في أوقاتِ الأزماتِ الكبرى، لا يُقاسُ وعي الشعوبِ بكمّ ما تعرفُه من أخبار، بل بقدرتِها على البقاءِ متماسكة وسط التقلّبات العالمية. وبقدرتها على الحفاظ على إنسانيتها، حتى عندما تشتدُّ الرياحُ من كلِّ صوب.
حين تتداخلُ الأصواتُ، وتتعقدُ المشاهدُ من حولنا، يبقى من المهم أن نستحضرَ القيمَ التي شكَّلت أوطانَنا. لا لنردّ بها على أحد، بل لنُطمئن بها أنفسنا، ونذكّر أبناءنا أن ما يربطنا في الوطن ليس موقفا طارئا، بل هو أسلوب حياة نعيشه معا، ونصونه معا، وهذا ما نراه في وعي الناس، في إحساسهم العميق بالمسؤولية، وفي تمسكهم بما يجمع لا بما يفرق.
نحن جزء من هذا العالم، نتأثر بما يدور من حولنا، بما يُقال في المجالس، وما يُنشر في وسائل التواصل، وحتى بما نشعر به دون أن نعبر. لكن ما نملكه في البحرين ليس أمرًا عابرًا؛ هو جوهر من الألفة الراسخة، لا يصنعه ظرف ولا تزعزعه ريح، امتدادًا من الجيرة القديمة، من ألفة لم تفرق يوما بين بيت وبيت. وهذا بالضبط ما يستحق أن نتمسك به ونحميه، قبل أن يتسلل إليه التشويش من الخارج.
وقد نختلف –وهذا طبيعي– في فهم ما يجري، أو في تقييم المواقف، أو حتى في طريقة قراءة الحدث. لكن التحدي ليس في الاختلاف ذاته، بل في أن يتحول إلى مسافة، إلى جدار يُقصي الآخر لأنه يرى من زاوية مختلفة.
وهنا يبرز الوعي الحقيقي. الوعي الذي لا يُطالبنا بكبت مشاعرنا، بل بتوجيهها بعقلانية. أن نُعبر عما نؤمن به دون أن نجرح، أن نختلف دون أن نُقصي، أن نحافظ على المودة حتى في لحظات التباين. لأن هذا التماسك، هذا الحب، هو ما يبني، أما حين تغيب الحكمة، فلا تترك خلفها إلا المسافة المتداعية.
من المهم أن نستحضر في أذهاننا ما لا يجب أن نغفله، أن البحرين ليست كلمات على الخريطة، بل هي وجوه نعرفها، وقلوب ارتبطنا بها. علاقة لا تصنعها الأخبار، ولا تُلغيها المواقف المؤقتة، بل تنسجها حياة طويلة من التقدير. وكلما اشتد الغبار، احتجنا أن ننظر إلى بعضنا كما عهدنا أنفسنا بلا تصنيفات، وبلا عدسات ضيقة.
ولأننا نُدرك تماما معنى الفقد، نرجو ألا نخسر تماسكنا في زمن مضطرب تتسارع فيه الأحداث. نريد أن نجتاز ما تعيشه المنطقة من توتر بما يليق بنا: ناضجين، متراحمين، نحتكم للعقل، ونصون ما هو أجمل فينا.
في الأوقات التي تشتد فيها الرياح من حولنا، لا نحتاج إلى رفع الصوت، بل إلى ترسيخ الجذور. أن نُثبت لأنفسنا –قبل غيرنا– أن وحدتنا لم تكن يوما ردّة فعل، بل خيارًا دائما. وأنّ الوعي الوطني لا يُقاس بما نقوله، بل بما نتجنب قوله حين يكون التجنب صيانة لوطن، لا نملك غيره.
ليتنا، حين تكثر الضوضاء، نلوذ بروحنا الجماعية وتلاحمنا الوطني وتماسكنا الاجتماعي، ونتأمل –بصدق– كيف نحافظ على أوطاننا ومكتسباتنا.. فهذه هي الثروة التي لا تُقاس بالأرقام، ولا تُعوض إن ضاعت.
وفي الختام، لا نطلب من الزمن أن يتوقف، وقد لا نتوقع من العالم أن يهدأ. لكننا نطلب فقط أن نحافظ على ما هو ثمين فينا: وحدتنا، محبتنا، وأخلاقنا التي تجعلنا نختار بعضنا، كل مرة، رغم الصخب.
ولأن الدعاء في أزمنة التوتر ملاذ القلوب الصادقة، نقول:
اللهم اجعل هذا البلد آمنا، مطمئنا، محروسا بأهله، محفوظا من كل سوء. وارزقنا من الحكمة ما يجعلنا نستحقه، ومن المحبة ما يجعلنا لا نفرط به.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك