لا شك أن الإبادة الجماعية في قطاع غزة ستكون لها عواقب وخيمة، وهذا أمر مؤكد.
يصعب استيعاب الألم المبرح الذي يعانيه الفلسطينيون في غزة. يشمل هذا الدمار عشرات الآلاف من القتلى في القصف الجوي، وأكثر من مئة ألف مصاب بجروح خطيرة، وهدم معظم المنازل، فضلا عن المجاعة الجماعية لأكثر من مليون ونصف المليون شخص نتيجةً للحصار الإسرائيلي.
علاوة على ذلك، تم تدمير المستشفيات والمدارس، وتم إنهاء الخدمات الأساسية الخاصة بالولادات، والأمراض، والوفيات، والحزن، وعلاج الجروح النفسية الناجمة عن الحرب إلى حد كبير.
معظم القتلى والجرحى في حرب الإبادة الجماعية هم مدنيون، غالبيتهم من النساء والأطفال، وقد فقد أكثر من أربعة آلاف شخص أطرافهم، علما بأن عديدا من الأطفال الجرحى هم الناجون الوحيدون من عائلاتهم.
لقد كتبت من قبل وقلت إنه من غير المقبول التركيز فقط في الحديث عن «اليوم التالي» حصريا على الحكم أو البناء الفعلي بينما يتم تجاهل البعد الإنساني للصراع والعواقب طويلة الأمد.
لا شك أن الحكم وإعادة الإعمار أمران مهمان، وكذلك أوراق العمل التي تُعدّ لمعالجتهما. ولكن يجب أيضًا الاهتمام بمعالجة الجروح الجسدية والنفسية التي خلَّفتها هذه الحرب ومعالجتها.
لنتأمل الجروح النفسية الغائرة التي يعاني منها الأطفال في قطاع غزة. نحن نعلم أن الخسائر الكبيرة تُسبب صدمة نفسية. ففقدان أحد الوالدين أو أحد الأشقاء أو الأصدقاء، أو حتى مجرد الانتقال إلى حي جديد، قد يكون أمرًا مُقلقًا ويؤثر في سلوكهم واستقرارهم النفسي.
نحن نعلم أيضًا أن شدة الصدمة يمكن تخفيفها بعوامل أخرى. على سبيل المثال، يمكن لعائلة داعمة أن تخفف إلى حد ما من الانزعاج الذي يشعر به الطفل عند انتقال عائلته إلى مدينة جديدة، وعند فقدانه أصدقاء وفقدان بيئة ألف العيش فيها.
ولكن ماذا لو فقدت عائلتك العديد من أحبائها (الوالدين والأطفال وأفراد العائلة المقربين)، كما هو الحال في قطاع غزة، واضطرت إلى الانتقال عدة مرات، وأصبحت تعيش الآن في خيمة بلا طعام أو ماء؟
وبعد ذلك، تخيلوا أنه خلال وقف إطلاق النار الأخير، انضم الأطفال، الذين يعانون بالفعل من صدمة الخسارة ومرارة الفقدان، إلى مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين يقومون بالرحلة الطويلة شمالاً إلى منازلهم القديمة.
عندما يصلون إلى هناك يقفون على الواقع المر ذلك أن منزلهم فحسب، بل حيّهم بأكمله، قد أصبح ركامًا وبات من الصعب التعرف عليه، ليجدوا أنفسهم بالتالي مجبرين على مواجهة الجوع والإهانة لرؤية والديهم يتوسّلون الطعام.
نعلم أنه كلما كبرنا وتقدمنا في العمر تُنظّم أدمغتنا تجاربنا الحياتية بحيث تكون هذه التجارب الراسخة في ذاكراتنا ذات معنى بالنسبة إلينا، وهكذا تتكون لدينا خريطة ذهنية لعلاقاتنا ومكانتنا في العالم الذي نعيش فيه.
ولكن ماذا لو عاد طفل يبلغ من العمر 12 عاماً إلى مدينة غزة ووجد أنه لا يوجد منزل، وأن الطريق إلى المدرسة، أو المتجر المجاور، أو منزل صديق، أو المسجد أو المدرسة، قد تم محوها من على وجه الأرض.
إن تراكم الخسائر المتعددة والتشرد الشديد لا يمكن اعتباره إلا صدمةً عميقة. في ظل هذه الظروف، يستحيل تقدير مدى شدة تأثير ذلك على سلامة هذا الطفل أو نموه المستقبلي. ماذا سيحل به وبإخوته الأكبر سنًا ووالديه؟ كيف ستستوعب أدمغتهم كل هذه الخسائر وتتكيف معها؟
ونظرا لخطورة هذا الوضع، فقد أصبح من الضروري ليس فقط إنهاء الصراع ووضع خطط لإعادة الإعمار وممارسة الحكم، بل وأيضا وضع استراتيجيات لمعالجة الاحتياجات النفسية والتنموية.
تُركز وسائل الإعلام الأمريكية على ضرورة معالجة صدمة الشباب الإسرائيليين المحتجزين كرهائن في غزة. وهذا أمرٌ ضروريٌّ بلا شك، لكن مدى تجاهل الكثيرين، وخاصةً في الولايات المتحدة الأمريكية، للصدمة التي يعيشها الفلسطينيون في غزة أمرٌ مُقلق، بل ومحزن.
لماذا يحدث هذا؟ يعزى ذلك باختصار إلى آفة العنصرية. يبدو أن الكثيرين، بمن فيهم داخل الولايات المتحدة الأمريكية، لا ينظرون إلى الفلسطينيين كبشر كاملين، ولذلك يعجزون عن فهم كيف أن تدمير حياتهم، وحرمانهم من حاضر طبيعي ومستقبل واعد، يمكن أن يؤدي إلى تشوهات في شعورهم بذواتهم.
إذا لم يظهر بقية العالم التعاطف المطلوب والتضامن المنتظر ويتبنى نهجا شاملا لإعادة بناء قطاع غزة واستعادة الشعور بالسلام لشعبها، فإنني أخشى ما قد يخبئه المستقبل.
حتى الآن، لم تُبدِ إسرائيل ولا الولايات المتحدة أي اهتمام بمعالجة إنسانية الفلسطينيين. تقدم إسرائيل والولايات المتحدة، بدلاً من ذلك، خططاً تُحوّل هذا الشعب المُثقل بالأعباء والمثخن بالجراح والآلام في قطاع غزة إلى بيادق تُحرّكها إسرائيل لتحقيق أهدافها.
يجب أن يأتي الحل من خلال اتخاذ موقف قوي وموحد من العرب والدول الأوروبية الرئيسية لمعاقبة إسرائيل على جرائمها، وإجبارها على إخلاء غزة وإنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية.
وبعد ذلك فقط، وبناء على تفويض دولي يتم استصداره، يمكن أن تبدأ عملية إعادة الإعمار التي ستعيد بناء قطاع غزة وتساعد في شفاء جراح الضحايا الفلسطينيين لهذه الحرب.
وإذا لم يتخذ المجتمع الدولي هذا المسار، فإن البذور المريرة التي تُزرع اليوم سوف تؤتي ثمارها في الأجيال القادمة.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك