زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
عن الخير والسَّفه
أحدثكم قليلا عن الرجل الذي قال مسيلمات العالم إنه فبرك مصل الوقاية من فيروس الكورونا، لزرع شرائح الكترونية في أجسام بني البشر ثم إبادة نحو مليار، وقلت مرارا وسأظل أردد أنني شديد الإعجاب به، رغم أن بيني وبينه «تستطيل حواجز، بحر وينهض ألف باب»، لأنه من أغنى أغنياء العالم، ألا وهو بيل غيتس، مؤسس وصاحب شركة مايكروسوفت للكمبيوتر، وليس مرد إعجابي به أملي في أن يتبناني، أو ان يوصي لي بواحد على التريليون من ثروته، بل لكونه لا يتردد في دعم الأنشطة الخيرية والإنسانية، وقد تبرع حتى الآن بنحو 47 مليارا من الدولارات للطفولة ومكافحة الأمراض، وأنه سيوقف ما تبقى من ثروته للعمل الخيري، وأعلن غيتس صراحة انه لن يترك لعياله سوى 40 مليون دولار من إجمالي ثورته التي تبلغ الآن 70 مليار دولار، ولو كنت ابنه لرفعت عليه دعوى بزعم انه مختل عقليا.
أذكر أنني تلقيت قبل أعوام بعيدة رسالة من السيد عوض بن بنيه الردادي، وكيل الشؤون الاجتماعية بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية السعودية بمناسبة المهرجان الذي تنظمه الوزارة -أو كانت تنظمه- في الرياض لعدة أيام، للفت الأنظار الى معاناة الأيتام وحث الناس على رعايتهم، ولو كان فينا خير لما احتاجت الوزارة إلى بذل الجهد والوقت والمال لتنظيم المهرجان بفعاليات متنوعة!! ولكننا برغم كل جعجعتنا الفارغة نعتقد ان العمل الخيري فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وأنه طالما ان هناك «حكومة» فإن عليها ان تتكفل باليتيم والسائل والمحروم. وواجبنا هو كنز الذهب والفضة لنأخذها معنا إلى القبور، ثم نحملها يوم النشور لتحمى في جهنم وتكوى بها جباهنا.
وبينما المعنيون بشؤون اليتامى لا يطلبون لهم سوى الحد الادنى الذي يعصمهم من الزلل والانحراف، فإن مئات الآلاف منا لا شغل لهم عاما تلو عام سوى تدبير المال بالاقتراض والاختلاس والرهن وبيع كل ما هو ثمين، لقضاء بضعة أسابيع في بلاد يتاح فيها «البودي مساج» والعصائر الاسكتلندية، وذوات الثدي اللواتي يضحكن علينا بالحب الموسمي فيعصرن جيوبنا، ونعود في خاتمة المطاف، ونحن نعاني من «اليتم» العاهر استعدادا لجولات آسيوية أو أوروبية أخرى! ولا يلفت انتباهنا قط كيف ان الناس في أوروبا من كافة الأعمار يقفون في الشوارع يناشدون المارة دعم صندوق السرطان او أيتام الكنغو او التماسيح الشاذة جنسيا في البرازيل! يحدث هذا رغم أن المواطن العادي هناك يعرف ان حكومته غنية وقوية، ومع هذا فإنه يدرك ان عليه التزاما أخلاقيا تجاه قضايا بعينها، لذا تجد المنظمات الأوروبية في الطليعة في التصدي للمجاعات والأوبئة، فنلطم نحن الخدود ونقيم سرادق العزاء لان الصليبيين يدسون السم في الدسم. ثم جاء الدور على الملياردير وارين بافيت الذي قدم لبيل غيتس 30 مليار دولار لينفقها عبر مؤسسة «بيل ومليندا» لمحاربة الفقر والمرض. لم يقل بافيت إنه أولى بكسب السمعة الطيبة بإنشاء مؤسسته الخيرية الخاصة فينال الصيت كما نال الغنى، بل وثق في ملياردير آخر وسلمه تلك الأموال المهولة.
لو عامَل كل واحد منا أيتام بلده كما يعامل جرسونات البلاد التي يهدر فيها ماء صلبه ووجهه لما جنح حدث او تشرد، أقول هذا وأنا أعرف مرارة اليتم، ليس لأنّ والدي رحل عن الدنيا وتركنا بلا عائل، وليس لأنه رحل وأنا بعد طفل او صبي (فقد مات -رحمه الله- بعد تخرجي في الجامعة وترك لنا أكثر مما يقيم الأود وأنا -والحمد لله- أنتمي لشعب مازال يعرف بعض التراحم والتكافل)، ولكن فقدان الأب الراعي المحب الناصح والرادع والزاجر يترك في النفس خواء يصعب ملؤه، فذلك الأب الأمي كان يملك ما لا تملكه هارفارد او اوكسفورد: الحب بلا منة أو حدود او انتظار جزاء أو شكور، وبرحيله فقدت بوصلتي إلى أن أصبحت أبا ومطالبا بالاقتداء به!
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك