العدد : ١٧٢٤٦ - الأربعاء ١١ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ١٥ ذو الحجة ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢٤٦ - الأربعاء ١١ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ١٥ ذو الحجة ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

أساليب التفاوض الإسرائيلي في الاستفزاز والمراوغة

بقلم: د. أحمد رفيق عوض {

الاثنين ٠٩ يونيو ٢٠٢٥ - 02:00

تابعت‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬سنوات‭ ‬الأساليب‭ ‬الجهنمية‭ ‬التي‭ ‬يتبعها‭ ‬المفاوض‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬أكان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬مفاوضات‭ ‬سرية‭ ‬أو‭ ‬علنية،‭ ‬أو‭ ‬سياسية‭ ‬أو‭ ‬عسكرية‭ ‬أو‭ ‬تجارية،‭ ‬ولأن‭ ‬ذلك‭ ‬كذلك،‭ ‬فقد‭ ‬خصصت‭ ‬فصلاً‭ ‬كاملاً‭ ‬حول‭ ‬التفاوض‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬في‭ ‬روايتي‭ ‬‮«‬آخر‭ ‬القرن‮»‬‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬الماجد‭ ‬واتحاد‭ ‬الكتاب‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬قبل‭ ‬عشرين‭ ‬سنة‭ ‬بالتمام‭ ‬والكمال‭.‬

وأجدني‭ ‬اليوم‭ ‬مضطراً‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬الكلام‭ ‬منقحاً‭ ‬ومزيداً‭ ‬عن‭ ‬التفاوض‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬فهو‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬ليس‭ ‬تفاوضاً‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬استغلال‭ ‬اللحظة‭ ‬واقتناص‭ ‬الظرف،‭ ‬ومعرفة‭ ‬الخصوم‭ ‬والأعداء‭ ‬معرفة‭ ‬دقيقة،‭ ‬والقدرة‭ ‬الكبيرة‭ ‬على‭ ‬تفكيك‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬وإعادة‭ ‬تعريف‭ ‬المسميات‭ ‬والوقائع‭ ‬وإعادة‭ ‬التعريفات‭ ‬والمسميات،‭ ‬والصبر‭ ‬الحديدي‭ ‬من‭ ‬استنزاف‭ ‬العدو‭ ‬ومحاصرته‭ ‬ونزع‭ ‬خياراته‭ ‬وشيطنة‭ ‬مواقفه،‭ ‬التفاوض‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬هو‭ ‬امتلاك‭ ‬القوة،‭ ‬لنعترف‭ ‬بذلك،‭ ‬القوي‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يدير‭ ‬أي‭ ‬عملية‭ ‬تفاوضية،‭ ‬الضعيف‭ ‬لا‭ ‬يتفاوض‭ ‬بل‭ ‬يهندس‭ ‬خروجه‭ ‬من‭ ‬المشهد،‭ ‬وتكون‭ ‬فضيلته‭ ‬الوحيدة‭ ‬هي‭ ‬تقليل‭ ‬خسائره‭ ‬أو‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬من‭ ‬ماء‭ ‬الوجه،‭ ‬هذا‭ ‬إن‭ ‬بقيت‭ ‬مياه‭.‬

أجدني‭ ‬مضطراً‭ ‬إلى‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬سمعناه‭ ‬وشاهدناه‭ ‬من‭ ‬عمليات‭ ‬تفاوض‭ ‬مضنية‭ ‬وشاقة‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬سنة‭ ‬وسبعة‭ ‬أشهر‭ ‬بين‭ ‬إسرائيل‭ ‬والأطراف‭ ‬العربية‭ ‬والفلسطينية‭. ‬فقد‭ ‬شهدت‭ ‬تلك‭ ‬العملية‭ ‬الطويلة‭ ‬والمستفزة‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬أسرار‭ ‬منهج‭ ‬وأساليب‭ ‬التفاوض‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬كان‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬يلي‭:‬

أولاً‭: ‬حددت‭ ‬إسرائيل‭ ‬مضامين‭ ‬وطريقة‭ ‬التفاوض‭ ‬بحسب‭ ‬أجنداتها‭ ‬ومصالحها،‭ ‬فلم‭ ‬تقبل‭ ‬بعرض‭ ‬حماس‭ ‬الأول‭ ‬القاضي‭ ‬بإطلاق‭ ‬سراح‭ ‬كل‭ ‬الأسرى‭ ‬مقابل‭ ‬وقف‭ ‬الحرب‭ ‬والانسحاب،‭ ‬وإطلاق‭ ‬أسرى‭ ‬فلسطينيين‭. ‬إسرائيل‭ ‬عملت‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الإيغال‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬فرض‭ ‬طريقة‭ ‬التفاوض‭ ‬ومضامينها‭. ‬شكل‭ ‬التفاوض‭ ‬يخدم‭ ‬مضامينه،‭ ‬وهذا‭ ‬مبدأ‭ ‬يجب‭ ‬عدم‭ ‬التنازل‭ ‬عنه‭ ‬حقاً‭.‬

ثانياً‭: ‬شيطنة‭ ‬العدو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الإيهام‭ ‬بأنه‭ ‬يتشدد‭ ‬أو‭ ‬يرفض‭ ‬أو‭ ‬يأخذ‭ ‬قراره‭ ‬من‭ ‬أطراف‭ ‬أخرى‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬الادعاء‭ ‬بأنه‭ ‬مغامر‭ ‬ومجنون،‭ ‬ولا‭ ‬يهتم‭ ‬بشعبه،‭ ‬وأنه‭ ‬غير‭ ‬ناضج‭ ‬أو‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬تشققات‭ ‬وخلافات‭ ‬داخلية،‭ ‬إسرائيل‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬تدعي‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬يحاورها‭ ‬لا‭ ‬يمتلك‭ ‬موقفاً‭ ‬واحداً‭ ‬بل‭ ‬هناك‭ ‬عدة‭ ‬مواقف‭ ‬معتدلة،‭ ‬وأخرى‭ ‬متشددة،‭ ‬وطبعاً،‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬تتدخل‭ ‬إسرائيل‭ ‬‮«‬لتعديل‮»‬‭ ‬الميزان‭.‬

ثالثاً‭: ‬إسرائيل‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬توحي‭ ‬أو‭ ‬تملي‭ ‬مقترحات‭ ‬قد‭ ‬تبدو‭ ‬براقة،‭ ‬فتجبر‭ ‬العدو‭ ‬على‭ ‬التسوية‭ ‬بشكل‭ ‬أو‭ ‬بآخر،‭ ‬وفجأة‭ ‬تغير‭ ‬إسرائيل‭ ‬موقفها‭ ‬من‭ ‬التسوية‭ ‬التي‭ ‬اقترحتها‭ ‬بنفسها،‭ ‬هذا‭ ‬التكتيك‭ ‬من‭ ‬أعجب‭ ‬ما‭ ‬تستخدمه‭ ‬إسرائيل،‭ ‬ويبدو‭ ‬أنه‭ ‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬دفع‭ ‬العدو‭ ‬إلى‭ ‬التنازل‭ ‬المجاني‭ ‬أو‭ ‬إمكانية‭ ‬التخلي‭ ‬عن‭ ‬مواقفه،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تربح‭ ‬إسرائيل‭ ‬مواقع‭ ‬تفاوضية‭ ‬مجانية‭.‬

رابعاً‭: ‬تجعل‭ ‬إسرائيل‭ ‬من‭ ‬وفدها‭ ‬قضية‭ ‬فرعية‭ ‬تشوش‭ ‬على‭ ‬المفاوضات‭ ‬ذاتها،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬درجة‭ ‬تفويض‭ ‬الوفد‭ ‬وتركيبته‭ ‬ومدى‭ ‬صلاحياته،‭ ‬وهي‭ ‬على‭ ‬استعداد‭ ‬للتشكيك‭ ‬بالوفد‭ ‬الذي‭ ‬أرسلته‭ ‬واتهامه‭ ‬بعدم‭ ‬إدارة‭ ‬التفاوض‭ ‬بشكل‭ ‬جيد‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬إخفاء‭ ‬المواقف‭ ‬أو‭ ‬التلاعب‭ ‬بها،‭ ‬وهذا‭ ‬أيضاً‭ ‬من‭ ‬أعجب‭ ‬التصرفات‭ ‬الدبلوماسية،‭ ‬حيث‭ ‬تقوم‭ ‬دولة‭ ‬بالتشكيك‭ ‬بوفدها‭ ‬المفاوض‭.‬

خامساً‭: ‬تقوم‭ ‬إسرائيل‭ ‬بإفراغ‭ ‬الوساطة‭ ‬والوسطاء‭ ‬من‭ ‬المعنى‭ ‬والمضمون،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬اتهامهم‭ ‬بعدم‭ ‬الدقة‭ ‬أو‭ ‬الأمانة‭ ‬أو‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬التشويش‭ ‬أو‭ ‬تفجير‭ ‬المفاوضات،‭ ‬وتلجأ‭ ‬إسرائيل‭ ‬إلى‭ ‬محاولة‭ ‬تشكيك‭ ‬الوسطاء‭ ‬بعضهم‭ ‬ببعض،‭ ‬أو‭ ‬شراء‭ ‬بعضهم‭ ‬أو‭ ‬استبعاد‭ ‬بعضهم‭ ‬الآخر‭.‬

سادساً‭: ‬تميل‭ ‬إسرائيل‭ ‬إلى‭ ‬التدقيق‭ ‬في‭ ‬الأمور‭ ‬الإجرائية‭ ‬والتفصيلية‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬تميل‭ ‬إلى‭ ‬نقاش‭ ‬الأمور‭ ‬الجوهرية،‭ ‬إسرائيل‭ ‬تعتقد‭ ‬أن‭ ‬حصولها‭ ‬على‭ ‬إنجازات‭ ‬في‭ ‬الأمور‭ ‬الإجرائية‭ ‬يقربها‭ ‬من‭ ‬أهدافها‭ ‬الكبرى‭ ‬أولاً،‭ ‬ويزيد‭ ‬من‭ ‬إرهاق‭ ‬العدو‭ ‬ثانياً‭.‬

سابعاً‭: ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬إسرائيل،‭ ‬فإن‭ ‬السردية‭ ‬الإعلامية‭ ‬هي‭ ‬الأهم‭ ‬في‭ ‬التفاوض،‭ ‬فعمليات‭ ‬الشيطنة‭ ‬والتضليل‭ ‬وقنابل‭ ‬الدخان‭ ‬والتضارب‭ ‬في‭ ‬الأخبار‭ ‬والتناقض‭ ‬في‭ ‬المواقف،‭ ‬وتسريب‭ ‬الأخبار‭ ‬وإخفاء‭ ‬المصادر‭ ‬هي‭ ‬جزء‭ ‬أصيل‭ ‬من‭ ‬عملية‭ ‬التفاوض‭ ‬بحيث‭ ‬تؤثر‭ ‬على‭ ‬الجمهور‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الشعور‭ ‬بالإحباط‭ ‬أو‭ ‬اليأس‭ ‬أو‭ ‬التفاؤل‭ ‬الكاذب‭ ‬أو‭ ‬الساذج‭ ‬أو‭ ‬التأثير‭ ‬على‭ ‬المفاوض‭ ‬العدو‭ ‬ذاته‭.‬

ثامناً‭: ‬استخدام‭ ‬المفاوضات‭ ‬كوسيلة‭ ‬من‭ ‬وسائل‭ ‬استمرار‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬الضغط‭ ‬والإخضاع‭ ‬وإدارة‭ ‬العلاقات‭ ‬العامة‭ ‬وامتصاص‭ ‬الضغوط‭ ‬الداخلية‭ ‬والخارجية‭.‬

رغم‭ ‬ذلك‭ ‬كله‭ ‬وأكثر،‭ ‬لا‭ ‬يعتقدن‭ ‬أحد‭ ‬أن‭ ‬المفاوض‭ ‬الاسرائيلي‭ ‬ذكي‭ ‬‭ ‬رغم‭ ‬خبراته‭ ‬التاريخية‭- ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬المفاوض‭ ‬العربي‭ ‬أو‭ ‬الغربي،‭ ‬على‭ ‬الإطلاق،‭ ‬فإن‭ ‬ما‭ ‬يسمح‭ ‬للمفاوض‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬أن‭ ‬يبدو‭ ‬وكأنه‭ ‬يملك‭ ‬خيارات‭ ‬هائلة‭ ‬وبدائل‭ ‬كثيرة‭ ‬وقدرات‭ ‬عجيبة‭ ‬في‭ ‬التملص‭ ‬أو‭ ‬النجاة‭ ‬هو‭ ‬امتلاكه‭ ‬القوة‭ ‬بكل‭ ‬أنواعها‭ ‬وأشكالها،‭ ‬العسكرية‭ ‬والمالية‭ ‬والدبلوماسية،‭ ‬فالتفاوض‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الأمر‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬تمرين‭ ‬عقلي‭ ‬أو‭ ‬جدال‭ ‬فقهي‭ ‬أو‭ ‬قانوني‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬بهلواني،‭ ‬على‭ ‬الإطلاق،‭ ‬التفاوض‭ ‬هو‭ ‬لغة‭ ‬القوة‭ ‬وفرض‭ ‬شروطها‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬عبر‭ ‬عنه‭ ‬الإمبراطور‭ ‬الياباني‭ ‬الذي‭ ‬وقع‭ ‬ورقة‭ ‬الاستسلام‭ ‬أمام‭ ‬الأدميرال‭ ‬الأمريكي‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يقرأها،‭ ‬فلما‭ ‬سأله‭ ‬هذا‭ ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬تقرأ‭ ‬شروط‭ ‬الاستسلام،‭ ‬قال‭ ‬الإمبراطور‭: ‬سأفعل‭  ‬هذا‭ ‬عندما‭ ‬أمتلك‭ ‬القوة‭.‬

أخيراً،‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬المفاوض‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬يتفوق‭ ‬علينا‭ ‬بقوة‭ ‬عسكرية‭ ‬مذهلة،‭ ‬فإننا‭ ‬نمتلك‭ ‬قوة‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭ ‬أن‭ ‬يكسرها،‭ ‬ألا‭ ‬وهي‭ ‬قوة‭ ‬الأمل‭.‬

{ رئيس‭ ‬مركز‭ ‬الدراسات‭ ‬

المستقبلية‭ ‬بجامعة‭ ‬القدس

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا