العدد : ١٧٢٥٥ - الجمعة ٢٠ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٤ ذو الحجة ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢٥٥ - الجمعة ٢٠ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٤ ذو الحجة ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

لم يبق سوى الأوكسجين

أشتاق‭ ‬لتلك‭ ‬الأيام‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أتلقى‭ ‬فيها‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والحين‭ ‬رسائل‭ ‬إلكترونية‭ ‬ذات‭ ‬قيمة‭ ‬معرفية‭ ‬عالية،‭ ‬لأن‭ ‬هذه‭ ‬الرسائل‭ ‬وبعكس‭ ‬رسائل‭ ‬واتساب‭ ‬مثلا،‭ ‬قد‭ ‬تأتي‭ ‬طويلة‭ ‬ومعززة‭ ‬بالصور‭ ‬والشروحات،‭ ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬الرسائل‭ ‬الدسمة‭ ‬التي‭ ‬تلقيتها‭ ‬مؤخرا،‭ ‬واحدة‭- ‬مدعومة‭ ‬بما‭ ‬يؤكد‭ ‬سلامة‭ ‬محتواها‭- ‬تتكلم‭ ‬عن‭ ‬مادة‭ ‬معينة‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬أنواع‭ ‬الشامبو،‭ ‬تقول‭ ‬جهات‭ ‬طبية‭ ‬محترمة،‭ ‬انها‭ ‬تسبب‭ ‬سرطانات‭ ‬الجلد،‭ ‬ورسائل‭ ‬تكشف‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬أنواع‭ ‬معجون‭ ‬الأسنان‭ ‬المشهورة‭ ‬تلحق‭ ‬أضرارا‭ ‬بليغة‭ ‬باللثة‭ ‬والأسنان،‭ ‬واستحضر‭ ‬هنا‭ ‬كيف‭ ‬أنني‭ ‬ناصرت‭ ‬ثورة‭ ‬فبراير‭ ‬الليبية‭ ‬منذ‭ ‬يومها‭ ‬الأول‭ ‬لعدة‭ ‬أسباب،‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬أنني‭ ‬ظللت‭ ‬أتمنى‭ ‬للشعب‭ ‬الليبي‭ ‬الخلاص‭ ‬من‭ ‬حكم‭ ‬ذلك‭ ‬الجهول‭ ‬المخبول،‭ ‬ليعيش‭ ‬موفور‭ ‬الكرامة‭ ‬وسيد‭ ‬نفسه‭ ‬وقراره،‭ ‬والثاني‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬القذافي‭ ‬قام‭ ‬بانقلابه‭ ‬المشؤوم‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬الملكي‭ ‬في‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬سبتمبر‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1969،‭ ‬وكنت‭ ‬قد‭ ‬سبقت‭ ‬ذلك‭ ‬الانقلاب‭ ‬في‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الدنيا‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم،‭ ‬وقبل‭ ‬الانقلاب‭ ‬بساعات‭ ‬وفي‭ ‬رواية‭ ‬أخرى‭ ‬بسنوات‭ ‬قليلة‭/ ‬كثيرة،‭ ‬وكان‭ ‬يؤلمني‭ ‬ارتباط‭ ‬يوم‭ ‬مولدي‭ ‬بيوم‭ ‬صعود‭ ‬ذلك‭ ‬الجزافي‭ ‬الى‭ ‬كرسي‭ ‬الحكم‭ ‬واختطافه‭ ‬يوم‭ ‬مولدي‭ ‬تحت‭ ‬مسمى‭ ‬‮«‬الفاتح‭ ‬من‭ ‬سبتمبر‮»‬،‭ ‬وهكذا‭ ‬فإن‭ ‬ثورة‭ ‬فبراير‭ ‬الظافرة‭ ‬حررت‭ ‬يوم‭ ‬مولدي،‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الارتباط‭ ‬المشؤوم،‭ ‬وكلنا‭ ‬قيادات‭ ‬وشعوبا‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬مذنبون‭ ‬لكوننا‭ ‬كنا‭ ‬نتعامل‭ ‬مع‭ ‬القذافي‭ ‬كمهرج،‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬هوائيا‭ ‬يفعل‭ ‬أشياء‭ ‬غير‭ ‬متوقعة‭ ‬للفت‭ ‬الانتباه‭ ‬إلى‭ ‬نفسه،‭ ‬وقد‭ ‬أدركت‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬أن‭ ‬معمر‭ ‬القذافي‭ ‬شخص‭ ‬غير‭ ‬سوي‭ ‬عندما‭ ‬منع‭ ‬استخدام‭ ‬الشامبو‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬في‭ ‬السبعينيات،‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬ان‭ ‬البيض‭ ‬يدخل‭ ‬في‭ ‬صناعته‭. ‬ليش‭ ‬يا‭ ‬سعادة‭ ‬الأخ‭ ‬العقيد؟‭ ‬قال‭: ‬لأن‭ ‬مئات‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬بني‭ ‬البشر‭ ‬لا‭ ‬يجدون‭ ‬بيضا‭ ‬للأكل،‭ ‬شخصيا‭ ‬لا‭ ‬استخدم‭ ‬الشامبو،‭ ‬ولكنني‭ ‬استخدمته‭ ‬لحين‭ ‬من‭ ‬الدهر‭ ‬نكاية‭ ‬بالقذافي،‭ ‬رغم‭ ‬أنني‭ ‬وفي‭ ‬دواخلي‭ ‬أكثر‭ ‬منه‭ ‬تعاطفا‭ ‬مع‭ ‬المعذبين‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬من‭ ‬الفقراء،‭ ‬ولكنني‭ ‬وبعكسه‭ ‬عاقل‭ ‬وأعرف‭ ‬أن‭ ‬توقف‭ ‬الناس‭ ‬عن‭ ‬استخدام‭ ‬الشامبو‭ ‬الذي‭ ‬يحوي‭ ‬البيض‭ ‬لن‭ ‬يعني‭ ‬ان‭ ‬حصة‭ ‬الفقراء‭ ‬من‭ ‬البيض‭ ‬سترتفع‭.‬

وما‭ ‬شجعني‭ ‬على‭ ‬الاستغناء‭ ‬تماما‭ ‬عن‭ ‬الشامبو‭ ‬بكل‭ ‬أنواعه‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬عديدة،‭ ‬أن‭ ‬الله‭ ‬حباني‭ ‬بشعر‭ ‬وجوده‭ ‬وعدمه‭ ‬سيان‭ ‬في‭ ‬نظري،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أخشى‭ ‬على‭ ‬نفسي‭ ‬من‭ ‬الصلع،‭ ‬ولما‭ ‬شاب‭ ‬رأسي‭ ‬لم‭ ‬تفرق‭ ‬المسألة‭ ‬معي،‭ ‬وقبلها‭ ‬لم‭ ‬اكن‭ ‬استخدم‭ ‬الا‭ ‬شامبو‭ ‬الأطفال‭ ‬وصابون‭ ‬الأطفال‭ ‬وكريمات‭ ‬الأطفال،‭ ‬ظنا‭ ‬مني‭ ‬ان‭ ‬الخواجات‭ ‬لا‭ ‬يتلاعبون‭ ‬بأرواح‭ ‬الأطفال،‭ ‬ولكنني‭ ‬فوجئت‭ ‬مؤخرا،‭ ‬بان‭ ‬معظم‭ ‬شامبوهات‭ ‬الاطفال‭ ‬تحوي‭ ‬تلك‭ ‬مادة‭ ‬ضارة‭ ‬بالجلد،‭ ‬وهكذا‭ ‬ازددت‭ ‬سوء‭ ‬ظن‭ ‬بالمخترعات‭ ‬الحديثة‭ ‬وقررت‭ ‬العودة‭ ‬الى‭ ‬صابون‭ ‬‮«‬حبوبة‭ ‬فاطمة‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الصابون‭ ‬تنتجه‭ ‬السجون‭ ‬السودانية‭ ‬وكانت‭ ‬وزارة‭ ‬التربية‭ ‬تقدمه‭ ‬فيما‭ ‬مضى‭ ‬مجانا‭ ‬لتلاميذ‭ ‬المدارس‭ ‬لما‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬خواص‭ ‬فعالة‭ ‬في‭ ‬قتل‭ ‬القمل‭ ‬الخبيث،‭ ‬وإذابة‭ ‬الدهون‭ ‬والشحوم‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬الملابس،‭ ‬وكان‭ ‬الأرستقراطيون‭ ‬منا‭ ‬يستخدمون‭ ‬صابون‭ ‬‮«‬الفنيك‮»‬‭ ‬carbolic‭ ‬soap‭ ‬وكانوا‭ ‬يمشون‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬مرحا‭ ‬بينما‭ ‬تفح‭ ‬منهم‭ ‬رائحة‭ ‬الديتول،‭ ‬فالفنيك‭ ‬أساسا‭ ‬مادة‭ ‬طبية‭ ‬مطهرة‭ ‬شديدة‭ ‬النفاذ‭ ‬الى‭ ‬الأنف‭ ‬والأذن‭ ‬والحنجرة،‭ ‬وكان‭ ‬هناك‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬معجون‭ ‬الأسنان‭ ‬سوداني‭ ‬الصنع‭ ‬اسمه‭ ‬سوبر‭ ‬كريستال‭ ‬يستخدمه‭ ‬البعض‭ ‬كفاتح‭ ‬للشهية،‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يحوي‭ ‬كمية‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الشطة،‭ ‬فتجد‭ ‬شخصا‭ ‬يدخل‭ ‬بعضا‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬المعجون‭ ‬في‭ ‬فمه‭ ‬ثم‭ ‬يبدأ‭ ‬بالصراخ‭ ‬الى‭ ‬ان‭ ‬يغسل‭ ‬فمه‭ ‬سبع‭ ‬مرات‭ ‬إحداهن‭ ‬بالتراب،‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬نعرفه‭ ‬وقتها‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬المعجون‭ ‬الذي‭ ‬كنا‭ ‬نتهكم‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يستخدمونه‭ ‬كان‭ ‬ذا‭ ‬مواصفات‭ ‬طبية‭ ‬وعلمية‭ ‬عالية،‭ ‬وكان‭ ‬خاليا‭ ‬من‭ ‬المواد‭ ‬الإضافية‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬معجون‭ ‬الاسنان‭ ‬حلو‭ ‬المذاق‭ ‬ولكن‭ ‬فاتكا‭ ‬بالفم،‭ ‬و‭ ‬بالطبع‭ ‬انتصرت‭ ‬المعجونات‭ ‬المستوردة‭ ‬بكل‭ ‬عيوبها‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬المعجون‭ ‬الوطني‭ ‬النظيف‭. ‬وبعد‭ ‬صابون‭ ‬حبوبة‭ ‬فاطمة‭ ‬انتجت‭ ‬المصانع‭ ‬السودانية‭ ‬انواعا‭ ‬من‭ ‬الصابون‭ ‬كانت‭ ‬تصلح‭ ‬للأكل‭ ‬من‭ ‬فرط‭ ‬حلاوة‭ ‬رائحتها‭ ‬وجمال‭ ‬شكلها‭ ‬ولكنها‭ ‬ايضا‭ ‬انهزمت‭ ‬امام‭ ‬المستورد‭. ‬وشيئا‭ ‬فشيئا‭ ‬لحق‭ ‬السودان‭ ‬بركب‭ ‬العرب‭ ‬فبات‭ ‬يستورد‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬ما‭ ‬عدا‭ ‬الأوكسجين‭!!‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا