبقى تسيد قوة واحدة واضحاً.
تترتب على استمرار القطبية الأحادية فوائدٌ من قبيل وجود قيادة واضحة للأزمات العالمية وتنسيق محكم بين الحلفاء ضمن إطار مؤسسي ثابت. أما السلبيات فتتمثل في شعور متزايد لدى القوى الصاعدة والحلفاء التقليديين بالإقصاء والتهميش، مما قد يولِّد تشككاً ومنافسة تحت السطح. وقد ينجم عن ذلك، على المدى البعيد، محاولات لإضعاف المركز الواحد للنظام وتقليص هيمنته، إضافة إلى تصاعد التناقضات بين مطالب العدالة الدولية ومصالح القوة المهيمنة.
ظهور النظام ثنائي الأقطاب
يشير هذا السيناريو إلى انقسام عالمي بين قطبين متنافسين، وقد يتجسد ذلك في مواجهة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين. يعتمد تحقق هذا السيناريو على موازنة قوى هاتين العظميين دون حسم قاطع للصراع بينهما. اقتصاديّاً، قد يستمر النمو الصيني بوتيرة سريعة وانتشار استثماراته في آسيا وأفريقيا، بينما تبقي الولايات المتحدة سيطرتها على المؤسسات المالية الدولية واحتياطي الدولار.
يؤدي ذلك إلى تجزئة في الاقتصاد العالمي؛ فقد ينشأ تحالف غربي يعتمد على الدولار، في حين يقود المحور الآخر شبكة تحالفاته التجارية الخاصة به. تقنيّاً، تسعى كل قوة لتعزيز قدراتها السيبرانية وحماية بنيتها المعلوماتية من التهديدات، مما قد يؤدي إلى انفصال في معايير الاتصالات والأمن الرقمي بين المعسكرين.
جيوسياسياً، تتشكل تحالفات عسكرية وصراعات بالوكالة. فإلى جانب تحالفات أمريكا التقليدية (الناتو وحلفائها في آسيا)، تقيم الصين تحالفاتها الخاصة مع روسيا ودول آسيوية صاعدة. يعزز هذا التنافس التوتر في المناطق الساخنة؛ فقد تتصاعد حدة النزاع حول مضيق تايوان وجزر بحر الصين الجنوبي، وربما يتحول الشرق الأوسط إلى ساحة لتوازن قوى جديد، حيث تستفيد بعض دوله من الدعم الأمريكي بينما تتوجه دول أخرى نحو التعاون الصيني أو الروسي. عمومًا، يوفر هذا الترتيب قطبين واضحين في النظام الدولي، ينشئ كل منهما نظام حلفائه ومعاييره الاقتصادية الخاصة.
تنطوي تداعيات هذا السيناريو على صراع نشط بين كتلتين واضحتين. فسيدعم كل من القطبين حلفاءه تكنولوجياً واقتصادياً، بينما يتضاءل التعاون الدولي بسبب الانقسام؛ فقد تُدار الأزمات العالمية في إطارين منفصلين عوضاً عن إدارة موحدة. كما قد يؤدي تسارع سباق التسلح التكنولوجي والعسكري إلى زيادة احتمالات التصعيد. ومع ذلك، إذا نجح الطرفان في الحفاظ على توازن الردع بينهما، فقد يوفر هذا السيناريو شكلاً من الاستقرار النسبي القائم على مبدأ الردع المتبادل.
عالم متعدد الأقطاب
في هذا السيناريو، لا تسيطر قوة وحيدة على العالم، بل تتشارك عدة قوى كبرى في قيادة النظام الدولي. قد يتحقق هذا المشهد إذا شهدت الولايات المتحدة تراجعاً نسبياً في نفوذها، واستمر صعود الصين والهند، وتقدم الاتحاد الأوروبي الموحد، فضلاً عن دور فاعل لكل من روسيا والبرازيل ودول خليجية. اقتصادياً، ينتظم العالم عبر شبكات تجارة واستثمارات متعددة الأطراف؛ فلا يهيمن تكتل واحد على النظام الاقتصادي أو العملة العالمية. فقد تنسق مجموعات مثل «بريكس» وتكتلات إقليمية أخرى سياساتها المشتركة، بينما تستفيد دول أخرى من الفرص المفتوحة في الأسواق العالمية. تقنياً، قد يشهد العالم تعاوناً أوسع في بعض التقنيات الناشئة كالحوسبة الكمية والذكاء الاصطناعي، مع تفاوت في سرعة انتشارها بين المناطق.
جيوسياسياً، تشكل الشراكات المتعددة ركيزة أساسية. فقد تستمر الدول الكبرى في تحالفاتها التقليدية بمرونة، في حين تنشأ تحالفات جديدة حول مصالح محددة. يشهد النظام تفاوضاً معقداً بين دول لا تعترف بسيطرة مطلقة لطرف واحد؛ فقد تنضم عدة دول لاستثمار مشترك في مشاريع ضخمة عبر القارات أو تطوير بنى تحتية دولية، ما يجمع مصالحها دون إخضاع كامل لأي قوة. عمومًا، يصبح العالم ساحة تفاوض دائم حيث يحكم التنسيق المشترك السياسة الدولية أكثر من إرادة منفردة.
قد تتيح تعددية الأقطاب مساحة أكبر للمناورة للدول الصغيرة والمتوسطة، إذ تستفيد من التوازن بين القوى لتعظيم مصالحها. كما يدفع هذا النظام الأطراف الفاعلة إلى تبادل وجهات النظر حول القضايا العالمية المشتركة؛ فتحديات مثل التغير المناخي والأمن الصحي تتطلب مشاركة واسعة من دول عديدة. من جهة أخرى، يطرح هذا النظام تحدياً في التنسيق؛ فقد يمتد الوقت اللازم للتوصل إلى توافق حول قضية كبرى، وقد تغلب الحسابات الوطنية على المصلحة العامة. ومع ذلك، إذا نجحت القوى الكبرى في بناء آليات تعاون دائمة، فقد يوفر هذا السيناريو توازناً نسبياً لإدارة القضايا الدولية الكبرى بروح شراكة أوسع مقارنة بأي نموذج أحادي القطبية.
وختامًا، تظل ملامح النظام الدولي عام 2030 غامضة وغير محسومة، فقد يجمع المستقبل جوانب من أكثر من سيناريو. فقد تحافظ بعض الدول على هيمنة نسبية أو تشكل تحالفات جديدة، بينما يقوم التعاون الدولي على شبكات متعددة الأطراف. وتلعب العوامل الاقتصادية والتكنولوجية دوراً حاسماً في هذا المزيج؛ فالاستثمارات في الابتكار والبنية التحتية قد تعيد رسم موازين النفوذ، فيما يختبر العالم درجة التكيف مع تحديات الألفية الجديدة.
المهم أن يسعى صانعو القرار اليوم إلى قراءة هذه الاحتمالات بعين موضوعية، مع إضفاء قدر من المرونة على السياسات والتخطيط. فالمخاطر الكبرى تنبع من الجمود أمام المتغيرات أو في اندلاع مواجهة صريحة بين القوى، بينما تتيح روح التعاون والتكنولوجيا الجديدة فرصاً لتنمية مشتركة واستقرار أكبر. يبدو إذن أن مفتاح استقرار النظام الدولي في 2030 يكمن في مدى قدرة الدول على التفاوض والتكيف بمرونة مع واقع معقد، بدلاً من التمسك بتصورٍ واحد جامد للمستقبل.
وبناءً عليه، فالتاريخ لا يُعاد، بل يُعاد تشكيله؛ فالعالم في طريقه إلى نظام دولي جديد ليس أحاديًا بالضرورة، ولا فوضويًا بالكامل، بل أقرب إلى لوحة فسيفساء من القوى والأولويات والمصالح. ومع أن المستقبل لا يمكن التنبؤ به بدقة، إلا أن استشرافه ضرورة ملحة لتجنب تكرار كوارث الماضي، والتأسيس لعالم أكثر توازنًا وشمولاً.
{ أستاذ مساعد بقسم العلوم
الاجتماعية – جامعة البحرين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك