يواجه الإنسان اليوم قضية لا سابقة لها في تاريخ البشرية من حيث نطاقها الجغرافي الواسع والممتد شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً، فهي لا تهدد إقليماً بعينه، أو منطقة محددة ضيقة من الكرة الأرضية، وإنما تضرب كوكبنا برمته، وتنزل على جميع الدول، غنية كانت أم فقيرة، متقدمة كانت أم نامية، فالجميع سواسية كأسنان المشط أمام تداعيات هذا الكرب العظيم.
كما أن هذه القضية غير مسبوقة، فلم يشهد التاريخ مثيلاً لها لأن حلها صعب جداً ومعقد، ومرتبط بأهم مقوم وداعم لاستدامة الحضارة الإنسانية ورقيها وتقدمها، وهو مصادر الطاقة، وبالتحديد الوقود الأحفوري، من الفحم، والغاز الطبيعي، والنفط. كذلك فإن مواجهة هذه المشكلة الشائكة تحتاج إلى هبة جماعية جادة مشتركة وفورية، وتعهد من جميع الدول، وخاصة الدول الصناعية المتقدمة والالتزام بالتقيد بالحلول اللازمة للقضاء عليها.
هذه هي قضية العصر من دون منازع، وهي التغير المناخي، فتداعياتها بيئية في المرتبة الأولى، وصحية، وأمنية، واجتماعية، واقتصادية. ومن هذه الانعكاسات المشهودة هي ارتفاع درجة حرارة الأرض وسخونة كوكبنا، وارتفاع مستوى سطح البحر، وزيادة حموضة مياه البحر، وما لهذه المظاهر المشهودة من مردودات ميدانية كالعواصف البحرية، والفيضانات، وحرائق الغابات، والموجات الحرارية المرتفعة والمتكررة.
ومنذ أكثر من 33 عاماً والمجتمع الدولي يفاوض ويحاول مواجهة تحديات التغير المناخي، ويضع لها الحلول، ولكنه يصطدم بواقع مرير يتمثل في عدم التزام الدول المسؤولة عن وقوع التغير المناخي، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية بخفض انبعاثات الغازات المسؤولة عن سخونة الأرض، في مقدمتها غاز ثاني أكسيد الكربون.
ومن آخر الحلول الدولية المشتركة هو تفاهمات باريس لعام 2015 حول التغير المناخي، والتي اتفق فيها دول العالم على منع ارتفاع حرارة الأرض أكثر من درجة ونصف الدرجة المئوية عن مستويات ما قبل الثورة الصناعية، ولكن هذا الهدف الآن صعب المنال ولا يمكن تحقيقه لعدم التزام معظم الدول بخفض الانبعاث، بحسب ما جاء في الدراسة المنشورة في مجلة (Earth System Science Data ) في 19 يونيو 2025 تحت عنوان: «المؤشرات للتغير المناخي الدولي لعام 2024: التحديث السنوي للمؤشرات الرئيسية لحالة المناخ والتأثيرات الإنسانية». فقد أكد التقرير الذي أجمع عليه 61 عالماً يمثلون 17 دولة بأنه من المستحيل وقف ارتفاع سخونة الأرض عند 1,5 درجة مئوية.
وهناك عدة عوامل تفاقم من هذه الأزمة، وتسببت في فشل المجتمع الدولي في مواجهة هذا التحدي العالمي المهدد لأمن واستدامة كوكبنا ومن يعيش عليه، ومنها الحروب التي يشعلها البشر أنفسهم وبأيديهم الآثمة، فتكون هي الوقود الذي يواصل اشتعال فتيل التغير المناخي، ويعمق من شدة نزول تداعياته على البشر.
ومن آخر الحروب التي اشتعلت خلال السنوات القليلة الماضية، ومازالت بعضها موقدة ومشتعلة هي الحرب الروسية الأوكرانية، والعدوان الصهيوني الدولي على غزة المستضعفة والمحاصرة ولبنان واليمن وسوريا، وأخيراً الهجمات الصهيونية على إيران.
فهذه الحروب لها تداعيات مباشرة وغير مباشرة ترفع من حدة الأزمة المناخية، وتُعد مصادر لانبعاث الغازات المتهمة برفع درجة حرارة الأرض، وبخاصة غاز ثاني أكسيد الكربون. فالحركة الكثيفة وحرق الوقود الأحفوري في الطائرات بمختلف أنواعها وأحجامها من مقاتلات، أو طائرات شحن، أو طائرات مروحية، والسفن الحربية، والصواريخ، والقنابل، والآليات البرية الثقيلة، كلها تُطلق أحجاماً كبيرة من غاز ثاني أكسيد الكربون، وغازات أخرى تلوث الهواء وتسبب ظاهرة التغير المناخي. وفي الوقت نفسه الحرائق التي تنتج عن تفجيرات القنابل والصواريخ تولد الغازات الضارة بالمناخ. وعلاوة على ذلك، تدمير الدبابات والشاحنات والسيارات الأخرى للمناطق البرية والمزارع والحقول والغابات المحتوية على الأشجار والمسطحات الخضراء التي تمتص الملوثات، من بينها غاز ثاني أكسيد الكربون، فتخفض من مستواها في الهواء الجوي.
وهناك العديد من المؤلفات والدراسات والتقارير التي تناولت دور الحروب الحالية كوقود مستمر لإشعال فتيل التغير المناخي وسخونة الأرض، وقدَّمت تقديراً لحجم الملوثات المناخية التي تنبعث إلى الهواء الجوي. فهناك الكتاب المنشور في عام 2024 من جامعة أكسفورد البريطانية من إعداد «نيتا كراوفورد» (Neta Crawford) تحت عنوان: «البنتاجون، التغير المناخي والحرب: ارتفاع وانخفاض الانبعاثات من الجيش الأمريكي»، كما أن هناك التقرير المنشور في مجلة «الأمة» (The Nation) الأمريكية بالتعاون مع «مراجعة الصحافة في كولومبيا» في عدد يوليو/أغسطس 2025، تحت عنوان: «تكاليف الحرب المناخية». إضافة إلى التحقيق المنشور في صحيفة الجارديان في 30 مايو 2025 تحت عنوان: «كيف أصبحت الولايات المتحدة أكبر دولة تنبعث منها غازات الدفيئة من أنشطتها العسكرية، ومنعت الجميع من الكشف عنه؟». كذلك هناك الدراسة المنشورة في 30 مايو 2025 في (Research Gate,SSRN) تحت عنوان: «الحرب على المناخ: دراسة حول انبعاثات غاز الاحتباس الحراري في النزاع الإسرائيلي - غزة».
وأقدم لكم هنا أهم الاستنتاجات التي توصلت إليها هذه التقارير والدراسات حول دور الحروب في تعميق وتغذية ظاهرة التغير المناخي، والبصمة الكربونية التي تتركها في الكرة الأرضية كما يلي:
أولاً: الحروب والعمليات والتدريبات العسكرية الروتينية من أهم مصادر وعوامل تفاقم أزمة التغير المناخي لكوكبنا، ولكن هذا العامل لا يعرف أحد عن حجم انبعاثاته السنوية من غازات الدفيئة، أو الاحتباس الحراري. فالمعاهدات الدولية الأممية لا تلزم الدول على تقديم تقارير سنوية حول هذه الانبعاثات الناجمة عن العمليات العسكرية الروتينية لكل دولة، وتشغيل القواعد العسكرية، ولا عن الانبعاثات أثناء الحروب.
ثانياً: الانبعاثات الناجمة عن عمليات وأنشطة وزارة الدفاع الأمريكية تُقدر بأنها الأعلى من بين الوزارات والوكالات الأمريكية الاتحادية الأخرى، فهي تشكل 80% من اجمالي الانبعاثات من الوزارات الأمريكية، كما أنها تشكل 1% من اجمالي الانبعاثات السنوية من الولايات المتحدة الأمريكية. ففي عام 2023، ولَّد البنتاجون نحو 48 ميجا طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون، وهذا الحجم أعلى مما ينبعث من بعض دول العالم. وهذه الانبعاثات من وزارة الدفاع الأمريكية في تزايد مطرد بسبب زيادة أعداد البرامج والأنشطة والقواعد العسكرية، إضافة إلى زيادة الميزانية السنوية المرصودة للبنتاجون سنة بعد سنة وارتفاع الانفاق العسكري بشكل عام، حسب التقرير السنوي المنشور من «معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام»، علماً بأن هذا النمط من ارتفاع ميزانيات وزارات الدفاع ينطبق على معظم دول العالم.
ثالثاً: خلال 15 شهراً فقط من عُمر العدوان الصهيوني على غزة، كانت البصمة الكربونية وحجم انبعاث الملوثات المسؤولة عن التغير المناخي أعلى من الانبعاثات السنوية لمئات الدول حول العالم، كل على حدة.
رابعاً: البصمة الكربونية الاجمالية والانبعاثات الكلية من العمليات العسكرية والتدريبية لدول العالم تُقدر بنحو 5,5% من اجمالي الانبعاثات الدولية، وهي أعلى من انبعاثات بعض الدول.
ولذلك نجد أن للحروب تداعيات مباشرة وغير مباشرة تتمثل في انبعاث الغازات المسؤولة عن نزول ظاهرة التغير المناخي على كوكبنا برمته، ولهذه الظاهرة مردودات كثيرة تنعكس على سلامة وأمن الكرة الأرضية، وبالتالي سلامة واستدامة حياة كل من يعيش عليها، مما يجعلنا نتجنب وقوع النزاعات المسلحة والحروب أينما كانت.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك