في قصاصة من قصاصات جدي القديمة وجدت هذه الحكاية، وهو يرويها عن صديق أو شخص قريب، وعرفت ذلك من خلال سياق القصة، هذا الشخص اسمه (أحمد)، يقول جدي:
قال أحمد إنه ذات مرة خرج في رحلة برية مع مجموعة من أصدقائه، وأثناء تجوالهم وجدوا مجموعة من الرجال يلعبون لعبة سخيفة، وهي أنهم قد علقوا زجاجة ماء فارغة بحبل في غصن شجرة وجعلوها تتأرجح كبندول الساعة، ثم راحوا يصوبون عليها بالبندقية من مسافة بعيدة نسبيًّا.
يقول أحمد: دنونا منهم، وسألناهم ماذا يفعلون؟ قال أحدهم: نحاول أن نرمي تلك الزجاجة ومن يكسرها هو الفائز. يقول أحمد: ولم يكمل كلامه حتى أمسك أحد أصدقائنا البندقية وضغط الزناد من غير تفكير لتتناثر شظايا الزجاجة في كل اتجاه، فشهق الجميع ذهولا.
عرفنا فيما بعد أن هؤلاء كانوا يحاولون أن يكسروا الزجاجة منذ عدة ساعات، إلا أنهم فشلوا، ولكن لماذا نجح صديقنا في تنفيذ الأمر؟ هل لأنه رامٍ جيد أم ماذا؟
يقول أحمد؛ لم يكن صديقنا راميًا جيدًا، ولكن لأنه لم يعرف أنهم فشلوا في محاولاتهم، فلو علم لفشل هو أيضًا، ولكن قام بكل جراءة ومن غير أن يعلم خلفيات الموضوع ومن غير تفكير رمى، فأصاب، فلو تملكه الخوف أو الوساوس لما تجرأ ولما نجح.
يقول جدي: أعتقد أن هذا ما يعرف (بشجاعة الجهل)، فالذي لولاها لما تمكنا من فهم أي شيء، لأننا نتوقع الفشل من البداية.
انتهت قصاصة جدي، فذهبت أبحث في هذا المصطلح الجديد بالنسبة إلي، فلم أجد الكثير، ولكني وجدت هذه الحكاية التي ربما تساعد على فهم مصطلح (شجاعة الجهل)؛ تقول الحكاية:
في إحدى الجامعات، تأخر أحد الطلبة عن المحاضرة وحضر في الربع الأخير منها، وعندما دخل وجد على السبورة معادلة غير محلولة فنسخها، مفترضًا أن هذه هي واجبه المنزلي. وفي المنزل سهر ليلته حتى أتم حل تلك المعادلة، وفي صباح يوم الثاني قدمها لأستاذه.
أصيب الأستاذ بالذهول، وطلب من الفتى أن يخبره بالحقيقة، وذلك بسبب أن هذه المعادلة لا حل لها أو هكذا اعتبر أساتذة الرياضيات عبر التاريخ، وقد كتبها الأستاذ على لوحة الكتابة كنموذج للمعادلات المستحيلة الحل. والطالب الذي لم يعرف هذه الحقيقة، فقد كان جاهلاً بها، قام بحلها في ليلة واحدة.
فشجاعة الجهل هو ألا نفكر في مدى صعوبة ما نحن بصدده، ولا بعدد من فشلوا قبلنا، لأنها الطريقة الوحيدة الممكنة للنجاح، أما لو حاصرتنا أشباح المخاوف قبل أن نبدأ فلسوف تخرج كلاب الفشل السوداء المفترسة لتمزقنا قبل أن نخطو خطوة واحدة إلى الأمام.
يعرف شجاعة الجهل؛ إلى الحالة التي يُقدم فيها الإنسان على اتخاذ قرارات أو خوض تجارب دون امتلاك المعرفة الكافية، مدفوعًا بالثقة الزائدة أو بعدم إدراكه للمخاطر. هذا المفهوم يرتبط نوعًا ما بما يُعرف في علم النفس بتأثير (دانينغ – كروجر Dunning-Kruger Effect)، حيث يبالغ الأشخاص قليلو الخبرة في تقدير قدراتهم.
ولكن هذا لا يعني أبدًا أن نتجاهل كل شيء ونخطو إلى الأمام مهما كانت المخاطر غير أبهين بالحقيقة، لأن هناك فرقا كبيرا بين الشجاعة الحقيقية وشجاعة الجهل؛ فالشجاعة الحقيقية تنبع من الوعي بالمخاطر والاستعداد لمواجهتها على الرغم من ذلك، بينما شجاعة الجهل تنبع من عدم إدراك تلك المخاطر أصلاً. فالأولى تُبنى على المعرفة، والثانية على غيابها، أي غياب المعرفة.
إيجابيات شجاعة الجهل:
لشجاعة الجهل جوانب إيجابية؛ منها: الجرأة على التجربة دون خوف، كسر الحواجز النفسية التي تعيق المتعلمين أو الخبراء، فتح آفاق جديدة بسبب التفكير غير التقليدي.
فلو لم يتمتع توماس إديسون بهذه النوعية من الشجاعة، لما قام بالتجريب بلا خوف، فلم يكن إديسون عالمًا أكاديميًّا، بل كان مخترعًا بالتجربة والخطأ. جهلُه ببعض القواعد العلمية جعله لا يخاف من التجريب، وقد قال: «لم أفشل، بل وجدت 10 آلاف طريقة لا تعمل»، هذا النوع من الشجاعة غير المقيدة بالمعرفة الأكاديمية قادته إلى اختراع المصباح الكهربائي.
وكذلك ستيف جوبز وستيف وزنياك اللذين قاما بتأسيس شركة آبل، إذ إنه عندما أسس ستيف جوبز وشريكه ستيف وزنياك شركة آبل في مرآب صغير، لم يكن لديهما خبرة إدارية أو خلفية قوية في ريادة الأعمال. لكن (جهلهما) بالبروتوكولات التقليدية في الصناعة سمح لهما بالتفكير خارج الصندوق، وابتكار منتجات ثورية مثل الحاسوب الشخصي.
سلبيات شجاعة الجهل:
وكذلك فإن شجاعة الجهل ذات سلبيات أيضًا؛ مثل: اتخاذ قرارات كارثية، نشر معلومات مضللة، ومقاومة التعلم والتطور بسبب الغرور المعرفي. فلولا هذه السلبيات لما حدثت هذه الحوادث:
كارثة تشيرنوبل (1986)؛ وهي واحدة من أسوأ الكوارث النووية في التاريخ، فقد لعبت (شجاعة الجهل) دورًا كبيرًا في حدوثها. فقد تجاهل بعض المسؤولين التحذيرات الفنية، واتخذوا قرارات تجريبية دون فهم كامل لعواقبها، مما أدى إلى انفجار المفاعل النووي في تشيرنوبل، الجهل بالفيزياء النووية، مقرونًا بالثقة الزائدة، كان له ثمن باهظ.
الأزمة المالية العالمية (2008)؛ فقد اتخذ عديد من المستثمرين والمصرفيين قرارات مالية معقدة دون فهم حقيقي للمخاطر المرتبطة بها، خاصة فيما يتعلق بالقروض العقارية عالية المخاطر. الثقة المفرطة في النظام المالي، دون إدراك حقيقي لتعقيداته، ساهمت في انهيار الأسواق.
قد يشعر أحدنا أن هناك تناقضًا كبيرًا بين ما نقول عن شجاعة الجهل والتخطيط والتقدم على أسس منهجية ووفق محددات ومؤشرات معينة، وهذا حق، ولكننا وجدنا أنه في التخطيط نبالغ كثيرًا في تقدير التوقعات، وعديد من المخططين يعانون من مشكلة عدم مرونة في التغيير، فربما نجد أن واضع الخطة لا يحيد عنها أنملة حتى وإن استدعت الضرورة ذلك، وهذا لا يعني العشوائية أو شجاعة التغيير، وإنما بعض الضروريات تبيح المحظورات، في بعض الأحيان.
أن نضع خطة نسير وفق برنامجها فهذا أمر لا مراء فيه، ولكننا أثناء السير وتنفيذ الخطة وجدنا أنه يمكن تغيير بعض المسار أو تضطرنا الظروف إلى سلك الشارع البديل، ومن غير العودة إلى الطريق الأساسي، فهذا أمر لا خلاف فيه، وربما لا نعرف الكثير أو أننا نجهل معالم الطريق الآخر، ولكن هذا لا يعني أبدًا الدخول في المجهول والمخاطر بكل شيء، وإنما نحاول التغيير ليس من أجل التغيير وإنما لسلك خط بديل، في حالة الضرورة فقط، على ألا تُعد منهج حياة.
فلو وضعنا خطة للذهاب إلى العمرة وزيارة المدينة مثلاً، فإننا نحجز الطائرة والفندق وما إلى ذلك، وهذه ضروريات، وهذا تخطيط، ولكن عندما ذهبنا إلى هناك وجدنا أنه لدينا متسع من الوقت، فهل نجلس في الفندق طوال الوقت، وانتظار الصلاة حتى نذهب إلى الحرم ونؤدي الصلاة ثم نعود مرة أخرى وننام، فقررنا زيارة بعض من معالم مكة والمدينة المنورة، وعلى الرغم من أن هذه الأمور لم نخطط لها، إلا أنها من الشجاعة التجول والذهاب إلى بعض من تلك الأماكن لمعرفة التاريخ وما إلى ذلك، وهذا لا يغير من الخطة الأصلية أي شيء وإنما هي إضافة للخطة والتمتع بالمكان والتاريخ وما إلى ذلك، وقس على ذلك الكثير من الأمور.
شجاعة الجهل، لا تعني أبدًا ألا نخطط في حالة توفر المعلومات والتفكير العقلاني والاستراتيجي، وحتى إن لم تتوفر كل المعلومات التي نبني عليها برنامجنا ومخططنا فإنه من الضروري في كثير من الحالات أن نبحث عن تلك المعلومات، فإن لم نفعل ذلك فإن هذا يعد عشوائية، وإنما شجاعة الجهل تعني أنه في حالة عدم توفر المعلومات، حتى وإن بحثنا، ويصبح الإقدام ضرورة، فإن الاحجام يغدو جهالة وتحجر.
وأنا أكتب هذا المقال تشجعت لاستخدام الذكاء الاصطناعي – ربما للمرة الأولى – وطلب منه أن يكتب لي قصة تجسد معنى (شجاعة الجهل)، فكتب لي هذه الحكاية التي تقول:
في قرية نائية تحيط بها الجبال، كان هناك شاب يُدعى (سالم)، يعمل في إصلاح الدراجات الهوائية. لم يكن سالم هذا قد تلقى تعليمًا عاليًا، ولم يخرج يومًا من قريته الصغيرة. لكنه كان يملك قلبًا لا يعرف الخوف، أو ربما لا يعرف ما يجب أن يخاف منه.
في أحد الأيام، سمع أهل القرية دوي انفجار في الجبل المجاور، انتشر الذعر، وتحدث الناس عن تسرب غاز سام من أحد الأنابيب القديمة التي تمر تحت الأرض. هرب الجميع، وحتى رجال الدفاع المدني ترددوا في الاقتراب، بانتظار فرق متخصصة من العاصمة.
لكن سالم، الذي لم يفهم تمامًا معنى (غاز سام)، قرر أن يتصرف. ارتدى قناعًا بسيطًا صنعه من قماش مبلل، وحمل حقيبته الصغيرة التي تحتوي على أدواته المتواضعة، وتوجه نحو مصدر الدخان، والغاز.
دخل النفق، تتبع الصوت، ووجد صمامًا مكسورًا يتسرب منه الغاز. لم يكن يعرف قوانين الضغط أو تركيب الأنابيب، لكنه استخدم قطعة من إطار دراجة قديم، وربط بها الصمام بإحكام، فتوقف التسرب. عندما وصلت الفرق المتخصصة بعد ساعات، وجدوا أن الكارثة قد تم تفاديها. سألوا: من فعل هذا؟، قال أحد القرويين: سالم، عامل الدراجات.
ضحك أحد المهندسين، وقال: هذا جنون.
رد شيخ القرية بابتسامة: بل هي شجاعة الجهل، التي أنقذتنا جميعًا.
لا أعرف من يتفق مع حكاية سالم أو من يجد أن هذا التصرف تهورًا، ولكن الذي أعرفه حق المعرفة أننا يجب أن نمتلك (شجاع الجهل) في بعض الأحيان.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك