العدد : ١٧٢٤٧ - الخميس ١٢ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ١٦ ذو الحجة ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢٤٧ - الخميس ١٢ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ١٦ ذو الحجة ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

هل تعاني اللغة أم من يتكلمونها؟ (1)

بي‭ ‬ولع‭ ‬شديد‭ ‬باللغات،‭ ‬وكرهت‭ ‬عميد‭ ‬كلية‭ ‬الآداب‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الخرطوم‭ ‬لأنه‭ ‬رفض‭ ‬تسجيلي‭ ‬في‭ ‬مجموعة‭ ‬اللغة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬ولكن‭ ‬بحمد‭ ‬الله‭ ‬فإنني‭ ‬أتكلم‭ ‬اليوم‭- ‬كما‭ ‬قال‭ ‬قريبي‭ ‬متباهيا‭- ‬لغتين‭ ‬‮«‬أجنبيتين‮»‬‭: ‬العربية‭ ‬والانجليزية،‭ ‬لأن‭ ‬لساني‭ ‬الأم‭ ‬هو‭ ‬اللغة‭ ‬النوبية‭ ‬التي‭ ‬أتكلمها‭ ‬بلهجاتها‭ ‬الثلاث،‭ ‬وأغذي‭ ‬شغفي‭ ‬باللغات‭ ‬بالاهتمام‭ ‬بلهجات‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬صارت‭ ‬لساني‭ ‬الأساسي،‭ ‬وأحسب‭ ‬أنني‭ ‬أتقن‭ ‬اللهجات‭ ‬الخليجية‭ ‬بتقدير‭ ‬‮«‬جيد‭ ‬جدا‮»‬‭.‬

ولاشك‭ ‬أن‭ ‬عامية‭ ‬الخليج‭ ‬تخالطها‭ ‬عجمة‭ ‬ولكن‭ ‬ليس‭ ‬بدرجة‭ ‬تجعلها‭ ‬‮«‬ظاهرة‮»‬،‭ ‬وليس‭ ‬بأكثر‭ ‬مما‭ ‬هو‭ ‬حادث‭ ‬في‭ ‬أقاليم‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬الأخرى،‭ ‬وبوصفي‭ ‬خليجيا‭ ‬بالتجنس‭ ‬والتكلس‭ (‬بفعل‭ ‬الرطوبة‭)‬،‭ ‬فإنني‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أقول،‭ ‬إن‭ ‬الكثيرين‭ ‬يحسبون‭ ‬أن‭ ‬العامية‭ ‬الهجين‭ ‬التي‭ ‬يتخاطب‭ ‬بها‭ ‬أهل‭ ‬الخليج‭ ‬مع‭ ‬العمالة‭ ‬الآسيوية،‭ ‬هي‭ ‬اللسان‭ ‬العامي‭ ‬الأصلي‭ ‬للخليجيين،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬العامية‭ ‬شائعة،‭ ‬بحكم‭ ‬أن‭ ‬أعداد‭ ‬الآسيويين‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الخليجية،‭ ‬تفوق‭ ‬أعداد‭ ‬العرب‭ ‬العاربة‭ ‬والمستنفعة‭ (‬الذين‭ ‬ينتمون‭ ‬إلى‭ ‬العرب‭ ‬مؤقتا‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬وظائف‭ ‬مثل‭ ‬أبي‭ ‬الجعافر‭!). ‬وعانيت‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬عهدي‭ ‬بالخليج‭ ‬الأمرين‭ ‬عند‭ ‬تعاملي‭ ‬مع‭ ‬سائقي‭ ‬سيارات‭ ‬الأجرة‭ ‬الآسيويين،‭ ‬يقف‭ ‬الواحد‭ ‬منهم‭ ‬قبالتك‭ ‬ويمد‭ ‬رأسه‭ ‬ويسألك‭: ‬بازار‭ ‬جاييقا؟‭ ‬فتجيب‭ ‬بنعم‭ ‬فيصيح‭ ‬فيك‭: ‬جلدي‭ ‬بابا،‭ ‬أي‭ ‬أسرع،‭ ‬وشيئا‭ ‬فشيئا‭ ‬تمكنت‭ ‬من‭ ‬فهم‭ ‬تلك‭ ‬المفردات‭ ‬وصرت‭ ‬‮«‬فصيحا‮»‬‭ ‬فيها‭ ‬بمرور‭ ‬الزمن‭. (‬تحضرني‭ ‬الآن‭ ‬مقاطع‭ ‬من‭ ‬المعلقة‭ ‬الهندية،‭ ‬التي‭ ‬تناقلتها‭ ‬الإيميلات‭ ‬في‭ ‬التسعينيات،‭ ‬يحكي‭ ‬عامل‭ ‬هندي‭ ‬معاناته‭ ‬مع‭ ‬الكفيل‭ ‬وظروف‭ ‬العمل‭: ‬انا‭ ‬أسمي‭ ‬كومار‭ ‬أتيق‭.. ‬أخو‭ ‬انت‭ ‬وللا‭ ‬صديق‭.. ‬هندي‭ ‬انا‭ ‬وللا‭ ‬رفيق‭.. ‬بلد‭ ‬انا‭ ‬هندي‭ ‬عريق‭ (‬تستخدم‭ ‬كلمة‭ ‬رفيق‭ ‬للنداء‭ ‬على‭ ‬الاسيويين‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الخليج‭ ‬ولا‭ ‬يعني‭ ‬هذا‭ ‬انهم‭ ‬بعثيون‭ ‬او‭ ‬شيوعيون‭).. ‬بابا‭ ‬انا‭ ‬شيبة‭ ‬كبير‭.. ‬ماما‭ ‬انا‭ ‬مريض‭ ‬كثير‭.. ‬أخو‭ ‬انا‭ ‬كلو‭ ‬صغير‭.. ‬عشرة‭ ‬سنة‭ ‬شغل‭ ‬هنا‭.. ‬ما‭ ‬في‭ ‬شوف‭ ‬أهلي‭ ‬أنا‭.. ‬اتنين‭ ‬سنة‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬فلوس‭.. ‬كفيل‭ ‬يقول‭ ‬بعدين‭ ‬نشوف‭.. ‬والله‭ ‬حرام‭ ‬لازم‭ ‬فلوس‭.. ‬مسلم‭ ‬أنا‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬هندوس‭.. ‬لازم‭ ‬أنا‭ ‬في‭ ‬روح‭ ‬بلد‭.. ‬سوي‭ ‬زواج‭ ‬جيبو‭ ‬ولد‭.. ‬كفيل‭ ‬يقول‭: ‬هادا‭ ‬بلد‭.. ‬مافي‭ ‬زواج‭ ‬مافي‭ ‬ولد‭.. ‬كفيل‭ ‬أنا‭ ‬كرشة‭ ‬متين‭.. ‬يمكن‭ ‬أكل‭ ‬إلهام‭ ‬شاهين‭ (‬البيت‭ ‬الأخير‭ ‬مساهمة‭ ‬مني‭).‬

ولدينا‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬لغة‭ ‬عربية‭ ‬مُكَسَّرة،‭ ‬تعتبر‭ ‬لغة‭ ‬الآسيويين‭ ‬في‭ ‬الخليج‭ ‬مقارنة‭ ‬بها‭ ‬فصيحة‭ ‬جاهلية،‭ ‬فقبائل‭ ‬جنوب‭ ‬السودان‭ (‬التي‭ ‬تنتمي‭ ‬حاليا‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬مستقلة‭!!) ‬مثلا‭ ‬قامت‭ ‬بفبركة‭ ‬لغة‭ ‬عامية‭ ‬محكية‭ ‬قوامها‭ ‬العامية‭ ‬العربية‭ ‬كأداة‭ ‬للتخاطب‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭ ‬وأسمتها‭ ‬‮«‬عربي‭ ‬جوبا‮»‬‭ ‬على‭ ‬اسم‭ ‬كبرى‭ ‬مدن‭ ‬جنوب‭ ‬السودان‭. ‬والأمر‭ ‬الذي‭ ‬لاشك‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬الهريس‭ ‬أسهمت‭ ‬كثيرا‭ ‬في‭ ‬خلخلة‭ ‬الحاجز‭ ‬النفسي‭ ‬والثقافي‭ ‬بين‭ ‬أهل‭ ‬الشمال‭ ‬والجنوب،‭ ‬ولكن‭ ‬الساسة‭ ‬‭ ‬لا‭ ‬سامحهم‭ ‬الله‭ ‬فرقوا‭ ‬بينهم‭ -  ‬يأتيك‭ ‬ابن‭ ‬الجنوب‭ ‬ويقول‭ ‬لك‭: ‬أنا‭ ‬أكوك،‭ ‬وعليك‭ ‬أن‭ ‬تتلقاه‭ ‬بالأحضان،‭ ‬وتقول‭ ‬له‭ ‬أنا‭ ‬أيضا‭ ‬‮«‬أخوك‮»‬‭. ‬وأهلي‭ ‬النوبيون‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬أُخضِعوا‭ ‬للتطهير‭ ‬اللغوي‭ ‬أصبحوا‭ ‬أقل‭ ‬عجمة،‭ ‬وعلى‭ ‬عهد‭ ‬الرحلة‭ ‬الابتدائية‭ ‬بالمدرسة‭ ‬كان‭ ‬جدي‭ ‬لأمي‭ ‬يدرسنا‭ ‬العلوم‭ ‬الدينية،‭ ‬وكان‭ ‬جدي‭ ‬ذاك‭ ‬حريصا‭ ‬على‭ ‬سلامة‭ ‬مخارج‭ ‬الحروف‭ ‬العربية‭ ‬وينبهنا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬اللحن‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬القرآن‭ ‬يقود‭ ‬إلى‭ ‬مزالق‭ ‬وإلى‭ ‬حافة‭ ‬الشرك‭ ‬احيانا،‭ ‬وحين‭ ‬وصلنا‭ ‬الى‭ ‬سورة‭ ‬‮«‬القدر‮»‬،‭ ‬وقف‭ ‬تلميذ‭ ‬تلو‭ ‬الآخر‭ ‬يردد‭... ‬‮«‬ليلة‭ ‬الغدر‭ ‬خير‭ ‬من‭ ‬ألف‭ ‬شهر‮»‬،‭ ‬وعلى‭ ‬قلب‭ ‬القاف‭ ‬غينا‭ ‬تسللت‭ ‬الى‭ ‬ألسنة‭ ‬السودانيين‭ ‬من‭ ‬أهلي‭ ‬النوبيين‭. ‬ولم‭ ‬يتمالك‭ ‬الرجل‭ ‬أعصابه‭: ‬الله‭ ‬لا‭ ‬يوفقكم‭ ‬ياعجم‭ ‬يا‭ ‬بجم‭.. ‬والله‭ ‬لن‭ ‬أدرسكم‭ ‬سطرا‭ ‬من‭ ‬القرآن‭ ‬حتى‭ ‬تستقيم‭ ‬ألسنتكم‭. ‬وهكذا‭ ‬جمد‭ ‬الدروس‭ ‬الدينية‭ ‬وشرع‭ ‬في‭ ‬تلقينا‭ ‬أصول‭ ‬القراءة،‭ ‬وياما‭ ‬تبهدلنا‭ ‬مع‭ ‬حروف‭ ‬الضاد‭ ‬والصاد‭ ‬والقاف‭ ‬والغين‭: ‬اسمك‭ ‬ياولد؟‭ ‬تاه‭ ‬مستفى‭ ‬أبد‭ ‬القني‭ (‬طه‭ ‬مصطفى‭ ‬عبدالغني‭)‬،‭ ‬ولكن‭ ‬جهوده‭ ‬أتت‭ ‬النتائج‭ ‬المرجوة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما‭... ‬وللحديث‭ ‬صلة‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا