زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
هل تعاني اللغة أم من يتكلمونها؟ (1)
بي ولع شديد باللغات، وكرهت عميد كلية الآداب في جامعة الخرطوم لأنه رفض تسجيلي في مجموعة اللغة الفرنسية، ولكن بحمد الله فإنني أتكلم اليوم- كما قال قريبي متباهيا- لغتين «أجنبيتين»: العربية والانجليزية، لأن لساني الأم هو اللغة النوبية التي أتكلمها بلهجاتها الثلاث، وأغذي شغفي باللغات بالاهتمام بلهجات اللغة العربية التي صارت لساني الأساسي، وأحسب أنني أتقن اللهجات الخليجية بتقدير «جيد جدا».
ولاشك أن عامية الخليج تخالطها عجمة ولكن ليس بدرجة تجعلها «ظاهرة»، وليس بأكثر مما هو حادث في أقاليم الوطن العربي الأخرى، وبوصفي خليجيا بالتجنس والتكلس (بفعل الرطوبة)، فإنني أستطيع أن أقول، إن الكثيرين يحسبون أن العامية الهجين التي يتخاطب بها أهل الخليج مع العمالة الآسيوية، هي اللسان العامي الأصلي للخليجيين، خاصة أن تلك العامية شائعة، بحكم أن أعداد الآسيويين في كثير من الدول الخليجية، تفوق أعداد العرب العاربة والمستنفعة (الذين ينتمون إلى العرب مؤقتا للحصول على وظائف مثل أبي الجعافر!). وعانيت في بداية عهدي بالخليج الأمرين عند تعاملي مع سائقي سيارات الأجرة الآسيويين، يقف الواحد منهم قبالتك ويمد رأسه ويسألك: بازار جاييقا؟ فتجيب بنعم فيصيح فيك: جلدي بابا، أي أسرع، وشيئا فشيئا تمكنت من فهم تلك المفردات وصرت «فصيحا» فيها بمرور الزمن. (تحضرني الآن مقاطع من المعلقة الهندية، التي تناقلتها الإيميلات في التسعينيات، يحكي عامل هندي معاناته مع الكفيل وظروف العمل: انا أسمي كومار أتيق.. أخو انت وللا صديق.. هندي انا وللا رفيق.. بلد انا هندي عريق (تستخدم كلمة رفيق للنداء على الاسيويين في منطقة الخليج ولا يعني هذا انهم بعثيون او شيوعيون).. بابا انا شيبة كبير.. ماما انا مريض كثير.. أخو انا كلو صغير.. عشرة سنة شغل هنا.. ما في شوف أهلي أنا.. اتنين سنة ما في فلوس.. كفيل يقول بعدين نشوف.. والله حرام لازم فلوس.. مسلم أنا ما في هندوس.. لازم أنا في روح بلد.. سوي زواج جيبو ولد.. كفيل يقول: هادا بلد.. مافي زواج مافي ولد.. كفيل أنا كرشة متين.. يمكن أكل إلهام شاهين (البيت الأخير مساهمة مني).
ولدينا في السودان لغة عربية مُكَسَّرة، تعتبر لغة الآسيويين في الخليج مقارنة بها فصيحة جاهلية، فقبائل جنوب السودان (التي تنتمي حاليا إلى دولة مستقلة!!) مثلا قامت بفبركة لغة عامية محكية قوامها العامية العربية كأداة للتخاطب فيما بينها وأسمتها «عربي جوبا» على اسم كبرى مدن جنوب السودان. والأمر الذي لاشك فيه أن تلك اللغة العربية الهريس أسهمت كثيرا في خلخلة الحاجز النفسي والثقافي بين أهل الشمال والجنوب، ولكن الساسة – لا سامحهم الله فرقوا بينهم - يأتيك ابن الجنوب ويقول لك: أنا أكوك، وعليك أن تتلقاه بالأحضان، وتقول له أنا أيضا «أخوك». وأهلي النوبيون في شمال السودان، وبعد أن أُخضِعوا للتطهير اللغوي أصبحوا أقل عجمة، وعلى عهد الرحلة الابتدائية بالمدرسة كان جدي لأمي يدرسنا العلوم الدينية، وكان جدي ذاك حريصا على سلامة مخارج الحروف العربية وينبهنا إلى أن اللحن في قراءة القرآن يقود إلى مزالق وإلى حافة الشرك احيانا، وحين وصلنا الى سورة «القدر»، وقف تلميذ تلو الآخر يردد... «ليلة الغدر خير من ألف شهر»، وعلى قلب القاف غينا تسللت الى ألسنة السودانيين من أهلي النوبيين. ولم يتمالك الرجل أعصابه: الله لا يوفقكم ياعجم يا بجم.. والله لن أدرسكم سطرا من القرآن حتى تستقيم ألسنتكم. وهكذا جمد الدروس الدينية وشرع في تلقينا أصول القراءة، وياما تبهدلنا مع حروف الضاد والصاد والقاف والغين: اسمك ياولد؟ تاه مستفى أبد القني (طه مصطفى عبدالغني)، ولكن جهوده أتت النتائج المرجوة إلى حد ما... وللحديث صلة.
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك