العدد : ١٧٢٦٣ - السبت ٢٨ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٣ محرّم ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٢٦٣ - السبت ٢٨ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٣ محرّم ١٤٤٧هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عن الفساد المؤسسي والشخصي

الصحافة‭ ‬الحرة‭ ‬المنضبطة‭ ‬لا‭ ‬تنافق‭ ‬ولا‭ ‬تجامل‭ ‬كثيرا‭ (‬يعني‭ ‬تنافق‭ ‬وتجامل‭ ‬على‭ ‬خفيف،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬حال‭ ‬الصحف‭ ‬الأمريكية‭ ‬منذ‭ ‬عدوان‭ ‬إسرائيل‭ ‬الفاجر‭ ‬على‭ ‬غزة،‭ ‬فهي‭ ‬تبكي‭ ‬على‭ ‬الرهائن‭ ‬المحتجزين‭ ‬لدى‭ ‬حركة‭ ‬حماس،‭ ‬وغير‭ ‬معنية‭ ‬بنحو‭ ‬ستة‭ ‬آلاف‭ ‬رهينة‭ ‬فلسطيني‭ ‬في‭ ‬سجون‭ ‬إسرائيل،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬التزلف‭ ‬لليهود‭ ‬الأمريكان‭ ‬الذين‭ ‬بيدهم‭ ‬المال‭ ‬وكبريات‭ ‬شركات‭ ‬الإعلام‭).‬

ما‭ ‬علينا‭: ‬قبل‭ ‬شهور،‭ ‬جعلت‭ ‬مجلة‭ ‬نيوزويك‭ ‬الأمريكية‭ ‬من‭ ‬الفساد‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬موضوعا‭ ‬للغلاف،‭ ‬وحوى‭ ‬الموضوع‭ ‬قائمة‭ ‬بالدول‭ ‬التي‭ ‬ينخر‭ ‬فيها‭ ‬الفساد‭ ‬بمعنى‭ ‬تفشي‭ ‬الرشوة‭ ‬والاختلاس‭ ‬ونهب‭ ‬المال‭ ‬العام،‭ ‬تحت‭ ‬تصنيفات‭ ‬أربعة‭ ‬هي‭: ‬دول‭ ‬‮«‬كاملة‭ ‬النظافة‮»‬‭ ‬وتشمل‭ ‬فنلندا‭ ‬والدنمارك‭ ‬وسنغافورة‭ ‬والسويد،‭ ‬ودول‭ ‬‮«‬نظيفة‮»‬،‭ ‬وتشمل‭ ‬النرويج‭ ‬وسويسرا‭ ‬وبريطانيا‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬ودول‭ ‬نُص‭ ‬نص‭ ‬وهي‭ ‬ألمانيا‭ ‬وإسبانيا‭ ‬وفرنسا‭ ‬وبلجيكا‭ ‬وبتسوانا‭ ‬ودول‭ ‬‮«‬وسخة‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬ديرتي‮»‬‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬المجلة‭ ‬وهي‭ ‬إيطاليا‭ ‬وناميبيا‭ ‬وتونس‭ ‬واليونان‭ ‬ودول‭ ‬قذرة‭ ‬أو‭ ‬‮«‬فِلثي‮»‬‭ ‬كما‭ ‬قالت‭ ‬نيوزويك‭ ‬وتشمل‭ ‬روسيا‭ ‬وتنزانيا‭ ‬واوكرانيا‭ ‬ونيجيريا‭ ‬وفي‭ ‬ذيل‭ ‬القائمة‭ ‬تأتي‭ ‬بنجلاديش،‭ ‬ووجود‭ ‬دولة‭ ‬عربية‭ ‬واحدة‭ ‬ضمن‭ ‬قائمة‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬يتفشى‭ ‬فيها‭ ‬الفساد‭ ‬المالي‭ ‬والإداري‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬بقية‭ ‬الدول‭ ‬براء‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬التهمة،‭ ‬بل‭ ‬قد‭ ‬يعني‭ ‬انه‭ ‬ومن‭ ‬فرط‭ ‬أن‭ ‬الفساد‭ ‬فيها‭  ‬مؤسسي‭ ‬ويشكل‭ ‬عماد‭ ‬وأساس‭ ‬التعامل‭ ‬فإن‭ ‬مواطنيها‭ ‬لا‭ ‬يرون‭ ‬فيه‭ ‬ما‭ ‬يستوجب‭ ‬الشكوى‭ ‬أو‭ ‬الململة‭! ‬وعموما‭ ‬فإن‭ ‬من‭ ‬يكون‭ ‬محاطا‭ ‬بالزبالة‭ ‬تكون‭ ‬مقاييس‭ ‬النظافة‭ ‬عنده‭ ‬مختلة‭.‬

في‭ ‬مطار‭ ‬عربي‭ ‬كنا‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬عبور‭ ‬‮«‬ترانزيت‮»‬،‭ ‬ولكن‭  ‬موظف‭ ‬الجمرك‭ ‬كاد‭ ‬يمنعنا‭ ‬من‭ ‬مجرد‭ ‬الانتظار‭ ‬في‭ ‬المطار،‭ ‬لأن‭ ‬ولدي‭ ‬كان‭ ‬يحمل‭ ‬8‭ ‬أصابع‭ ‬بطاريات‭ ‬جافة،‭ ‬خاصة‭ ‬بجهاز‭ ‬ووكمان‭ ‬الصغير‭ (‬هل‭ ‬تذكرون‭ ‬ذلك‭ ‬المسجل‭ ‬الصغير‭ ‬ابو‭ ‬سماعات‭ ‬الذي‭ ‬صرعه‭ ‬الآيبود‭ ‬ثم‭ ‬جار‭ ‬الزمان‭ ‬على‭ ‬الآيبود؟‭) ‬وظل‭ ‬الواقفون‭ ‬خلفنا‭ ‬يتململون‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬صاحبنا‭ ‬يوجه‭ ‬إلينا‭ ‬عشرات‭ ‬الأسئلة‭ ‬عن‭ ‬مبرر‭ ‬حمل‭ ‬الولد‭ ‬لذلك‭ ‬العدد‭ ‬‮«‬الهائل‮»‬‭ ‬من‭ ‬البطاريات‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬سعرها‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬دولارين،‭ ‬وانتهى‭ ‬الفيلم‭ ‬الهندي‭ ‬بان‭ ‬قام‭ ‬بمصادرة‭ ‬بطاريتين،‭ ‬فقدمت‭ ‬له‭ ‬ثلاث‭ ‬بطاريات‭ ‬أخريات‭ ‬قائلا‭: ‬معك‭ ‬حق‭ ‬فكثرة‭ ‬البطاريات‭ ‬تفسد‭ ‬الأخلاق‭ ‬فخذ‭ ‬هذه‭ ‬أيضا‭ ‬فتناولها‭ ‬شاكرا‭ ‬وتحول‭ ‬المحقق‭ ‬البوليسي‭ ‬إلى‭ ‬كائن‭ ‬مهذب‭ ‬يبتسم‭ ‬ويقهقه‭ ‬في‭ ‬بلاهة‭ ‬بل‭ ‬واستدعى‭ ‬أحد‭ ‬العمال‭ ‬ليحمل‭ ‬عني‭ ‬حقيبة‭ ‬يدي‭.‬

وفي‭ ‬مطار‭ ‬عربي‭ ‬آخر‭ ‬فوجئت‭ ‬بان‭ ‬الطائرة‭ ‬المتجهة‭ ‬الى‭ ‬الخرطوم‭ ‬لا‭ ‬تسمح‭ ‬للراكب‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬حقيبة‭ ‬كبيرة‭ ‬واحدة،‭ ‬وكانت‭ ‬معي‭ ‬ثلاث‭ ‬حقائب‭ ‬اثنتان‭ ‬منها‭ ‬تخصان‭ ‬صديقا‭ ‬جاء‭ ‬معي‭ ‬الى‭ ‬المطار‭ ‬لسداد‭ ‬كلفة‭ ‬تحميلهما،‭ ‬فقرر‭ ‬صاحبي‭ ‬العودة‭ ‬بحقيبتيه،‭ ‬وفجأة‭ ‬جاءنا‭ ‬شاب‭ ‬يلبس‭ ‬شارة‭ ‬المطار‭ ‬وقال‭ ‬لنا‭: ‬لا‭ ‬بأس‭ ‬ضعوا‭ ‬الأمتعة‭ ‬في‭ ‬الميزان‭ ‬فجاء‭ ‬وزنها‭ ‬نحو‭ ‬150‭ ‬كيلوجراما،‭ ‬وشرع‭ ‬صاحبي‭ ‬في‭ ‬فتح‭ ‬محفظة‭ ‬نقوده‭ ‬لسداد‭ ‬قيمة‭ ‬نحو‭ ‬125‭ ‬كيلوجراما،‭ ‬ولكن‭ ‬الشاب‭ ‬ابن‭ ‬الناس‭ ‬قال‭ ‬لنا‭ ‬إننا‭ ‬لن‭ ‬ندفع‭ ‬شيئا‭ ‬على‭ ‬الحقائب‭ ‬الثلاثة‭ ‬لأننا‭ ‬أزوال،‭ ‬والأزوال‭ ‬طيبون‭ ‬فشكرته‭ ‬شعرا‭ ‬ونثرا‭ ‬وزجلا،‭ ‬ولكن‭ ‬صديقي‭ ‬قال‭ ‬ان‭ ‬الشاب‭ ‬‮«‬المطاري‮»‬‭ ‬لم‭ ‬يقم‭ ‬بكل‭ ‬ذلك‭ ‬حبا‭ ‬في‭ ‬بني‭ ‬السودان‭ ‬وقرر‭ ‬ان‭ ‬يمنحه‭ ‬بعض‭ ‬المال‭ ‬فغضبت‭ ‬وزجرته‭ ‬لسوء‭ ‬ظنه‭ ‬بالرجل‭ ‬وتوجهت‭ ‬نحو‭ ‬حاجز‭ ‬الجوازات‭. ‬و‭.. ‬‮«‬عينك‭ ‬ما‭ ‬تشوف‭ ‬إلا‭ ‬النور‮»‬‭ ‬فلفلوا‭ ‬حقيبة‭ ‬يدي‭ ‬وجيوبي‭ ‬الأنفية‭ ‬وقالوا‭ ‬انهم‭ ‬يشكون‭ ‬في‭ ‬ان‭ ‬جوازي‭ ‬مزور،‭ ‬ولمحت‭ ‬الشاب‭ ‬الشهم‭ ‬يراقب‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬لي‭ ‬وكان‭ ‬لدهشتي‭ ‬مبتسما،‭ ‬فاستنجدت‭ ‬به،‭ ‬فأدرك‭ ‬عندئذ‭ ‬أنني‭ ‬غبي‭ ‬وقال‭ ‬لي‭ ‬صراحة‭: ‬خلي‭ ‬عندك‭ ‬دم‭ ‬واظهر‭ ‬تقديرك‭ ‬للخدمات‭ ‬التي‭ ‬قدمت‭ ‬لك‭ ‬وإعفائك‭ ‬من‭ ‬كلفة‭ ‬الأمتعة‭ ‬الزائدة‭!! ‬أنا‭ ‬جعفر‭ ‬عباس‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يبوس‭ ‬ولا‭ ‬ينباس‭ ‬ولا‭ ‬يرتشي‭ ‬ولا‭ ‬يرتاش‭ ‬ادفع‭ ‬رشوة؟‭ ‬قلت‭ ‬له‭ ‬بصوت‭ ‬واضح‭ ‬جهوري‭: ‬أعد‭ ‬أمتعتي‭ ‬إلى‭ ‬الميزان‭ ‬يا‭ ‬جبان‭ ‬أو‭ ‬أعد‭ ‬إلي‭ ‬جوازي‭ ‬لأنني‭ ‬لن‭ ‬ادفع‭ ‬رشوة‭!! ‬وسمع‭ ‬صياحي‭ ‬حتى‭ ‬قباطنة‭ ‬الطائرات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تحلق‭ ‬حول‭ ‬المطار،‭ ‬هنا‭ ‬حدثت‭ ‬المعجزة‭ ‬وأعيد‭ ‬الجواز‭ ‬إليّ‭ ‬مع‭ ‬الاعتذار‭!‬

هذا‭ ‬فقط‭ ‬عن‭ ‬فساد‭ ‬الصغار‭ ‬أما‭ ‬فساد‭ ‬الكبار‭ ‬فمسألة‭ ‬لا‭ ‬تحتمل‭ ‬‮«‬الهزار‮»‬‭!‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا