بعد مرور 600 يوم على ارتكاب جيش الاحتلال الإسرائيلي جرائم حرب مروعة، ومتواصلة ضد المدنيين الفلسطينيين في غزة؛ أجرت الحكومة البريطانية، برئاسة رئيس الوزراء السير «كير ستارمر»، في أواخر مايو 2025، بعض التعديلات المحدودة على سياستها تجاه حكومة «بنيامين نتنياهو»، اليمينية المتطرفة، حيث استدعت السفير الإسرائيلي لدى المملكة، وعلّقت المحادثات التجارية، وفرضت عقوبات على عدد محدود من المستوطنين غير الشرعيين في الضفة الغربية.
ومع ذلك، طالب عدد من البرلمانيين البريطانيين، والمسؤولين الحكوميين السابقين، والأكاديميين، والخبراء القانونيين؛ البرلمان باتخاذ خطوات أكثر حزمًا. ومن بين هؤلاء أكثر من 800 خبير قانوني -من ضمنهم قاضيَا المحكمة العليا السابقان، اللورد «ويلسون»، واللورد «سامبشن»- والذين دعوا مؤخرًا «ستارمر»، إلى فرض عقوبات فورية، تشمل حظر السفر، وتجميد الأصول المالية بحق الوزراء الإسرائيليين، إلى جانب التعليق الفوري لمبيعات ونقل الأسلحة إلى إسرائيل.
وعلى النقيض تمامًا من هذه الأصوات المنتقدة -وبخلاف الاتجاه العام للرأي العام البريطاني الذي يميل إلى إدانة الحرب- واصل حزب المحافظين، بوصفه أبرز أحزاب المعارضة في المملكة المتحدة، تبني مواقف مؤيدة لإسرائيل بشكل واضح، سواء بوسائل الإعلام، أو داخل البرلمان، وهي التصريحات التي تعكس السردية الدعائية التي يروج لها «نتنياهو»، وحلفاؤه المتطرفون في الحكومة، بما في ذلك الأكاذيب الممنهجة لتبرير الحرب على غزة، والانتهاكات بحق الشعب الفلسطيني.
ويمتلك حزب المحافظين، بقيادة «كيمي بادينوك»، 120 مقعدًا في «مجلس العموم»، إلا أن التغطية الإعلامية الغربية ركّزت مؤخرًا على ضعف موقعها داخل الحزب، وعلى التصريحات التحريضية التي أطلقتها بشأن حرب إسرائيل على غزة. وإلى جانب سجلها الطويل في دعم إسرائيل وتجاهل معاناة الفلسطينيين؛ أدلت في أواخر مايو 2025، بتصريحات مثيرة للجدل أمام تجمع لأصدقاء إسرائيل من المحافظين، زعمت فيها أن حزبها يمثل «خط الدفاع الأخير» عن إسرائيل في مواجهة ما وصفته بـ«تحالف غير مقدس بين اليسار المتشدد والمتطرفين الإسلاميين». وبعدها، وفي مقابلة مع شبكة «سكاي نيوز»، ادعت أن ما تتعرض له غزة من قتل وإصابة وتشريد لمئات الآلاف من المدنيين، هو بمثابة «حرب بالوكالة» تشنها إسرائيل «نيابة عن المملكة المتحدة».
ورغم أن بعض نواب حزب المحافظين في مجلسي العموم واللوردات، أثاروا تساؤلات بشأن سياسات بريطانيا تجاه إسرائيل، وما يحدث في غزة؛ فإن الغالبية العظمى منهم ما زالت تواصل دعمها لقوات الاحتلال، وإن كان ذلك يتم غالبًا عبر مشاركتهم في فعاليات خاصة بعيدًا عن التصريحات العلنية أو المواقف البرلمانية الرسمية، وهو الأمر الذي وصفه «كريس دويل»، من «مجلس التفاهم العربي البريطاني»، بأنه «عدم إدراك سياسي واضح لحجم الجرائم التي ترتكبها إسرائيل»، متسائلًا عما إذا كانت هناك «جريمة إسرائيلية مروعة بما يكفي»، لتدفع حزب المحافظين إلى إعادة النظر في دعمه غير المشروط لإسرائيل.
وحتى قبل أن تتولى زعامة حزب المحافظين في نوفمبر 2024، عقب هزيمة «ريشي سوناك»، في الانتخابات العامة أمام «ستارمر»، في يوليو من العام نفسه؛ أظهرت «بادينوك»، توجهاتها الداعمة لإسرائيل، حيث امتنعت في نوفمبر 2023 عن التصويت في «مجلس العموم»، على قرار يدعو إلى تأييد وقف إطلاق النار في غزة لأسباب إنسانية.
ومنذ توليها زعامة الحزب، دافعت علنًا عن سياسات حكومة «نتنياهو»، فعقب منع السلطات الإسرائيلية دخول نائبين من حزب العمال كانا في مهمة برلمانية لتقصي الحقائق بالضفة الغربية في أبريل 2025؛ سارعت إلى تأييد إسرائيل، معتبرة أن لكل «دولة الحق في ضبط حدودها». ولم تكتف بذلك، بل ألمحت إلى وجود «دوافع خبيثة»، وراء زيارتهما، بالقول إنه «يجب على من يمثلوننا في البرلمان أن يكونوا قادرين على زيارة أي مكان في العالم دون أن تخشى الدول من نواياهم». وقد أثارت هذه التصريحات موجة انتقادات في الأوساط السياسية البريطانية، ووصفها وزير الخارجية «ديفيد لامي»، بأنها «مشينة»، فيما رفضت «إميلي ثورنبيري»، رئيسة لجنة الشؤون الخارجية في مجلس العموم، هذه التصريحات ووصفتها بأنها «هُراء».
ومنذ ذلك الحين، صعدت «بادينوك»، من تعليقاتها الداعمة لإسرائيل. وفي فبراير 2025، تحدثت إلى «مجلس العموم»، عن كيف كان من «الخطأ تمامًا»، منح عائلة فلسطينية -مؤلفة من ستة أفراد دُمر منزلها في غزة بغارة جوية إسرائيلية- حق اللجوء إلى المملكة المتحدة، وادعت في أبريل أن نواب حزب العمال المنتقدين لإسرائيل «يروجون لرواية حماس». وعطفًا على قرار «ستارمر»، بزيادة الضغط على حكومة «نتنياهو»، لإنهاء قصفها على غزة إلى جانب الحكومتين الفرنسية والكندية؛ صرحت بأن القرار قُوبل «بهتافات إرهابية».
وكأمثلة أخرى على سعيها في السابق إلى تعزيز مصالح إسرائيل في وسائل الإعلام والأوساط السياسية البريطانية؛ أبدت اعتراضها على فيلم وثائقي بثته «هيئة الإذاعة البريطانية» (BBC) بعنوان «كيف تنجو في منطقة حرب»، والذي تناول معاناة المدنيين الفلسطينيين في غزة، حيث تقدمت بشكوى إلى المدير العام للهيئة، مدعية أن تغطيتها «تفتقر إلى المصداقية»، ولوّحت بسحب الدعم الحكومي عنها في حال أصبحت رئيسة للوزراء. وفي منتصف مايو، حلت أيضًا كأحد ضيوف فعالية سرية نظمتها السفارة الإسرائيلية بلندن احتضنها المتحف البريطاني.
وفي 19 مايو 2025، أدلت «بادينوك»، في خطابها خلال غداء عمل استضافته جمعية «أصدقاء إسرائيل المحافظون»، بتصريحات لم تنشرها وسائل الإعلام البريطانية الرئيسية، مثل «بي بي سي»، و«الجارديان»، و«الإندبندنت»، و«التلجراف»، موجّهة رسالة مباشرة إلى حكومة نتنياهو، قائلة: «إسرائيل ليست وحدها.. نحن نقف إلى جانبكم»، مؤكدة مجددًا «دعمها الثابت لإسرائيل».
وبعد خطابها المثير للجدل، واصلت «بادينوك»، نهجها التحريضي خلال مقابلة تلفزيونية أجرتها مع السير «تريفور فيليبس»، الرئيس السابق للجنة المساواة وحقوق الإنسان البريطانية، على قناة «سكاي نيوز»، حيث زعمت أن ما يتعرض له الفلسطينيون في غزة «ليس إبادة جماعية»، رغم التوثيق الدولي المتزايد للجرائم المرتكبة ضد المدنيين. وعندما واجهها «فيليبس»، بأسئلة مباشرة، حول غياب أي انتقاد من جانبها لإسرائيل، تهربت من الرد المباشر، مدعية أن أفعال إسرائيل، بل وحتى خطاب نتنياهو وأعضاء ائتلافه المتطرف، «ليست من اختصاصها». وفي المقابل، ركزت على أن إيران «تموّل حماس»، وادعت أن حرب إسرائيل على غزة تُعد «حربًا بالوكالة» نيابة عن بريطانيا، على غرار مقاومة أوكرانيا «نيابة عن أوروبا الغربية ضد روسيا».
وقد أثار خطابها إدانة واسعة من سياسيين ونشطاء حقوق الإنسان. وندد «أيوب خان»، النائب المستقل عن دائرة «برمنغهام»، بهذه التصريحات ووصفها بأنها «مفلسة أخلاقيًا»، و«مخادعة بشكل خطير»، مؤكدًا أن تصريحاتها «محاولة لنسج روايات كاذبة، ونشر معلومات مضللة»، باعتبار أنها «تُكرر خطاب حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل. ووصفها «دويل»، بأنه «موقف مشين آخر»، من زعيمة حزب المحافظين، مؤكدًا أنها انحازت بوضوح لرجل مطلوب من قبل «المحكمة الجنائية الدولية»، بتهمة ارتكاب «جرائم حرب»، وأن رفضها إدانة أفعال إسرائيل يعكس «استمرار العنصرية المعادية للعرب، والموقف المعادي للإسلام لدى قيادتها».
علاوة على ذلك، عكس المشهد داخل حزب المحافظين وجود دعم مؤسسي قوي ومستمر لإسرائيل، رغم الانتقادات المتفرقة التي أبداها بعض أعضاء البرلمان بشأن السياسة البريطانية تجاه حرب إسرائيل على غزة، حيث شارك 12 نائبًا من حكومة الظل بقيادة «بادينوك»، في فعالية «أصدقاء إسرائيل المحافظون»، سابق الإشارة إليها في مايو- إلى جانب الوزيرتين السابقتين «سويلا برافرمان»، واللورد «إريك بيكلز»- ما يعكس تأييدًا مؤسسيًا مستمرًا داخل قيادة الحزب.
كما برزت أيضًا «بريتي باتيل»، وزيرة الخارجية في حكومة الظل، كداعمة صريحة لإسرائيل. وردا على قرار «ستارمر»، بتعليق 30 ترخيصًا لتصدير الأسلحة إلى إسرائيل في سبتمبر 2024، وصفت القرار بأنه «خيانة صادمة لحليف رئيسي للمملكة المتحدة». وقد تناقضت مواقفها مع آراء حقوقيين، مثل «جولي نورمان»، من «جامعة لندن كوليدج»، التي رأت أن القرار لم يكن كافيًا لإحداث تأثير حقيقي في حملة القصف الإسرائيلية على غزة.
وفي أواخر مايو2025، ومع زيادة ردود الفعل المنتقدة لإسرائيل داخل حزب العمال، أطلقت «باتيل»، تصريحات مثيرة للجدل داخل مجلس العموم، حيث شددت على ضرورة القلق من دعم بعض النواب لما وصفته بـ«أفعال مدعومة من حماس». وفي تعليقه على هذه التصريحات، أشار «دويل»، إلى أن «باتيل»، لم تُظهر «أي انتقاد يُذكر لإسرائيل طوال الأشهر الستة التي شغلت فيها منصبها»، مؤكدًا افتقار خطابها إلى «أي تعاطف حقيقي مع المدنيين الفلسطينيين في غزة»، رغم حجم المأساة هناك.
وعلى الرغم من ذلك، رفض بعض أعضاء البرلمان، والنبلاء من حزب المحافظين الموقف السائد في حزبهم، وانضموا إلى دعوات الاعتراف بدولة فلسطينية، وقد قاد هذه الجهود الوزير السابق «كيت مالثاوس»، الذي اعترف بأن «الشعب الفلسطيني عانى لعقود من الاحتلال والتشريد والقيود المنهجية على حرياته الأساسية»، واعتبر أن الاعتراف بدولة فلسطينية، «سيرسل رسالة واضحة بأن بريطانيا تقف ضد الاحتلال، وتدعم التطلعات المشروعة للشعب الفلسطيني». ومع ذلك، بقي هذا الموقف الأخلاقي يمثل أقلية داخل حزب المحافظين.
وقد لخص «خان»، المشهد بتأكيده أن تصريحات «بادينوك»، منذ توليها زعامة المعارضة، تمثل «نمطًا مقلقًا» يتكرر بين عدد من السياسيين الغربيين، ممن يفضلون «تشويه الواقع وتضليل الجمهور»؛ بدلًا من الوقوف إلى جانب الحقيقة والعدالة، في وقت «يواصل فيه الأبرياء المعاناة»، جراء القصف الإسرائيلي، والغزو البري، والحصار على الإمدادات الإنسانية في غزة، مشيرا إلى أن فرص «بادينوك»، في أن تصبح رئيسة للوزراء تبدو «ضعيفة»، خاصة وأن شعبيتها -بحسب استطلاع «يوجوف»- لا تتجاوز 22%، غير أن خطابها المؤيد لإسرائيل والمهين للفلسطينيين، يُجسد موقفًا أوسع داخل حزب المحافظين، يتبناه قادة بارزون، مثل «باتيل»، ويحظى بدعم ضمني من غالبية أعضاء الحزب البرلمانيين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك