حذّر «لويجي سكازييري»، من «مركز الإصلاح الأوروبي»، في أكتوبر 2024، من أن أوروبا أصبحت «مجرد متفرج، إزاء انهيار متسارع في الشرق الأوسط»، من خلال تقاعسها أمام جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني في غزة، وإذعانها لمطالب حكومة «نتنياهو»، الائتلافية المتطرفة، وخنوعها لسياسات الولايات المتحدة، التي كانت تقودها -آنذاك- إدارة جو بايدن الديمقراطية المترددة وغير الفعالة.
ومؤخرًا، أسهم الأداء الضعيف الذي أبداه قادة كل من بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، والاتحاد الأوروبي خلال الحرب التي استمرت 12 يومًا بين «إسرائيل»، و«الولايات المتحدة» من جهة، وإيران من جهة أخرى، في تكريس التراجع الحاد في نفوذ أوروبا وتأثيرها في المنطقة، الأمر الذي دفع «أنشال فوهرا»، في مجلة «فورين أفيرز»، إلى الاستنتاج بأنها أصبحت «غير ذات صلة بالشرق الأوسط الجديد»، في ظل تجاهل واضح لدعواتها المتكررة لضبط النفس من قبل كل الأطراف المتحاربة.
وكما سارع القادة في لندن، وباريس، وبرلين، وبروكسل إلى تجاهل تعهداتهم بشأن دعم القانون الدولي، وحقوق الإنسان في مواجهة الجرائم الإسرائيلية في غزة، فقد أدت الضربات الإسرائيلية والأمريكية ضد المنشآت النووية الإيرانية إلى دفع صانعي القرار الأوروبيين للتراجع عن مواقفهم التقليدية تجاه برنامج إيران النووي؛ حيث لم يعودوا يعترفون بحقها في امتلاك برنامج نووي مدني، بل باتوا يطالبون بوقف كامل لعمليات التخصيب، مجاراةً للمواقف التي تتبناها كل من إسرائيل وأمريكا.
وفي تحليلها لأسباب هذه الإخفاقات، شددت «فوهرا» على ما وصفته بـ«التقاعس المُخزي»، الذي أبداه القادة الأوروبيون في استجابتهم واستراتيجياتهم حيال تطورات الشرق الأوسط. ورغم إشارتها إلى غياب واضح لـ«التفكير الدبلوماسي الإبداعي»، الذي ميّز وزراء خارجية أكثر كفاءة في فترات سابقة، فقد أكدت أن مواطن الضعف الأخلاقية والسياسية الأوسع لدى رئيس الوزراء البريطاني، السير كير ستارمر، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني فريدريش ميرتس -إلى جانب وزراء خارجيتهم- لا تكفي وحدها لتفسير تجاهل الإسرائيليين والأمريكيين لدعواتهم، أو انعدام ثقة الإيرانيين في قدرتهم على إحداث تأثير دبلوماسي فعّال.
وأكدت السياسات الأخيرة للدول الأوروبية تجاه المنطقة، افتقارها قوة الإرادة المستقلة للمضي قدمًا في سياسات منفصلة عن سياسات إسرائيل والولايات المتحدة. وردًا على مذكرات الاعتقال التي أصدرتها «المحكمة الجنائية الدولية»، بحق «نتنياهو»، ووزير دفاعه السابق، «يوآف غالانت»، رفضت العديد من هذه الدول دعم مساعي تحقيق العدالة، وزعمت «فرنسا»، تمتع «نتنياهو»، بالحماية من الملاحقة القضائية بموجب الحصانة الدبلوماسية، بل وقامت ألمانيا بدعوته لزيارتها، وأصرت على توافر «سبل ووسائل» لتجنب وضعها -كدولة موقعة على نظام روما الأساسي- الالتزام باعتقاله واحتجازه وتسليمه إلى «لاهاي»، لمحاكمته كمجرم حرب.
علاوة على ذلك، تثبت القرارات الأخيرة لحكومة «ستارمر»، التزامها الصريح بتعزيز مصالح إسرائيل، على الرغم من رفض غالبية البريطانيين لقصف غزة واحتلالها. وعلى الرغم من دعوة الخبراء القانونيين والسياسيين والوزراء السابقين والحقوقيين لوزير الخارجية، «ديفيد لامي»، إلى فرض عقوبات مباشرة تتعلق بتدمير غزة، بما في ذلك وقف عمليات نقل الأسلحة، إلا أن الحكومة طالبت موظفي وزارة الخارجية المعارضين لسياستها بالاستقالة، فيما تسعى لتصنيف حركة «فلسطين أكشن» كجماعة إرهابية، وهو ما حذّرت منه «أكيكو هارت»، من منظمة «ليبرتي»، مشيرة إلى «التأثير الكبير»، الذي قد يُخلّفه هذا التصنيف على آلاف النشطاء المؤيدين للقضية الفلسطينية، الذين سيتعرضون للملاحقة القضائية والسجن، لمجرد تعبيرهم عن رفضهم لجرائم حرب موثقة ارتكبتها إسرائيل، بما في ذلك جرائم الإبادة الجماعية.
وأوروبيًا، ورغم اعتراف «دائرة العمل الخارجي» في الاتحاد الأوروبي، في قرار صدر في يونيو 2025، بأن الانتهاكات الإسرائيلية بحق المدنيين في غزة، تمثّل انتهاكًا صريحًا للمادة «2» من اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، والتي تنص على احترام حقوق الإنسان كشرط أساسي للتعاون؛ فإن الاتحاد المكون من 27 دولة لم يصدر عنه أي إجراء موحد ضدها بعد.
وعلى الرغم من إشارة مجلة «بوليتيكو»، إلى وجود «مجموعة من الدول الأوروبية»، «تدفع باتجاه اتخاذ إجراء»، ضد إسرائيل؛ فقد قدمت إسبانيا، وبلجيكا، وفنلندا، وأيرلندا، وبولندا، والبرتغال، وسلوفينيا، والسويد، ولوكسمبورج، طلبًا مشتركًا إلى «المفوضية الأوروبية»، لتدارس كيفية «مواءمة تجارة القارة مع إسرائيل بما يتماهى مع القانون الدولي». وقد أبدت «فوهرا»، أسفها لانتفاء «الإجماع» الأوروبي؛ حيث لم تُبدِ القوتان الاقتصاديتان والسياسيتان الأبرز في الاتحاد -فرنسا وألمانيا- أدنى اهتمام بتعليق اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل.
وبالفعل، بدا أثر هذا التقاعس واضحًا في تجاهل إسرائيل وإيران للدور الأوروبي خلال حربهما. وفي أعقاب الضربات الأمريكية على إيران في 22 يونيو، دعا أعضاء «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية» -ومن بينهم شخصيات أجنبية بارزة من بريطانيا والسويد وبولندا وفرنسا- صناع القرار الأوروبي إلى «الضغط من أجل احتواء عسكري سريع للوضع»، قبل أن يتطور إلى «حرب إقليمية أوسع»، مع توضيح أن أوروبا «لن تشارك في أي حملة عسكرية هجومية ضد إيران»، داعين إلى «حشد القنوات الدبلوماسية مع جميع الأطراف للدفع نحو استراتيجية مستدامة»، بشأن البرنامج النووي الإيراني، وتقديم «استراتيجية دبلوماسية واقعية في مطالبها لإيران. ورغم هذه الدعوات، لم يُحرز أي تقدم يُذكر في أي من هذه المسارات، بسبب فقدان بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، والاتحاد الأوروبي، لنفوذها على الفاعلين الإقليميين والولايات المتحدة.
وفي ظل هذه الأزمة، عبّر «كورنيليوس أديبار»، من «مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي»، عن اعتقاده أنه «لم يكن من الممكن أبدًا» للرئيس الأمريكي «ترامب»، التعاون أو الاعتماد على الحكومات الأوروبية؛ لأنه «يعتقد أنه أفضل منها». وبينما نسّقت «واشنطن»، بشكل وثيق مع إسرائيل، لشن الضربات الجوية، لم تُتح لأوروبا أي فرصة للمشاركة.
وفي إشارة إلى هذا التهميش، انسحب «ترامب»، من اجتماع قادة «مجموعة السبع»، في كندا مبكرًا، ثم هاجم الرئيس الفرنسي «ماكرون»، واصفًا إياه بأنه «دائم الخطأ»، بعدما صرّح لوسائل الإعلام العالمية، بأن ترامب عاد إلى واشنطن؛ بهدف التفاوض على وقف إطلاق النار. وبعد يومين فقط من إصدار أمره بشن الغارات الجوية، أكد «ترامب»، أنه سيكون «صانع السلام» في الشرق الأوسط، مشددًا على أن أوروبا «لن تكون قادرة على المساعدة» في إنهاء هذا النزاع.
وبما أن «الولايات المتحدة»، و«إسرائيل»، لا تُعيران أهمية واضحة لمواقف القادة الأوروبيين، حيث أشارت وكالة «رويترز»، إلى أن حكومات بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، والاتحاد الأوروبي، لم يتم إبلاغها مسبقًا بتوقيت الهجمات الأمريكية على المنشآت النووية الإيرانية في «نطنز»، و«أصفهان»، و«فوردو»؛ فإن فاعلية الوساطة الأوروبية مع إيران باتت محدودة للغاية.
وبعد أن ظلت «فوهرا»، متمسكة سابقًا بشروط «الاتفاق النووي الإيراني» لعام 2015 وحق إيران في تخصيب اليورانيوم بمستويات منخفضة لأغراض مدنية، أشارت إلى أن الضغوط الأمريكية والإسرائيلية أدت مؤخرًا إلى التخلي عن هذا الموقف. وفي اجتماع عُقد يوم 21 يونيو بجنيف بين كبار الدبلوماسيين الأوروبيين ووزير الخارجية الإيراني؛ اعتبر «ماكرون»، أنه «من الضروري للغاية»، أن تكون «أولوية المفاوضات المستقبلية»، هي «صفر تخصيب نووي» من جانب إيران. وكما أوضح «علي فايز»، من «مجموعة الأزمات الدولية»، فإن أوروبا لم تكن تتبنى سياسة «التخصيب الصفري»، حتى قبل أسبوع من الضربات، لكن بعد الهجمات الأمريكية والإسرائيلية «باتت تتبناها الآن»، الأمر الذي «يُثبت أن الأوروبيين ليسوا سوى تابعين للولايات المتحدة».
وأمام هذا المشهد، أوضح «جيمس أكتون»، من «مؤسسة كارنيغي»، أن «احتمالات الدبلوماسية الفعالة» لاحتواء الطموحات النووية الإيرانية المستقبلية «ضئيلة أو معدومة»، ما يعني أن الدور الأوروبي المحدود في إدارة أزمة البرنامج النووي الإيراني، قد تم تقويضه تمامًا. وعليه، خلص «ديفيد خلفا»، من «منتدى الشرق الأوسط»، إلى أن «المحاولة الأوروبية»، لإنهاء برنامج إيران النووي من خلال الدبلوماسية «انتهت بالفشل في نهاية المطاف».
غير أن هذا الفشل قد لا يُعدّ مخيبًا تمامًا لتطلعات بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، والاتحاد الأوروبي، خصوصًا في ظل تصريحات «ميرز» بتاريخ 17 يونيو، التي اتهم فيها إسرائيل بالقيام بـ«عمل قذر»، نيابةً عن الغرب عبر قصفها لإيران، وهو ما يُشير إلى ما هو أكثر من مجرد تواطؤ صامت، بل دعم فعلي من العواصم الغربية لتلك الهجمات. ويُمثل هذا الموقف استمرارًا لدعم استمر لـ21 شهرًا للهجمات الإسرائيلية في أنحاء الشرق الأوسط، بدءًا من الأراضي الفلسطينية المحتلة وغزة، وصولًا إلى إيران.
وبشكل واضح، أظهر استطلاع أجرته مؤسسة «يوجوف»، أن الرأي العام الأوروبي، يُعارض استمرار دعم حكوماته لإسرائيل، وسياساتها تجاه الفلسطينيين، حيث تراجعت شعبية إسرائيل في أوروبا بشكل حاد منذ أكتوبر 2023 إلى (-46) في بريطانيا، و(-48) في فرنسا، و(-44) في ألمانيا، و(-52) في إيطاليا.
وفي ظل المسار الحالي الذي انتهجته بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، والاتحاد الأوروبي –والذي لم يُسفر سوى عن تراجع في الاحترام والنفوذ الدوليين– فإن أي دور دبلوماسي فاعل لهذه الدول مستقبلاً في الشرق الأوسط سيعتمد على ما إذا كانت قادرة على تبني موقف أخلاقي وسياسي واضح ضد الجرائم والفظائع التي تقوم بها حكومة «نتنياهو»، اليمينية المتطرفة في غزة، بدعم مباشر من واشنطن.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك