أثناء تحضيري لورقة مرجعية تتحدث عن كتاب المؤرخ الأمريكي «جورج سارتون» بعنوان «مقدمة في تاريخ العلوم»، الذي يسرد فيه الدور المهم الذي لعبه العلماء المسلمون في ظل دولة إسلامية قوية في إرساء دعائم العلوم الطبيعية، صادفني أحد الكتب المهمة والمنسية تحت عنوان «Lost History» للكاتب الأمريكي مايكل هاملتون مورجان. هذا الكتاب، أو «التاريخ الضائع» بالعربية، يقدم إحدى حلقات الوصل المفقودة في قصة العالم المترابط، حيث يُظهر الأثر الذي خلفته الحضارة الإسلامية وإنجازاتها عبر المشرق والمغرب.
وما فاجأني أكثر هو تعليق الرئيس الأسبق للولايات المتحدة الأمريكية، جيمي كارتر، على الكتاب، حيث وصفه بأنه «هدية منحنا إياها مايكل مورجان، تمكننا من استعادة تاريخ ظل ضائعاً لحقبة طويلة من الزمان، وأن هذا الكتاب ينبغي قراءته على كل شخص يساوره شك في أن الواقع الحقيقي للتاريخ إنما ينطوي على ما هو أكثر وأعمق من التعبير المتهاوي لصدام الحضارات». ثم فوجئت مرة أخرى بأن الكتاب قد تُرجم إلى العربية من خلال «دار نهضة مصر»، وكانت قمة المفاجآت تقديم جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين ملك المملكة الأردنية، للكتاب، حيث قال: «إنه أثناء هذه الفترات التي نعيشها الآن يسهل نسيان التراث الفكري والثقافي العظيم الذي صنعه الإسلام. فعبر التاريخ الإسلامي الذي تعدى 1400 عام، منح المسلمون للعالم قمماً عظيمة في فروع الفنون والعمارة والشعر والفلسفة والعلوم، وكلها تتغذى على تعاليم القرآن مستمدة لروحانيته محاطة بمناخ من الورع والتقوى نابع من قلب هذا الدين، وما كانت هذه الإنجازات بِمَجْهل عن أوروبا.
وفي مقدمته، يلامس مورجان جوهر التجربة الإنسانية: الفقد جزء أصيل من وجودنا. فالحضارات تزدهر ثم تضمحل، تاركةً أحياناً أصداءً تبعث من جديد في ثقافات لاحقة. لكن فقدان الذاكرة الواعية لحضارة كاملة هو مأساة خطيرة، فهي مختبر للأفكار والمثل البشرية، ويمكننا التعلم من جميعها، عظيمة كانت أم معيبة.
وهنا يكشف مورجان كيف قادته هجمات 11 سبتمبر 2001 لاكتشاف هذا «التاريخ الضائع». فبعد الهجمات مباشرة، طُلِب منه كتابة خطاب لمديرة تنفيذية أمريكية بارزة. رغم أن الموضوع كان محايداً، إلا أن تجاهل الأزمة الوطنية بدا مهيناً. فاتفقا على محاولة سد الفجوة بين المسلمين وغير المسلمين بتذكير الجميع بعظمة التراث الإسلامي وإسهاماته للإنسانية. اختار مورجان التركيز على التاريخ الإسلامي الزاخر بالاختراع والإبداع والأفكار الكبري والتسامح والتعايش، الذي تفوق في إنجازاته الفكرية على أوروبا المسيحية المعاصرة له، حيث ازدهر وعمل مسلمون ومسيحيون ويهود وهندوس وبوذيون معاً. كانت هذه الحضارة هي التي زرعت بذور النهضة الأوروبية ومهدت لجوانب أساسية في الحضارة الغربية الحديثة، ومع ذلك، وبحلول القرن الحادي والعشرين، طُوي هذا التاريخ في طي النسيان أو التشويه أو القمع.
لم يتوقع مورجان الاهتمام الكبير الذي أثاره خطابه، خاصة من مسلمين في الخارج سألوا عن الشخصيات التاريخية المذكورة وكيفية معرفة المزيد. وأدرك حينها وجود فجوة هائلة من سوء الفهم بين الجانبين، فولدت فكرته الأساسية: استعادة تقدير أعمق للتاريخ الإسلامي قد يعيد صياغة فرضية «صراع الحضارات». وهنا يؤكد مورجان أن كتابه ليس عن الإسلام كدين أو عقيدة، بل عن حضارة قاد فيها الإسلام دوراً محورياً. وهو يدرك دخوله «حقل ألغام»، خاصة مع الأزمات في المجتمعات المسلمة، لكنه كان يهدف إلى تحقيق توازن في السرد السائد لدى غير المسلمين، ويتصدى أيضاً لاتهامات محتملة من بعض المسلمين بتمجيد «زنادقة». يسلط الضوء على أن عظماء المفكرين والمخترعين والعلماء في تلك الحضارة كانوا عقلاً متسائلاً باحثاً عن الحقيقة العليا، عدد منهم من أتباع ديانات أخرى، وعملوا في سياق سياسي مختلف تماماً، حيث دعم حتى الحكام المتدينون والعلماء الفكر الحر والاستقصاء العلمي التجريبي.
ويتناول مورجان الأسباب المتعددة وراء هذا الجهل بالتفاصيل الدقيقة للتاريخ الإسلامي، من صعوبات اللغة ومرور القرون، إلى طمس الأسماء والأماكن، والسرد الغربي المشايع للنهضة والتقدم اللاحق، وحذف المفكرين المسلمين غير التقليديين، وحرق الكتب وتدمير المكتبات. ويضيف مورجان أنه لم يُكتب «التاريخ الضائع» ليخوض في نقاشات أكاديمية معقدة، بل لملء الفراغات في خطوط تاريخنا المشترك، مع الالتزام بالحقائق الثابتة وإحياء أهم الشخصيات والأحداث. وإنه يسعى لجعل الماضي الإسلامي المجيد، البعيد والغامض المعرفة بالنسبة للكثيرين، قريباً وواقعياً، وليُظهر الصلة المباشرة بين أفكار وأحداث مضت وحياتنا اليوم.
يأمل مورجان أن يمنح استعادة هذا التاريخ المفقود غيرَ المسلمين فهماً أعمق واحتراماً أكبر «لأبناء عمومتهم المسلمين» يتجاوز الصور النمطية والسياسات الراهنة.
في الختام، يأمل مورجان من خلال استعادة هذا التاريخ المفقود المشترك أن يكتسب غير المسلمين احترامًا أكبر وفهمًا أعمق «لأبناء عمومتهم المسلمين» مما قد توحي به العناوين الرئيسية والسياسات الحالية، وأن يرى مسلمو اليوم كيف طُبق الإسلام ذات يوم بطريقة تدعم الإبداع والاختراع والتسامح وتنوع الفكر والسلوك في المجتمع والحياة الفردية.
إن الرسالة الأهم التي يطمح الكتاب لإيصالها هي أن القوة نادراً ما تحل قضايا الروح والفكر، سواء في الأفراد أو الحضارات، وأن الفهم الحقيقي يكمن في استعادة تاريخنا المشترك والتعلم منه.
{ أستاذ بكلية العلوم - جامعة القاهرة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك