من التجارب الممتعة التي استمتعت وأنا أقوم بها، وغيَّرت كثيرا من مفاهيمي ومهاراتي، تجربة إعادة وبناء إدارة المواد البشرية في واحدة من المؤسسات في دولة صديقة، فقد اتصل بي أحد الأصدقاء من تلك الدولة، الذي عين مؤخرًا كمسؤول لإدارة الموارد البشرية، بعد أن أحيل المسؤول الإداري السابق للتقاعد. فقال لي: أنت تتحدث دائمًا عن المسؤول الإداري القائد والذكاء الإداري وتضع أدلة للراغبين في ذلك، فهل يمكنك مساعدتي في مهمتي الجديدة.
وبعد أن فهمت الموضوع من خلال محادثة بالهاتف التي امتدت حوالي ساعة، وافقت على الفكرة، وبعد أسبوع حملت حقيبتي، وسافرت إليه، وخلال تلك الفترة وضعت بعض الخطط وبرامج عمل والمفاهيم وبعض المهارات وما إلى ذلك بناء على المحادثة الهاتفية.
في اليوم الأول، اجتمعت مع الأخ الصديق، طوال النهار، أصغيت إليه بحرفية وكنت أكتب كل ما جرى من حوارات في الاجتماع، وكأني كاتب محضر الاجتماع، ثم طلبت منه الاجتماع مع الإدارة العليا، والموظفين التابعين لإدارة الموارد البشرية، وخلال كل تلك الاجتماعات لم أكن أتحدث كثيرًا، ولكني كنت بالفعل أطرح الأسئلة التي تختلف بناء على المستويات التي اجتمعت معها، فالأسئلة التي تطرح على الإدارة العليا تختلف عن الأسئلة التي تطرح على الموظفين. وبعد يومين أصبحت الصورة واضحة لدي، وعرفت الفكرة والهدف والتغييرات التي من الممكن أن تحدث في ظل الرغبة في التغيير وخاصة التي كانت موجودة لدى الإدارة العليا.
وفي اليوم الرابع لم أذهب إلى المؤسسة، وإنما بقيت في غرفتي في الفندق أكتب طوال اليوم وأضع خطة متكاملة لإعادة تشكيل إدارة الموارد البشرية، فأنا من الذين يؤمنون أن إدارة الموارد البشرية ليست مجرد إجراءات إدارية متعلقة بالغياب والحوافز وما إلى ذلك، بل استثمار استراتيجي في نجاح المؤسسة واستدامتها.
وفي الصباح من اليوم التالي عرضت الفكرة والخطة على الإدارة العليا في اجتماع حضره جمع من المسؤولين. وبعد عدة ساعات من الحوار والنقاش تمت الموافقة على الخطة مع إضافة بعض التغيرات وبعض النقاط التي وجدت الإدارة أنها ضرورية.
وإليكم دليل عملي للمؤسسات لكيفية تشكيل وإعادة بناء إدارة الموارد البشرية، وهي كالتالي:
أولاً: تحليل الوضع الحالي للموارد البشرية؛ والهدف من هذا التحليل هو معرفة نقاط البداية ونقاط الضعف والقوة وتحديد الفجوات الموجودة في الإدارة سواء الحالية أو المستقبلية حتى لا نقع فيها مستقبلا.
من الممكن أن نستعين ببعض البرنامج أو طرق التحليل النموذجية الموجودة أصلاً، مثل تحليل الرباعي (سوات) أو غيرها، بهدف تقييم أو استكشاف الوضع الحالي للإدارة، ذلك لأن هذه الخطوة تحديدًا نحتاج فيها إلى شفافية تامة، فمن غيرها فإننا سنكون نحاول أن نخدع أنفسنا ونخفي الحقائق التي يمكن أن نحتاج إليها. وخلال هذه المرحلة فإنه ينبغي أن نطرح عديدا من الأسئلة، مثل: ماذا نفعل حاليًا؟ ما الموجود من سياسات مُعدة؟ هل توجد سجلات للموظفين؟ ما لدينا من أدوات للتقييم أو للإدارة، وما الأدوات المتوفرة؟
ثانيًا: تنظيم ملفات الموظفين وإنشاء نظام حفظ السجلات؛ وذلك بهدف ضمان الامتثال للقوانين وسهولة إدارة البيانات. ولكن كيف؟
أجرينا تقييمًا للملفات والسجلات الموجودة حاليًا، فوجدنا أن هناك بعض الضعف هنا وهناك، وكان هذا النقص بسبب قلة المعلومات وعدم تحديثها باستمرار، وبعض الأمور الأخرى المتعلقة بهذا الجانب. وعندما تدارسنا الأمر مع الأخوة والأخوات الموظفين وجدنا أنه لابد أن نستشير إدارة تقنية المعلومات في المؤسسة، وبالفعل حصل ذلك، قام المسؤول الإداري القائد بشرح الفكرة للأخ المسؤول التقني وبعد عدة جلسات وزمن عرض علينا طريقة جميلة لتسجيل وتنظيم ملفات الموظفين، تتمتع بسهولة الوصول إلى المعلومة المراد الحصول عليها بالإضافة إلى السرية التامة للوصول إلى المعلومات وكانت تتمتع بخصوصية منقطة النظير، إذ لا يملك الأرقام السرية إلا فئة قليلة من الموظفين، وتتغير الأرقام بين الفنية والأخرى.
ثالثًا: مراجعة السياسات الرسمية وتحديثها؛ مع التحديث والتغيير المستدام الذي نعيشه فإن المؤسسة حتمًا تحتاج إلى إعادة النظر في سياساتها الداخلية، ونحن هنا لا نتحدث عن السياسات العامة للدولة والحكومة وإنما الذي نقصده هو السياسات الداخلية التي تقوم بتنظيم العمل الداخلي، مثل الإجازات، وساعات العمل، وأخلاقيات العمل، والإجراءات التأديبية وما إلى ذلك.
لذلك قمنا مع فريق العمل المشكل من مجموعة من الإدارات بمراجعة كل تلك السياسات، وإعادة تقييمها، فوجد الفريق أنه بالفعل توجد بعض السياسات البالية التي تحتاج إلى تحديث، لأنه لا يمكن ونحن في هذه السنوات السريعة التي تتمتع بالتقنية والذكاء الاصطناعي أن نعامل الأفراد وكأننا في الستينيات من القرن العشرين.
رابعًا: تأسيس عمليات التوظيف والاستقبال، وإن كانت موجودة فإنه يجب إعادة قراءتها؛ نحن نعلم أن التوظيف مهمة أصيلة لإدارة الموارد البشرية، ليس ذلك فحسب وإنما في إدارة الموارد البشرية الحديثة فإن البحث عن الكفاءات ودمجهم بسلاسة في العمل يعد في حد ذاته عملاً مهماً لا يمكن نكرانه، فالمؤسسات التي تجد أنه من المناسب تطوير أعمالها بما يتوافق مع رغبات العميل، عليها أن تبحث عن كل تلك الكفاءات وتجذبهم بأفضل العروض.
لذلك تم تكليف فريق العمل بمراجعة كل الأوصاف الوظيفية بصورة دقيقة، وتقييمها بما يتوافق مع استراتيجية المؤسسة، ومن ثم إعادة كتابتها، وكذلك وضع الفريق دليلاً لطرق مقابلات العمل والتوظيف والاختبارات التي يمكن إجراؤها وطرق الاستقبال، وكيفية شرح ثقافة المؤسسة واستراتيجيتها، وأساليب الترقية والحوافز وما إلى ذلك.
خامسًا: دراسة نظام التعويضات والمزايا والمكافآت والبدلات المختلفة؛ تم تكليف فريق العمل بعمل دراسة مسحية للسوق العام والخاص، بهدف دراسة أنظمة المكافآت والتعويضات والبدلات في مختلف القطاعات، فوجدنا أن الفارق يستحق إعادة النظر في النظام الموجود حاليًا، وبالفعل قام المسؤول الإداري القائد ومجموعة من موظفي الإدارة بعمل مجهود كبير في التعديل بما يتوافق مع الميزانية المتاحة، والسبب أن الذي يحدد السير قدمًا في هذا الطريق هي الميزانية المتاحة، فلا يمكن تجاوزها وتجاهلها، ولكن كانت النتيجة مقبولة.
سادسًا: مراجعة التقنيات المتوفرة وتحديد وتقييم الاحتياجات؛ مرة أخرى قمنا بالاجتماع مع إدارة تقنيات المعلومات، وذلك بهدف دراسة وتقييم وتحديث الأدوات والأجهزة مثل الحواسيب وشبكة الإنترنت الداخلية وكيفية استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي وما إلى ذلك في تطوير العمل بصورة عامة.
قام الفريق بعمل دراسة مسحية وجرد لكل الأجهزة التي تستخدم في المكاتب أو بين يدّي العاملين التي يستخدمونها في عملهم خارج المكاتب، وبعد فترة زمنية رفعوا تقريرًا عن الوضع الحالي والمستقبلي إن لم يتم التحديث المطلوب خلال فترة وجيزة. وكذلك رفعوا قائمة بكل المواد المطلوبة وكيفية تحديثها بأقل تكلفة ممكنة. تم رفع التقرير إلى الإدارة العليا لدراستها ووضع الميزانية المناسبة لذلك.
سابعًا: التأكد من الامتثال للقوانين العامة؛ بمساعدة المستشار القانوني للمؤسسة قمنا بدراسة كل الإجراءات التي يمكن أن تؤدي إلى مخالفات قانونية، سواء في التوظيف أو المكافآت والتأمينات الاجتماعية وأنظمة التقاعد، كان الهدف من كل هذا أن تكون كل هذه الأمور واضحة وشفافة يمكن أن يعود إليها الموظف كلما رغب، فهي ليست أنظمة سرية أو غير قابلة للتداول.
فقام فريق العمل بالتعامل مع المستشار القانوني بمراجعة قوانين العمل المحلية، التأمينات الاجتماعية، الضرائب، والرسوم، وكل ذلك، ووضع دليل واضح للعاملين في المؤسسة وذلك لمن رغب.
ثامنًا: إعداد دليل الموظف؛ عندما طرحنا هذه الفكرة كان السؤال المطروح ما الذي يجب أن يحتويه الدليل؟ وبعد طول حوار ونقاش وجدنا أن الدليل من المهم أن يحوي سياسات المؤسسة واستراتيجيتها وآفاقها المستقبلية المستدامة، الإجراءات، ثقافة المؤسسة، حقوق وواجبات الموظفين، والهياكل التنظيمية وأنظمة الجودة والتقييم وطرق الرقابة والمراجعة والتقييم السنوي وما إلى ذلك من معلومات يحتاجها كل الموظفين الجدد والقدامى.
تاسعًا: وضع خطط التعلم والتدريب والتطوير؛ من أجل تعزيز الكفاءة ودعم أهداف العمل المستدام للمؤسسة، فإن التعلم الذاتي والتدريب يعدان جزءًا أصيلاً من مهام إدارة الموارد البشرية، ولكن للأسف فإن كثيرا من المؤسسات تهمل هذا الجانب من العمل الإداري التدريبي، ربما بسبب قلة الموارد المالية والميزانيات أو حتى لعدم اهتمام بعض المسؤولين الذين يعتقدون أنهم يعرفون كل شيء، لذلك وجهنا اهتمامنا في هذه المرحلة لمعرفة برنامج التعلم الذاتي والتدريب لدى المؤسسة.
قمنا في المرحلة الأولى بدراسة الاحتياجات التدريبية لجميع الموظفين من أعلى منصب إلى أقل منصب، ليس ذلك فحسب وعملنا تقييم مهارات ومعلومات لجميع الموظفين، كل ذلك بما يتوافق مع أهداف المؤسسة ونطاق عملها واستراتيجيتها.
قمنا بتصنيف الموظفين حسب ميولهم واهتماماتهم وقدراتهم، ثم تم الاتفاق مع بعض المعاهد التدريبية لوضع برامج تدريبية لكل تلك الفئات والتصنيفات.
عاشرًا: وضع استراتيجية خاصة بإدارة الموارد البشرية؛ أن تكون للمؤسسة استراتيجية خاصة بها فهذا أمر حتمي، لا مجال لمناقشته، ولكن وجدنا أنه من الضروري أن تكون لإدارة الموارد البشرية خطة خاصة بها تهدف إلى ربط الموارد البشرية باستراتيجية المؤسسة نفسها.
تشمل الخطة كل النقاط السابقة التي تحدثنا عنها، كالتدريب وتقييم الأداء، والتعويضات وثقافة المؤسسة وما إلى ذلك.
حادي عشر: وضع برنامج وخطة للتقييم والمتابعة؛ نؤمن بالمبدأ الذي يقول: «من لا يعمل بالمنهجية فإنه حتمًا يعمل بهمجية أو عشوائية»، ونحن هناك لا نريد أن نترك عملنا بكل هذه المحطات من غير متابعة ومراجعة وتقييم، وبناء على هذا الأساس وضعنا منظومة للتقييم والمتابعة، وكلفنا بها المسؤول الإداري القائد وفريق عمل خاص، على أن يقوم هذا الفريق بكتابة تقرير نصف سنوي لتوضيح الإنجازات والإخفاقات وما إلى ذلك.
وبعد كل هذه الفترة الزمنية، ما زالت تصلني تقارير التقييم النصف سنوية، بهدف المتابعة والتقييم والمراجعة، وفي الحقيقة فإن المؤسسة تتطور بصورة مذهلة، ومرة أخرى نقول، إن الموارد البشرية ليست مجرد إجراءات إدارية، بل استثمار استراتيجي في نجاح المؤسسة واستدامتها.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك