أعلنَ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 20 مايو 2025 من المكتب البيضاوي في البيت الأبيض اختياره لنظام الصواريخ الدفاعية للقبة الذهبية، وفي الوقت نفسه قدَّر مكتب الميزانية في الكونجرس بأن بناء، ونشر وتشغيل هذه الصواريخ الاعتراضية الفضائية يكلف ما يتراوح بين 161 و542 بليون دولار خلال العقدين القادمين. فهذا النظام المتطور جداً سيَستخدم مجموعة كبيرة من الأقمار الصناعية الموجودة في مدار الأرض والأسلحة الفضائية لاعتراض أي هجوم من صواريخ باليستية على الولايات المتحدة، سواء التي تُطلق من الفضاء، أو من أي موقع على سطح الأرض. وبعبارة أخرى فإن المعارك بين الولايات المتحدة وأعدائها لن تكون فقط في البر، والبحر، والجو على سطح كوكبنا، وإنما أيضاً ستنتقل إلى ساحة الفضاء الواسع المشترك بين البشرية جمعاء.
فمثل هذا الإعلان الاستفزازي الذي يستعرض فيه ترامب أمام العالم تقدم وتطور الولايات المتحدة الأمريكية في المجال العسكري الفضائي خارج سطح الأرض، ويبين فيه قوته وجبروته وسبقه في غزو الفضاء من الناحية العسكرية، فهذا الإعلان لن يمر على بعض دول العالم مرور الكرام، فهو يحيي عند الدول الكبرى المتنافسة عسكرياً مع أمريكا ذاكرة الحرب الباردة العقيمة بين أكبر وأعظم دولتين، هما أمريكا والاتحاد السوفيتي (روسيا حالياً). كما أن هذا الإعلان العسكري يثير حفيظة الدول غير المتحالفة مع أمريكا بشكلٍ عام، ويجدد من غضبهم، ويحرك فيهم الدخول في سباق التسلح مرة ثانية، سواء التسلح التقليدي عامة، أو التسلح النووي خاصة، فكأن هذا الإعلان يمثل ولادة جديدة لسباق نووي يشارك فيه هذه المرة أكثر من دولتين، ويشكل تهديداً لأمن وسلامة كوكبنا برمته.
ولذلك جاءت ردة الفعل على هذا التصريح الأمريكي سريعة ومباشرة من وزارة الخارجية الصينية، حيث قالت بأن الولايات المتحدة: «مهووسة بالسعي إلى الأمن المطلق»، كما حذَّرت بأن مثل هذه الخطوة الاستفزازية: «تخالف مبدأ الاستخدام السلمي للفضاء الخارجي»، فيحول الفضاء الخارجي إلى ساحة معارك وقتال، وأضافت وزارة الخارجية الصينية بأن مثل هذا المخطط الأمريكي سيزيد من مخاطر سباق التسلح ويعرض الأمن الفضائي لخطر الدمار الشامل. وتأكيدا على هذا القلق الصيني خاصة والدولي عامة، نشرت مجلة «الإيكونوميست» مقالاً في 21 مايو 2025 تحت عنوان: «رجوع حرب النجوم، سعي ترامب للهيمنة المدارية»، حيث أشار المقال إلى مصداقية التحفظات الصينية والدولية، وحذَّرت من أن ينجر العالم مرة أخرى إلى إنفاق التريليونات من الدولارات على تحقيق السبق والتفوق في هذا السباق العقيم المهلك للحرث والنسل، بدلاً من صرفه على التنمية وتحسين أحوال الشعوب وحماية البيئة من الفساد البشري.
فمن الواضح من هذا الإعلان الأمريكي، أنها تلعب لوحدها، وبمعزل عن العالم أجمع، وكأنها تعيش في كوكب آخر لا توجد فيه إلا الولايات المتحدة الأمريكية، كما أن هذا الإعلان يفرض على العالم أجمع أحقية أمريكا وملكيتها للفضاء العام المشترك بين كل دول العالم. فهي تملك الفضاء كلياً، وتملك حق غزوه واحتلاله واستغلاله، فتتصرف فيه كما تشاء، وفي أي وقت تريد. وعلاوة على ذلك، فإن تصريحات ترامب تؤكد عدم اعترافه بالقوانين الدولية حول الفضاء، وضربه بعرض الحائط المعاهدات الأممية حول تقنين وتنظيم استخدام بيئة الفضاء، والتي هي عضو في البعض منها.
ومن هذه المعاهدات الدولية الفضائية التي دخلت حيز التنفيذ ما يلي:
أولاً: المعاهدة التي تمثل حجر الأساس للقانون الدولي للفضاء، وهي «معاهدة الفضاء الخارجي» لعام 1967، وتُعرف رسمياً باسم معاهدة المبادئ المنظمة لأنشطة الدول في ميدان استكشاف واستخدام الفضاء الخارجي، بما في ذلك القمر والأجرام السماوية الأخرى. ومن بين بنوده، حظر وضع أسلحة نووية أو أية أسلحة أخرى من أسلحة الدمار الشامل في مدار الأرض، أو تثبيتها على سطح القمر أو أي جرم سماوي، مما يعني عدم استخدام الفضاء لأغراض عسكرية، إضافة إلى تحمل الدول مسؤولية أية أضرار تنجم عن الاستخدام المدني السلمي للفضاء وعن الأنشطة الفضائية التي تقوم بها. كما تؤكد المعاهدة بأن الفضاء تراث ومورد بيئي طبيعي عام مشترك لجميع سكان الأرض، ويجب أن تنتفع جميع الدول من المنافع التي تأتي منها.
ثانياً: معاهدة «عدم انتشار الأسلحة النووية» (NPT)، أو معاهدة «الحد من انتشار الأسلحة النووية» لعام 1970، وهي المعاهدة الرئيسة التي تحكم هذا المجال، فهي تهدف إلى الحد من الدول التي تمتلك الأسلحة النووية من خلال منع انتشار الأسلحة النووية وتقنية الأسلحة النووية، إضافة إلى تعزيز الاستخدامات السلمية للطاقة النووية. كما جاء في أحد بنودها تعهد كل دولة من الدول الحائزة للأسلحة النووية بعدم نقلها إلى أي مكان، لا مباشرة ولا بصورة غير مباشرة وعدم مساعدة أي دولة لا تمتلك السلاح النووي، إضافة إلى وقف سباق التسلح النووي.
ثالثاً: هناك سلسلة من الاتفاقيات الثنائية بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا كدولتين كانت الحرب الباردة للسباق في الأسلحة النووية والتقليدية بينهما. وجاءت هذه الاتفاقيات تحت مسمى «ستارت» (START) الأول، والثاني، و«ستارت الجديدة»، واتفاقية الصواريخ النووية متوسطة المدى، وهي جميعها تهدف إلى وضع حدود على عدد ونوعية الأسلحة الهجومية الاستراتيجية التي يمكن للبلدين امتلاكها.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل دول العالم، وبخاصة الدول التي تمتلك أسلحة الدمار الشامل النووية التزمت بتنفيذ بنود هذه المعاهدات؟ وهل نجحت هذه المعاهدات الدولية والثانية في أن توقف سباق التسلح النووي؟
الواقع الحالي الذي نشهده اليوم يؤكد بأن الدول النووية لم تلتزم كلياً ببنود المعاهدات، أو في الأقل التزمت بالبنود التي لا تتعارض مع مصالحها القومية وأهدافها العسكرية، كما أن هذه المعاهدات على كافة المستويات فشلت في وقف سباق التسلح النووي بين الدول العظمى من الناحيتين العددية والنوعية، كما فشلت في منع دول غير نووية من الدخول في النادي النووي.
فإذا كان هذا هو حال الاتفاقيات والمعاهدات الأممية في مجال الأسلحة النووية والمتعلق بامتلاكها، أو إنتاجها، أو تحويل الفضاء إلى ساحة للأنشطة العسكرية المدمرة، فما جدوى هذه المعاهدات؟ وما الفائدة الواقعية والحقيقية منها إذا كانت دائماً لا تحقق الهدف من وجودها؟
إنه العبث الدولي الصادر من المجتمع الدولي ممثلاً في الأمم المتحدة بمنظماتها، ووكالاتها، ومجالسها للشعوب والدول المستضعفة والفقيرة التي لا نفوذ لها، ولا حول ولا قوة على المستوى الدولي. فهذه المعاهدات الدولية النووية وغير النووية التي تسيطر عليها الدول الصناعية المتقدمة ما هي في تقديري إلا أدوات ووسائل تُطْلق شرعياً سراح الدول الكبرى لتفعل ما تشاء دون قيود أو ضوابط، فتحتكر السلطة والقوة والمنافع على المستوى الدولي. وفي الوقت نفسه تُضيق هذه الاتفاقيات الخناق على الدول الصغيرة والنامية فتُقيد من حركتها ونموها، وتمنعها من التطور والتقدم ودخول سباق المنافسة في كافة المجالات التنموية.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك