في خضم الحياة اليومية وضجيج المسؤوليات المتعددة، ومع اختلاف درجات سعي الوالدين نحو تحقيق النجاحات المهنية، قد لا ننتبه إلى أن يكون في بيوتنا كنز دفين، وموهبة تنتظر من يكتشفها ويصقلها لتخرج إلى النور.
الحديث هنا ليس عن العباقرة والمشاهير الذين يتم تناقل أسمائهم وصورهم عبر وسائل الإعلام، بل عن أولئك الأطفال أو اليافعين الذين يحملون بداخلهم بذور التميز والابتكار والإبداع، ويعيشون بيننا ولا نراهم، ببساطة هم... في بيوتنا.
هل خطر على بالك أن تتأمل ابنك أو ابنتك يومًا بعينٍ غير تقليدية؟ ليست تلك العين التي تراجع دروسه أو تقوّم سلوكه، أو تصدر أوامر مثقلة بالمقارنات والإنجازات المفروضة، بل العين التي تراه حين يكون على طبيعته، لحظة اندماجه مع لعبة أو تفكيكها، شغفه اللافت بأمرٍ ما دون غيره واهتمامه الزائد بهذا المجال، أو لحظة حديثه مع ذاته وهو بمعزل عن الآخرين، أو عندما يحدّق في شيء لا يراه غيره، أو صدور الوميض في عينيه عندما يتحدث عن موضوع معين؟ أو يطرح سؤالًا عميقا أو غير اعتيادي أكبر من عمره؟ وتتجاهله ملوحًا بيدك قائلًا (بعدين.. بعدين).
كم من طفل بين أيدينا يمرّ أمامنا يوميًا، يحمل بذور موهبة حقيقية، لكننا لا نراها، ولا نشعر حتى بوجودها.
لماذا تعتقد أيها القارئ أن يحدث ذلك؟ هل لأن الوالدين مشغولان فعلًا معظم الوقت، إن لم يكن كل الوقت، أو لأنهما لا يتقبلان أن يكون ابنهما مختلفا ومميزا عن الآخرين.
نحن الآباء والأمهات، قد نكون أقرب الناس إلى أطفالنا، لكن ذلك لا يعني أننا الأوعى باحتياجاتهم أو الأقدر على فهم ما بداخلهم، نراقب تحصيلهم الدراسي ونُلزمهم بالتفوق الدراسي في جميع المواد من دون استثناء، وكأن النجاح لا يُقاس إلا بالأرقام. وإن خذلتنا النتائج، سارعنا بإعلان حالة التأهب القصوى في المنزل، تُطلق صافرات الإنذار، ويُفعّل نظام الطوارئ التربوي في البيت، حيث يعلو التوبيخ، ويخفت الحوار، في مشهد لا يعبّر بالضرورة عن حب، بقدر ما يعكس خوفًا لا نحسن ترجمته، كأننا نترقب مؤشرات سوق الأسهم أو سعر صرف الدولار، نصعد معهم إن ارتفعت درجاتهم، ونتوتر إن انخفضت، وكأن مستقبلهم الأكاديمي مرتبط بلحظات التقلب تلك، ناسين أن بناء الإنسان لا يُقاس بلحظة بل بمسار طويل من الفهم والرعاية، وأن الذكاء لا يُقاس بدرجة، وأن الشغف لا يُرصد في دفتر الدرجات.
فالموهبة لا تطرق الباب بصوتٍ عالٍ، بل تظهر بهدوء، في تفاصيل صغيرة، لا يلاحظها إلا من رأى طفله بعين مختلفة، فقد يبدو واضحا على طفلك في إصراره على معرفة السبب لموضوع ما، في انزعاجه من التكرار في دراسة محتوى معين، في فضوله للتجريب، في خياله الواسع، في طريقته في التعبير أو ابتكار حلول جديدة غير مسبوقة، أو في شغفه الشديد بشيء محدد لا يمل منه. ومع ذلك، كم من هؤلاء الأطفال خُنقوا بأوامر التقيّد، أو سُخر منهم لأنهم «يفكّرون كثيرًا»، أو ما يسمى بالتفكير «خارج الصندوق» أو كُسر فضولهم المبكر من قبل الام أو الاب أو المعلم أو من يحيط بهم.
لا أحد يُولد موهوبًا على العلن، كل طفل يحتاج عينًا تؤمن، وأذنًا تصغي، وقلبًا يحتوي، ولو أننا منحنا أبناءنا قليلًا من وقتنا، بعيدًا عن مقارنتهم بغيرهم، وسألنا أنفسنا: «ماذا يحب ابني؟ ما الذي يميّزه فعلًا عن أقرانه؟ ما الذي يفعله حين لا يُطلب منه شيء؟ كيف يقضي وقت فراغه»، أين وكيف يخلو بنفسه، لرأينا عجبًا، كثير من الموهوبين لا يُكتشفون لأن أهلهم لم يعلمونا كيف يرون أبناءهم بالعين غير التقليدية، أو لأنهم ببساطة لم يخطر على بالهم أن أبناءهم يمكن أن يكونوا مميزين.
فالموهبة هي استعداد فطري أو قدرة استثنائية في مجال معين، تظهر منذ الصغر وقد تتطور بشكل لافت إذا وجدت من يرعاها ويوجهها. وقد تكون الموهبة على سبيل المثال لا الحصر، في مجالات أكاديمية كالرياضيات والعلوم، أو فنية كالرسم والموسيقى والشعر، أو حتى اجتماعية مثل القيادة والتواصل وغيرها.
الحقيقة أن كل بيت فيه احتمال كبير لموهبة مدفونة لم تر النور ولم تزهر تحت القلق والمقارنة اليومية والضغط، بل تنمو بالحرية، والتشجيع، والفرص البسيطة التي تتيح للطفل أن يعبّر عن نفسه كما هو.
ليس المطلوب أن تجعل من ابنك بطلًا عالميًا، بل أن تمنحه ما يكفي من الحب والفهم والفرص ليكون هو نفسه، في أفضل صورة ممكنة. أن يكون في بيتك موهوب، يعني أن الله وهبك شيئًا نادرًا. فهل ستقابله بالإهمال؟ أم بالبصيرة؟
افتح قلبك، ومدّ يدك، فالموهبة لا تُكتشف من بعيد، بل تُصنع في حضنٍ دافئ، وبيئة تُشبه البيت.. حين يكون أهل البيت واعين، فالموهبة لا تنتظر. فإن لم تجد من يحتويها، ذبلت أو انحرفت. في بعض البيوت، يُكتشف الطفل من قِبل معلم، أو صديق العائلة، أو حتى منصة إلكترونية، فينهض الأهل مفاجَأين: «حقًا؟ لم نكن نعلم!» وهذا مؤلم. المؤلم أكثر أن يكبر ابنك وهو يظن أنه «عادي» لأنه لم يجد من يخبره أنه مختلف في أجمل شكل ممكن.
فهل بعد هذا الحديث نحن مستعدون الآن أن نرى أبناءنا بعين مختلفة؟ وأن نؤمن بهم حتى لو خالفوا المألوف؟ أن نتوقف عن قول: «متى ستفهم؟» ونبدأ بسؤال: «ما الذي تفكر فيه؟»، في كل بيت حكاية لم تُكتب بعد، وبداية موهبة لم تظهر بعد، تنتظر من يمنحها الضوء... فهل سنكون نحن من يبدأ الحكاية، أم ننتظر أن يُخبرنا الآخرون أن في بيتنا موهوب؟
{ دكتوراه في تربية الموهوبين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك