=بعد تسعة عشر شهرًا على الحرب الإسرائيلية على غزة؛ كشف «الصليب الأحمر البريطاني» -في أحدث تقاريره- عن أبعاد الكارثة الإنسانية المتفاقمة في القطاع، مشيرًا إلى أن أكثر من مليوني مدني فلسطيني، يواجهون «خطر المجاعة»، فيما يتهدد «الموت جوعًا»، نحو نصف مليون منهم بشكل وشيك. ومع تهجير ما لا يقل عن 90% من السكان قسرًا من منازلهم، وتعرض جميع البنى التحتية المدنية، بما في ذلك المرافق الصحية، للتدمير أو الضرر البالغ؛ أسهم الحصار الإسرائيلي المشدد منذ 2 مارس 2025 في تعميق هذا الواقع الإنساني الكارثي.
وعلى الرغم من موافقة إسرائيل على دخول كمية «محدودة» من المساعدات الإنسانية إلى غزة، بعد الضغوط الدولية المتزايدة، بالتوازي مع استمرار الهجمات الجوية والبرية العشوائية التي يشنها جيشها؛ بهدف السيطرة الكاملة على القطاع؛ إلا أن حجم المساعدات التي دخلت عبر «الأمم المتحدة»، ووكالاتها لا يرقى إلى تلبية الاحتياجات الهائلة، ليس فقط للغذاء؛ لكن أيضًا للإمدادات الطبية لعلاج الإصابات والأمراض وسوء التغذية لدى الأطفال.
ومع مواصلة إسرائيل -بدعم من واشنطن- تعطيل جهود الأمم المتحدة لتقديم المساعدات الإنسانية العاجلة لملايين الفلسطينيين؛ طُرحت خطة باسم «مؤسسة غزة الإنسانية»، تقضي بإيصال الغذاء إلى السكان عبر متعاقدين أمنيين مسلحين يعملون داخل مجمعات تخضع لحراسة الجيش الإسرائيلي، والتي قوبلت بإدانة واسعة من قبل العاملين في المجال الإنساني والخبراء. وحذّرت «زيزيت دركزلي»، من «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، من أن هذه الآلية من شأنها «تفكيك نظام المساعدات الإنسانية الدولي القائم فعليًّا». كما نبّه «مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية»، إلى أن هذه الآلية لا تفتقر فقط إلى الجدوى العملية، وتتعارض مع المبادئ الإنسانية؛ بل تُشكل أيضًا «مخاطر أمنية جسيمة».
وقد تحقق هذا التحذير في 27 مايو، كما كشفت صحيفة «واشنطن بوست»، التي أفادت بأن اليوم الأول من تنفيذ خطة «مؤسسة غزة الإنسانية»، اتسم بـ«الفوضى والارتباك»، خلال التوزيع الأولي للمساعدات على آلاف الفلسطينيين. وفي مدينة رفح، تدفقت حشود الفلسطينيين على مركز التوزيع؛ ما أدى إلى حالة من الانفلات، أسفرت عن استشهاد مدني واحد على الأقل، وإصابة 48 آخرين في هجمات نفذها الجيش الإسرائيلي. ووصف «أمجد الشوا»، من «شبكة المنظمات غير الأهلية الفلسطينية»، هذه الأحداث بأنها «فشل كبير»، كانت «وكالات الإغاثة»، و«الأمم المتحدة»، قد حذّرت منه مسبقًا، معتبرًا ما جرى «دليلاً ملموسًا»، على عدم جدوى هذه الآلية وخطورتها.
ومنذ إعلان هذه الخطة، قوبلت بإدانات واسعة من المنظمات الإنسانية، التي وصفتها بـ«المهزلة»، معتبرةً أنها تهدف إلى إضفاء شرعية على تدخل إسرائيل في تقديم مساعدات محدودة. ورغم ادعاء المؤسسة -المسجلة في جنيف- قدرتها على توزيع 300 مليون وجبة خلال أول 90 يومًا، إلا أن «الأمم المتحدة»، و«وكالات الإغاثة»، شككت بشدة في هذا الرقم، مشيرةً إلى افتقارها لأي سجل سابق في إدارة العمليات اللوجستية المعقدة اللازمة لإطعام أكثر من مليوني فلسطيني يعانون من الجوع الحاد، وسوء التغذية والمجاعة.
ومع ادعاء الخطة أن هدفها إيصال المساعدات إلى مليون فلسطيني (أقل من نصف إجمالي سكان غزة المحتاجين للمساعدة)، قيّمت «بشرى الخالدي»، من «منظمة أوكسفام الخيرية»، كيف أنه «حتى في أفضل الظروف، لا توجد شركة لوجستية يمكنها إطعام 2.1 مليون شخص بين عشية وضحاها»، مضيفةً أن «العمل الإنساني، لا يقتصر على توزيع المواد الغذائية لإطعام الجوعى؛ بل يشمل ضمان حصول الناس على وسائل البقاء على قيد الحياة».
من جانبها، رفضت «الأمم المتحدة»، ووكالات الإغاثة الرئيسية، المشاركة في هذه الخطة، معترفةً بأنها وسيلة لحكومة نتنياهو لتُسيطر على توزيع المساعدات للفلسطينيين. وكما أوضحت «شاينا لو»، من «المجلس النرويجي للاجئين»، فإن منظمتها لا يمكنها الموافقة على «المشاركة في نظام ينتهك المبادئ الإنسانية، ويخاطر بتوريطنا في انتهاكات خطيرة للقانون الدولي».
ونظرا لهذا القصور في التخطيط والإعداد، لم يكن من المفاجئ، كما ذكرت «إيما هاريسون»، في صحيفة «الجارديان»، أن «مؤسسة غزة الإنسانية»، فقدت السيطرة على توزيع مساعداتها خلال يومها الثاني فقط، في ظل الجموع الهائلة من الأشخاص الذين ينشدون المساعدة، ومع عدم كفاية ما يسمى بقواتها الأمنية؛ اضُطر موظفوها إلى «التخلي عن دورهم».
وردًا على ذلك، وصف «فيليب لازاريني»، المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، هذه الأحداث بأنها «مهينة»، و«غير آمنة»، لمئات الفلسطينيين. كما وصفها «ستيفان دوجاريك»، المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، بأنها «مفجعة»، لا سيما وأن لدى الأمم المتحدة وشركائها بالفعل «خطة مفصلة وسليمة من الناحية العملية»، لتقديم المساعدات الإنسانية التي عرقلتها إسرائيل، وتجاهلتها الولايات المتحدة. وأضاف «لازاريني»، أن مخطط «مؤسسة غزة الإنسانية»، برمته هو «إهدار للموارد، وصرف للانتباه عن الفظائع»، التي تواصل إسرائيل اقترافها بشكل يومي، مجددا تأكيده أن «الأونروا»، إلى جانب وكالات الإغاثة الأخرى، مستعدة «لتوزيع مساعدات ذات جودة عالية؛ حالما يُسمح لها بذلك».
ومع انتشار التقارير في وسائل الإعلام الغربية حول إطلاق إسرائيل النار على المدنيين الفلسطينيين أثناء محاولتهم الحصول على المساعدات؛ نفت قوات الاحتلال ذلك، مؤكدة أن جنودها أطلقوا فقط «طلقات تحذيرية»؛ بهدف «فرض السيطرة على الوضع». غير أن «أجيث سونغاي»، رئيس مكتب المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ وثّق أن معظم الإصابات التي تم الإبلاغ عنها في الموقع «ناتجة عن طلقات نارية». كما أظهرت الأدلة المصورة التي تحققت منها صحيفة «واشنطن بوست»، بالفعل مدنيين يفرّون من أصوات الطلقات والانفجارات.
وإلى جانب الفشل الذريع في توفير آلية آمنة وفعالة لتوزيع المساعدات، تثير القيمة الغذائية للطعام الموزع شكوكًا واسعة حول قدرته على تلبية الحد الأدنى من احتياجات مئات الآلاف من الفلسطينيين. ومع ترويج «صندوق الإغاثة الإنسانية العالمي»، لافتتاح أول مركز توزيع له -حيث قُدِّم 8000 صندوق غذائي يُفترض أن يكفي كلٌّ منها لإطعام 5.5 أشخاص مدة 3.5 أيام- فإن «هاريسون»، أوضحت أن هذه الكمية لا تغطي سوى نحو 2% من سكان غزة. والأسوأ من ذلك، أن محتوى الوجبة اليومية لا يتجاوز 1750 سعرة حرارية، وهو أقل بكثير من الحد الأدنى البالغ 2100 سعرة حرارية يوميًا الذي توصي به «منظمة الصحة العالمية»، و«برنامج الأغذية العالمي».
ومع غياب مواقع توزيع المساعدات في شمال غزة، يُضطر مئات الآلاف من النازحين إلى التنقل مرة أخرى بحثًا عن المساعدة. وأدان «جوناثان كريكس»، من «منظمة الأمم المتحدة للطفولة»،) اليونيسف) هذا التوجه، مؤكدًا أن المخطط يزيد من «المعاناة المستمرة للأطفال والأسر»، ويضع «الأشخاص الأكثر ضعفًا -بمن فيهم كبار السن وذوو الإعاقة والمرضى والجرحى والأيتام» -أمام تحديات هائلة في الوصول إلى المساعدات. وأقرّ وزير الخارجية البريطاني «ديفيد لامي»، بهذه الإشكاليات، معترفًا بأن المخطط يهدف إلى «دفع سكان غزة للنزوح جنوبًا، ومنحهم «جزءًا ضئيلًا»، من المساعدات التي يحتاجونها».
وتزداد حدة هذه العيوب اللوجستية والتنظيمية مع وجود روابط واضحة بين نيات الحكومة الإسرائيلية، وفرضها قيودًا صارمة على وصول الفلسطينيين إلى المساعدات الإنسانية. وأوضح «باتريك كينغسلي»، و«رونين بيرغمان»، و«ناتان أودنهايمر»، من صحيفة «نيويورك تايمز»، أن هذه الخطة «صيغت وطُوِّرت من قبل الإسرائيليين»، منذ الأسابيع الأولى للحرب على غزة؛ بهدف «التحايل على دور الأمم المتحدة»، ووضع عملية توزيع المساعدات «تحت سيطرتها العسكرية بالكامل».
وتزداد هذه المخاوف مع افتقار «صندوق الإغاثة الإنساني العالمي» للشفافية، بشأن مصادر تمويله وداعميه السياسيين، حيث امتنعت كل من «الولايات المتحدة»، و«إسرائيل»، عن الإفصاح عن مدى تورطهما في المشروع، في حين لم يُعلَن سوى مساهمة مالية واحدة تتجاوز 100 مليون دولار، قدّمها طرف لم يُكشف عن هويته من داخل الاتحاد الأوروبي.
وفي هذا السياق، كتبت «دركزلي»، أن إسناد مهمة إيصال المساعدات الإنسانية إلى متعاقدين عسكريين خاصين، تحت إشراف قوات مسلحة متهمة بارتكاب «جرائم حرب»، بما في ذلك الإبادة الجماعية، يُعدّ «سابقة خطيرة»، تهدد مستقبل العمل الإنساني، حيث «تطمس الحدود بين الإغاثة الإنسانية، والقوة العسكرية»، مما «يعرِّض العاملين في المجال الإنساني للخطر في مختلف أنحاء العالم».
وقد أدرك «جيك وود»، المدير التنفيذي لمؤسسة غزة الإنسانية، خطورة هذه السابقة؛ فاستقال عشية إطلاق عمليات المؤسسة، مُقرًا بعدم إمكانية إيصال مساعدات كافية إلى سكان غزة المدنيين تحت إشراف إسرائيلي، دون التخلي عن المبادئ الإنسانية الأساسية المتمثلة في «الإنسانية، والحياد، والنزاهة، والاستقلال»، وهي مبادئ، أعلن رفضه التنازل عنها. وبعد أيام من استقالته، تبعه في ذلك كبير مسؤولي العمليات في المؤسسة، «ديفيد بيرك».
وعلى الرغم من إدراك قادة هذه المؤسسة استحالة إيصال المساعدات، بما يتماشى مع المبادئ الإنسانية في ظل الخضوع لإملاءات الجيش الإسرائيلي الذي لا يزال يحتل غزة، ويقصفها بشكل عشوائي، تواصل «الولايات المتحدة»، تمسكها بموقفها، كما عبّرت عن ذلك المتحدثة باسم «الخارجية الأمريكية»، «تامي بروس»، إذ رفضت التعليق على المأساة التي شهدها مركز توزيع رفح، وتجاهلت مخاوف المنظمات الإنسانية الشرعية، مصرّة على أن «القصة الحقيقية هي أن المساعدات تصل»، وأن وجود «بعض المشاكل» في إيصالها إلى آلاف الفلسطينيين المحتاجين ليس بالأمر المستغرب.
كما أن استقالة المدير التنفيذي للصندوق قبل بدء عملياته، على خلفية اعترافه بعدم القدرة على الالتزام بالمبادئ الإنسانية الأساسية؛ تمثل «دليلاً دامغًا»، على التناقضات الجوهرية، التي تحيط بهذا المخطط، وهو ما باتت تعترف به وسائل الإعلام الغربية، ومنظمات الإغاثة القائمة، والأمم المتحدة، بوصفه مجرد واجهة لإسرائيل تستخدمها لتسليح المساعدات، وفرض السيطرة على توزيعها.
وفضلا عن أن أوجه القصور في المخطط واضحة من الناحية اللوجستية؛ يؤكد «الخالدي»، أنه بغض النظر عما إذا كان الصندوق يعمل أم لا، فإننا نعلم من عقود من الخبرة، أن هذه الممارسة الشائنة المتمثلة في عسكرة المساعدات لن تنجح. وأشارت «دركزلي»، إلى أن تكاليف الأمن واللوجستيات بهذا النهج الجديد وغير الضروري ستتجاوز قيمة المساعدات التي يتم توزيعها.
وفي ضوء ما سبق، يبدو واضحًا أن خطة توزيع المساعدات المدعومة من إسرائيل والولايات المتحدة، لا ترقى إلى الحد الأدنى من المعايير الإنسانية المطلوبة، بل تُعد تكريسًا لمعاناة الفلسطينيين في غزة، بدلًا من التخفيف منها. وفي ظل غياب الآليات الآمنة والعادلة لتوزيع الإغاثة، وافتقار الخطة للشفافية والكفاءة، واستمرار الحصار، وتقييد وصول الدعم الإنساني؛ تتعاظم المخاوف من تكرار مشاهد الفوضى والمأساة، كما حدث في رفح.
وبذلك، فإن الإصرار على هذا النموذج، لا يسهم سوى في إدامة الأزمة، في الوقت الذي تؤكد فيه الأمم المتحدة استعدادها لتوفير الدعم الشامل والفعال. وهكذا، فإن المأساة في غزة لا تعود فقط إلى قسوة الحصار، بل إلى القرارات السياسية التي تصر على منع الحلول الحقيقية، وتُبقي على المدنيين رهائن للجوع والخوف والمعاناة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك