العدد : ١٧٢٥٤ - الخميس ١٩ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٣ ذو الحجة ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢٥٤ - الخميس ١٩ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٣ ذو الحجة ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

لست مليونيرا ولكنني «غني»

بعث‭ ‬التريليونير‭ ‬الأمريكي‭ ‬إيلون‭ ‬ماسك‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬مايو‭ ‬المنصرم‭ ‬بمجموعة‭ ‬من‭ ‬الحسناوات‭ ‬في‭ ‬جولة‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬الخارجي،‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬استعراض‭ ‬العضلات‭ ‬المالية،‭ ‬ولِم‭ ‬لا‭ ‬وهو‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬تجاوزت‭ ‬ثروته‭ ‬التريليون‭ ‬دولار‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬العالم‭. ‬ومنذ‭ ‬أن‭ ‬دفع‭ ‬الأمريكي‭ ‬المعتوه‭ ‬دنيس‭ ‬تيتو‭ ‬نحو‭ ‬25‭ ‬مليون‭ ‬دولار‭ ‬للقيام‭ ‬برحلة‭ ‬فضائية‭ ‬وأحوال‭ ‬الأثرياء‭ ‬الغربيين‭ ‬تدهشني‭: ‬هذا‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يدور‭ ‬حول‭ ‬الكرة‭ ‬الأرضية‭ ‬ببالون،‭ ‬وذاك‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يدخل‭ ‬التاريخ‭ ‬كأول‭ ‬شخص‭ ‬يبحر‭ ‬عبر‭ ‬المحيطات‭ ‬في‭ ‬حوض‭ ‬حمام‭ (‬بانيو‭)‬،‭ ‬ولكن‭ ‬يدهشني‭ ‬أكثر‭ ‬ولع‭ ‬المليونيرات‭ ‬بالقمار‭: ‬ماذا‭ ‬يريد‭ ‬شخص‭ ‬لديه‭ ‬خمسمائة‭ ‬مليون‭ ‬دولار‭ ‬من‭ ‬مائدة‭ ‬الميسر؟‭ ‬ثلاثة‭ ‬ملايين‭ ‬أخرى؟‭ ‬بل‭ ‬ماذا‭ ‬يفعل‭ ‬إنسان‭ ‬بخمسمائة‭ ‬مليون؟‭ ‬دعك‭ ‬من‭ ‬القمار،‭ ‬لماذا‭ ‬يلهث‭ ‬من‭ ‬لديه‭ ‬مثل‭ ‬ذلك‭ ‬المبلغ‭ ‬لكسب‭ ‬المزيد‭ ‬ويصاب‭ ‬بارتفاع‭ ‬ضغط‭ ‬الدم‭ ‬وانسداد‭ ‬الشرايين‭ ‬وتساقط‭ ‬الشعر‭ ‬والبواسير‭ ‬من‭ ‬طول‭ ‬الجلوس‭ ‬على‭ ‬الكراسي،‭ ‬وبسبب‭ ‬الحزن‭ ‬لعدم‭ ‬فوزه‭ ‬بمناقصة‭ ‬أو‭ ‬عطاء؟‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬لدي‭ ‬خمسمائة‭ ‬ألف‭ (‬وليس‭ ‬مليون‭) ‬دولار،‭ ‬لجلست‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬سنة‭ ‬كاملة‭ ‬بلا‭ ‬شغل‭ ‬أو‭ ‬مشغلة‭ ‬ألحس‭ ‬الآيسكريم‭ ‬وآكل‭ ‬الدو‭ ‬نط‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬اللقيمات‭ ‬بعد‭ ‬عولمتها،‭ ‬تماما‭ ‬مثلما‭ ‬أصبحت‭ ‬الكفتة‭ ‬بيرجر‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬نالت‭ ‬الجنسية‭ ‬الأمريكية،‭ ‬وبمثل‭ ‬ذلك‭ ‬المبلغ‭ ‬لسافرت‭ ‬الى‭ ‬إيطاليا‭ (‬بمفردي‭ ‬طبعا‭) ‬لشراء‭ ‬أحذية‭ ‬بألف‭ ‬دولار‭ (‬خليها‭ ‬عشرة‭ ‬آلاف‭. ‬عنه‭ ‬ما‭ ‬حدش‭ ‬حوّش‭) ‬لزوجتي‭ ‬إشباعا‭ ‬لهوايتها‭ ‬العجيبة‭ ‬في‭ ‬اقتناء‭ ‬الأحذية‭.‬

ما‭ ‬يغيظني‭ ‬بشأن‭ ‬أحوالي‭ ‬المادية‭ ‬هو‭ ‬أنني‭ ‬في‭ ‬قرارة‭ ‬نفسي‭ ‬أحس‭ ‬بأنني‭ ‬من‭ ‬ميسوري‭ ‬الحال‭ ‬جدا،‭ ‬ولا‭ ‬ينقصني‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬المادية،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬رجال‭ ‬الاعمال‭ ‬انعدام‭ ‬الطموح،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬أهلي‭ ‬لا‭ ‬يقصرون‭ ‬في‭ ‬استغلال‭ ‬ثرواتي،‭ ‬وكأنما‭ ‬هناك‭ ‬جهة‭ ‬ما‭ ‬تبلغهم‭ ‬أن‭ ‬أبا‭ ‬الجعافر‭ ‬صار‭ ‬ثريا،‭ ‬فما‭ ‬إن‭ ‬تتجاوز‭ ‬مدخراتي‭ ‬بضعة‭ ‬آلاف‭ ‬من‭ ‬الريالات‭ ‬حتى‭ ‬تصلني‭ ‬رسالة‭ ‬أو‭ ‬مكالمة‭ ‬هاتفية‭ ‬مؤداها‭ ‬أن‭ ‬الأمطار‭ ‬هدمت‭ ‬السور‭ ‬الشرقي‭ ‬لقصر‭ ‬عباس،‭ ‬المكون‭ ‬من‭ ‬غرفتين‭ ‬وبيت‭ ‬للدجاج،‭ ‬وفي‭ ‬فنائه‭ ‬شجرة‭ ‬ليمون‭ ‬ذكر‭ ‬لا‭ ‬تنتج‭ ‬حتى‭ ‬الأريج‭ ‬المعتاد،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬أسنان‭ ‬فلانة‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬تسريب‭ ‬نفطي‭ ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬عمليات‭ ‬تنقيب‭ ‬فيها،‭ ‬ثم‭ ‬ترقيع‭ ‬الحفرة‭ ‬بكسوة‭ ‬ذهبية،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬فلانة‭ ‬ستتزوج‭ ‬بواحد‭ ‬جربان‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬حتى‭ ‬حذاء‭ ‬صالحا‭ ‬للاستعمال‭ ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬توفير‭ ‬الملابس‭ ‬له‭ ‬وللعروس‭. ‬أذكر‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬الثمانينيات‭ ‬أعطي‭ ‬أمي‭ ‬50‭ ‬جنيها‭ ‬شهريا،‭ ‬وأنها‭ ‬كانت‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬ذلك‭ ‬سيفسدها‭ ‬لأنه‭ ‬يفوق‭ ‬احتياجاتها،‭ ‬ثم‭ ‬دارت‭ ‬الأيام‭ ‬وصارت‭ ‬تتقاضى‭ ‬مني‭ ‬شهريا‭ ‬نصف‭ ‬مليون‭ ‬جنيه‭ ‬وتصفني‭ ‬بالبخل‭ ‬والعقوق،‭ ‬فأقول‭ ‬لها‭: ‬يا‭ ‬حاجة‭. ‬يا‭ ‬مسز‭ ‬عباس،‭ (‬تعتبرها‭ ‬شتيمة‭ ‬وتصفعني‭) ‬بلاش‭ ‬بطر‭ ‬فأنت‭ ‬بهذا‭ ‬المبلغ‭ ‬مليونيرة‭ ‬لأن‭ ‬دخلك‭ ‬السنوي‭ ‬من‭ ‬جانبي‭ ‬فقط‭ ‬ستة‭ ‬ملايين‭ ‬من‭ ‬الجنيهات،‭ ‬فتقدم‭ ‬لي‭ ‬محاضرة‭ ‬في‭ ‬التضخم‭ ‬والعرض‭ ‬والطلب،‭ ‬وتذكرني‭ ‬بما‭ ‬أنفقته‭ ‬العائلة‭ ‬على‭ ‬تعليمي،‭ ‬فأتذكر‭ ‬انهم‭ ‬كانوا‭ ‬يعطونني‭ ‬جنيها‭ ‬ونصف‭ ‬الجنيه‭ ‬شهريا‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الجامعية،‭ ‬وأن‭ ‬ذلك‭ ‬جعل‭ ‬مني‭ ‬طالبا‭ ‬مترفا‭ ‬إذ‭ ‬انتقلت‭ ‬من‭ ‬السجائر‭ ‬المحلية‭ ‬إلى‭ ‬المستوردة‭ ‬وتوقفت‭ ‬عن‭ ‬التخميس؛‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬يتقاسم‭ ‬السيجارة‭ ‬الواحدة‭ ‬خمسة‭ ‬أشخاص‭! ‬بل‭ ‬لما‭ ‬كثرت‭ ‬‮«‬النقنقة‮»‬‭ ‬حول‭ ‬أنني‭ ‬أستأثر‭ ‬بجانب‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬راتبي،‭ ‬لأنني‭ ‬ولد‭ ‬جاحد‭ ‬و«نسيت‭ ‬المبالغ‭ ‬المتلتلة‭ ‬التي‭ ‬صرفناها‭ ‬لتنال‭ ‬تعليما‭ ‬جامعيا‮»‬،‭ ‬جلست‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬مع‭ ‬والدي‭ ‬ومعي‭ ‬ورقة‭ ‬وقلم‭ ‬وحسبت‭ ‬له‭ ‬بالقرش‭ ‬والمليم‭ ‬المبالغ‭ ‬التي‭ ‬أنفقها‭ ‬علي‭ ‬منذ‭ ‬دخولي‭ ‬المدرسة‭ ‬الابتدائية،‭ ‬وقدمت‭ ‬له‭ ‬خلاصة‭ ‬الحسابات‭ ‬واتضح‭ ‬أن‭ ‬مجموع‭ ‬ما‭ ‬صرفه‭ ‬علي‭ ‬خلال‭ ‬16‭ ‬سنة‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬عشرين‭ ‬جنيها،‭ ‬وقدمت‭ ‬له‭ ‬ثلاثين‭ ‬جنيها‭ ‬وقلت‭ ‬له‭: ‬هذه‭ ‬فلوسك‭ ‬مع‭ ‬الأرباح‭ ‬‮«‬الربوية‮»‬،‭ ‬وعلى‭ ‬كده‭ ‬خالصين،‭ ‬فأخذ‭ ‬مني‭ ‬المبلغ‭ ‬والسرور‭ ‬باد‭ ‬على‭ ‬وجهه،‭ ‬وقال‭: ‬خلاص‭ ‬كل‭ ‬شهر‭ ‬30‭ ‬جنيه،‭ ‬فقلت‭ ‬له‭ ‬طلباتك‭ ‬أوامر‭ ‬يا‭ ‬عبس،‭ ‬بس‭ ‬فيفتي‭ ‬فيفتي‭ ‬مع‭ ‬مسز‭ ‬عباس‭.‬

والله‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬أتذكر‭ ‬دعوات‭ ‬أمي‭ ‬لي‭ ‬كلما‭ ‬أعطيتها‭ ‬نقودا‭ ‬او‭ ‬ملابس‭ ‬أحسست‭ ‬بأنني‭ ‬جعفر‭ ‬بن‭ ‬طلال‭ (‬قالوا‭ ‬إن‭ ‬سودانيا‭ ‬كان‭ ‬يقف‭ ‬في‭ ‬ساعة‭ ‬متأخرة‭ ‬من‭ ‬الليل‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬فيه‭ ‬تاكسيات‭ ‬وتوقفت‭ ‬له‭ ‬سيارة‭ ‬فارهة‭ ‬وعرض‭ ‬صاحبه‭ ‬توصيل‭ ‬الزول‭ ‬إلى‭ ‬وجهته‭ ‬وكان‭ ‬صاحب‭ ‬السيارة‭ ‬هو‭ ‬خالد‭ ‬ابن‭ ‬الأمير‭ ‬الوليد‭ ‬بن‭ ‬طلال،‭ ‬وأثناء‭ ‬الرحلة‭ ‬سأله‭ ‬السوداني‭ ‬عن‭ ‬اسمه‭ ‬فقال‭: ‬خالد‭ ‬بن‭ ‬الوليد،‭ ‬فرد‭ ‬عليه‭ ‬السوداني‭: ‬وأنا‭ ‬سعد‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬وقاص‭)!‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا