أرسلَ الاتحاد الوطني لأطباء فرنسا في الثاني من يونيو 2025 خطابا تحذيريا يرفعون فيه العلم الأحمر إلى عدة مسؤولين كبار في الحكومة الفرنسية، منهم رئيس الوزراء، ووزير الصحة، ووزير الزراعة والبيئة. وقد تضمن الخطاب نقطة واحدة فقط، وهي التهديدات التي يشكلها أحد الملوثات الذي تفشى وانتشر في البيئة الفرنسية بشكل عام، وتعرض له نسبة واسعة من المواطنين، وبخاصة الأطفال عبر المواد الغذائية التي يستهلكونها يوميا.
هذا الملوث القديم والمستجد اليوم في البيئة الفرنسية، وفي كثير من البيئات حول العالم هو عنصر الكادميوم، وتكمن خطورته في أنه مستقر وثابت عند دخوله في مكونات البيئة، فهو لا يتحلل عند التعرض للمتغيرات البيئية، ولذلك له القدرة على التراكم، والتضخم في تركيزه في جميع مكونات البيئة الحية وغير الحية، ومنها وعبر طرق كثيرة ينتقل إلى الإنسان، ويبدأ في التراكم وارتفاع تركيزه في أعضاء الجسم، وبالتحديد في الكلية وفي العظام عامة.
فهذا التحذير من أطباء فرنسا جاء بعد سنوات من متابعة تحركات الكادميوم في عناصر البيئة الفرنسية، ومراقبة تركيزه في كل المنتجات والمواد الغذائية التي يستهلكها الإنسان، ثم تحليل تركيزه في أعضاء جسم الفرنسيين، والتغيرات التي تحدث في التركيز عبر عقود من الزمن. فبعد أن تأكد العلماء وأجمعوا على أن هذا العنصر الثقيل قد أصبح فعلاً جزءاً لا يتجزأ من مكونات البيئة الفرنسية، وأنه توغل بعمق وبكثافة عالية في المنتجات الغذائية البشرية، وأن كل ذلك انعكس على ارتفاع وجوده في أجسام الفرنسيين سنوت طويلة، فعندئذٍ فقط اضطر الأطباء إلى دق ناقوس الخطر على الملأ، وأعلنوا عن قلقهم الشديد، وأظهروا لكل شرائح وفئات المجتمع من المسؤولين وعامة الشعب جميع المعلومات والحقائق العلمية الموثقة حول خطورة هذه الظاهرة البيئية الصحية على المجتمع الفرنسي. وقد وصل التحذير إلى درجة أن الأطباء وصفوا الحالة بأنها «قنبلة زمنية موقوتة للصحة العامة»، كما ذكروا أن هذه تعد حالة طوارئ صحية عامة، وأن من واجبنا إنذار المسؤولين لحماية الصحة العامة للفرنسيين.
فهذه التعبئة الصحية العامة في فرنسا، والدعوة إلى التحرك السريع لمواجهة هذا الخطر المزمن المتغلغل والمتجذر في أعماق جسم الشعب الفرنسي، نابعة من خطورة الكادميوم وتاريخه الأسود، وسيرته المظلمة مع الإنسان في بعض دول العالم، ودوره العقيم في وقوع كوارث بيئية وصحية مرضية أودت بحياة الآلاف من البشر، فسقطوا ضحية سهلة لتعرضهم لهذا الملوث الخطير.
فالكادميوم يعد من المواد المسببة للسرطان للإنسان ضمن المجموعة الأولى، حسب تصنيف الوكالة الدولية لأبحاث السرطان الذي يعد الذراع العلمي المختص بالسرطان في منظمة الصحة العالمية، كما أن الكادميوم عندما يتراكم عبر السنين في جسم الإنسان يرفع من مخاطر إصابته بعدة أمراض مزمنة منها السرطان كالكبد والبروستات والبنكرياس والرئة، وأمراض القلب، وتلف في الجينات.
وهناك مصدران رئيسان لهذا الملوث العقيم، الأول مصدر طبيعي لا شأن للإنسان فيه، وهو وجود الكادميوم في الأتربة وبعض الصخور الموجودة في الأرض، والثاني صناعي، ومن أيدي وصنع البشر، وبخاصة البطاريات بمختلف أنواعها وأحجامها، وتدخين سجائر التبغ، إضافة إلى الأسمدة الكيميائية، وبالتحديد أسمدة الفوسفات التي تحتوي على مستويات مختلفة من الكادميوم، حسب مصدر إنتاج هذا السماد الفوسفوري. ومع استخدام هذا السماد لزراعة المحاصيل المأكولة، فإن الكادميوم الموجود في السماد يتراكم مع الزمن في التربة الزراعية، ومنها إلى أوراق النباتات التي يستهلكها الإنسان بشكل مباشر، أو من خلال إنتاج المواد الغذائية النباتية. ولذلك أكدت التحاليل الميدانية لكثير من المنتجات الغذائية أنها تحتوي على مستويات مختلفة من الكادميوم، مثل الأرز، والحبوب، ورقائق الذرة بمختلف أنواعها، والخبز، والبطاطس، وأنواع الباستا الكثيرة.
فوجود الكادميوم في كل هذه المنتجات التي يستخدمها الإنسان بشكل يومي ويتعرض لها كل ساعة، إضافة إلى المنتجات الغذائية التي يتناولها، يؤدي إلى انتقاله بسهولة ويسر إلى أعضاء جسم الإنسان، ثم تراكمه مع الوقت، وتفاقم تركيزه. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نُشرت دراسة في مجلة «الغذاء وعلم السموم الكيميائية» (Food and Chemical Toxicology) في أغسطس 2023، تحت عنوان: «التعرض للكادميوم من ست مواد غذائية شائعة في الولايات المتحدة»، حيث أفادت عن وجود الكادميوم في أجسام كثيرين من الشعب الأمريكي، وأكثر الفئات العمرية تعرضاً هم الرضع والأطفال من عمر 6 أشهر إلى 60 شهراً.
كما نَشرت منظمة «صحة المستهلكين» في فرنسا تقريراً في 6 يونيو 2025 بمناسبة يوم البيئة العالمي في الخامس من يونيو تحت عنوان: «أسمدة الفوسفات ومخاطر التعرض للكادميوم». وأفاد التقرير بأن نحو 47% من البالغين و18% من الأطفال يعانون من ارتفاع تركيز الكادميوم في أجسامهم، كما أن التركيز تضاعف في جسم الشباب منذ 2007، وفي عام 2023، 36% من الأطفال تحت عمر الثلاث سنوات زاد التركيز عندهم عن المواصفات الخاصة بذلك.
فهذا العنصر له سوابق خطيرة في تدمير صحة البشر، ويرجع تاريخه إلى أكثر من 150 عاماً، وبالتحديد في مقاطعة «توياما» في اليابان، حيث وقعت واحدة من أكبر الكوارث البيئية الصحية في تاريخ البشرية جمعاء. فالإنسان بسبب جهله بخصائص هذا العنصر وأسلوب تصرفه عند دخوله في عناصر البيئة، سمح له بأن ينتقل إلى بيئة الأنهار الواقعة في المقاطعة اليابانية، ونتيجة لثبات العنصر وعدم تحلله، كان يتراكم يوماً بعد يوم، وسنة بعد سنة في تربة النهر وفي مياهه، ثم في الأسماك التي تعيش فيه. كما أن ما فاقم من هذه الطامة الكبرى، ورفع من مستوى تأثيرها في البشر في تلك المقاطعة، هو استخدام ماء النهر الملوث بالكادميوم لري حقول الأرز خاصة، والمحاصيل المأكولة الأخرى بشكل عام. فكانت نتيجة هذه الممارسات، انتقال الكادميوم السام والمسرطن من هذه المحاصيل الزراعية إلى جسم الإنسان، والبدء في التراكم وتخزينه في العظام والكلية، حتى بلغت المستويات الحرجة التي جعلت الناس يتألمون بدرجة لا تطاق، ويعانون من شدة الألم بمستويات غير مسبوقة، حتى أن المرضى أَطلقوا على حالتهم «إتاي_إتاي»، أي مؤلم_مؤلم، وظهرت عليهم أعراض مثل هشاشة العظام، وسهولة كسرها، وآلام حادة في المفاصل والعمود الفقري.
واليوم وبعد قرابة 150 عاما من هذا الكرب العظيم الذي نزل على الشعب الياباني، نجد أنفسنا أمام مشهد مماثل، وكأن الإنسان لم يتعظ من تجاربه السابقة، ولم يتعلم من خبراته المتراكمة، ولم يستفد من زلاته وهفواته، فقد رجع الكادميوم مرة ثانية يكشر عن أنيابه أمام المجتمع البشري، ويكشف عن وجوده، ويعرِّض حياة الناس للأمراض والأسقام المزمنة.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك