في الخامس والعشرين من مايو 2025م، حلّت الذكرى الثانية والأربعون لتأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية في 20 مايو 1981م؛ هذه المنظمة الإقليمية التي تأسست تحت ظروفٍ إقليمية أوجدت تحديات أمنية هائلة لدول الخليج العربي، بدءًا بالثورة الإيرانية عام 1979م، مروراً باندلاع الحرب العراقية-الإيرانية 1980-1988م واحتدام الحرب الباردة، التي كان لها انعكاس على أمن منطقة الخليج العربي. بين هذه التحديات، تمثل الفكر الجماعي الخليجي في ضرورة وجود إطار خليجي موحد لمواجهتها، وكان تأسيس المجلس معبراً عن هوية أمنية مشتركة لدوله، الذي جاء جامعاً؛ أي يضم دولاً تتشابه في الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتاريخية والثقافية؛ ومانعاً؛ أي يحول دون انضمام أي دولة أخرى من خارج المنظومة. وقد نصت ديباجة ميثاق تأسيس المجلس والمادة الرابعة منه على أن التنسيق بهدف تحقيق التكامل هو غاية تأسيس المجلس، وهو الهدف الذي وجد سبيله بالفعل نحو التحقيق في العديد من المجالات التي لا يتسع المجال لذكرها، لكن مجمل القول هو وجود حرص بالغ من دول الخليج على استمرار المجلس وتطويره ليكون الإطار الجامع للجهود الخليجية المشتركة، وتحقيق توازن القوى الإقليمي، الذي يعد الأساس لاستقرار الأمن الإقليمي، وهو ما تضمنته رؤية مجلس التعاون للأمن الإقليمي التي تم إعلانها في 28 مارس 2024م.
وبمتابعة العديد من التحليلات التي تناولت تجربة مجلس التعاون، وخاصةً الغربية منها، نجد أنها لم تكن منصفة في تقييم تجربة المجلس، سواء فيما يرتبط بفكرة الدور الأمني أو التركيز على مضامين الميثاق والنتائج، إلا أن ذلك مردود عليه بأن المجلس تمكّن بالفعل من تجسيد مقولة «إن أمن الخليج العربي كلٌّ لا يتجزأ». وكان المجلس بالفعل ركيزةً لتحقيق التوازن الإقليمي عبر ما يزيد على أربعة عقود، بالنظر إلى التحديات التي واجهتها دول الخليج العربي.
كانت الثورة الإيرانية هي التحدي الأول بالنظر إلى مبادئها ومجالات عملها، التي كانت منطقة الخليج العربي أول مجالات اختبارها بتأكيد أنصارها، وكانت السياسات الخليجية الجماعية حائط صد أمام تمدد تلك الثورة. ثم اندلعت الحرب العراقية-الإيرانية، وكان التحدي الأكبر لدول مجلس التعاون هو محاولة الطرفين المتحاربين لتغيير توازن القوى القائم، الأمر الذي حدا بدول المجلس إلى تأسيس بديل للأمن الذاتي تمثّل في قوات درع الجزيرة عام 1982م، فضلاً عن المساعي الدبلوماسية الخليجية الجماعية لوقف الحرب من خلال قرار مجلس التعاون تشكيل لجنة من 7 دول كانت مهمتها العمل على وقف الحرب، ونجاح دول مجلس التعاون في استصدار بعض القرارات الأممية بشأن تهديدات الملاحة البحرية، وصولاً إلى حرب تحرير دولة الكويت عام 1991م، التي تجلّت فيها القدرات الخليجية الجماعية العسكرية والدبلوماسية. فرغم الطابع المفاجئ للغزو العراقي لدولة الكويت عام 1990م، فإن مجلس التعاون استطاع التعامل مع معه بمسارات عسكرية من خلال جهود قوات درع الجزيرة لعرقلة تقدم القوات العراقية نحو المملكة العربية السعودية، وحماية المنشآت الحيوية إلى حين تأسيس التحالف الدولي لتحرير الكويت بقيادة الولايات المتحدة، فضلاً عن بيانات القمم الخليجية والاجتماعات الوزارية التي عكست واقع التضامن الخليجي، والتحرك الفاعل للدبلوماسية الخليجية على الصعيد الدولي لدعم جهود مجلس الأمن، الذي انعقد على مدى ستة أشهر وأصدر خلالها 12 قراراً وفقاً للفصل السابع.
لم تكن التحولات التي شهدتها المنطقة العربية بأقل خطورة من الأزمات المشار إليها؛ فكان الموقف الخليجي الجماعي لدعم أمن مملكة البحرين، وتوافق دول الخليج أيضاً على تقديم الدعم الاقتصادي لكل من مملكة البحرين وسلطنة عمان تجسيداً لوحدة المصير الخليجي. ولم تكن الصراعات في دول الجوار بعيدة عن اهتمام مجلس التعاون؛ فكان إطلاق مبادرة شاملة لحل الصراع في اليمن عام 2011م واستمرار الدعم الإنساني لليمن لتخفيف معاناة الشعب اليمني جراء الصراع الممتد الآن على مدى أربع عشرة سنة.
فضلاً عن تطور علاقات مجلس التعاون مع العراق، وهو ما عكسته الزيارات المتبادلة والتأكيد الخليجي الجماعي على دعم العراق، بالإضافة إلى دور المجلس تجاه سوريا الذي تجسد في زيارة وفد من مجلس التعاون في ديسمبر 2024م ضم السيد جاسم البديوي أمين عام المجلس، والسيد عبدالله اليحيا وزير الخارجية الكويتي رئيس المجلس الوزاري الخليجي آنذاك، تنفيذاً لتوصيات المجلس الوزاري وتعبيرًا عن «تمسك دول مجلس التعاون بالمبادئ الأساسية التي تضمن سيادة سوريا واستقلالها ووحدة أراضيها، ورسالة مساندة لإرادة الشعب السوري الشقيق»، وفق البيان الرسمي الذي صدر بهذا الشأن.
ويعني ما سبق أن تقييم أداء التنظيمات الإقليمية، من بينها مجلس التعاون لدول الخليج العربية، لا يتم بالنظر فقط إلى الإنجازات التي حققها على الصعد التنموية والأمنية والسياسية، وإنما أيضاً من خلال إدارته للأزمات الأمنية، انطلاقاً من أن أي تجمع للأمن الإقليمي يكون من بين أهدافه تحقيق الأمن الإقليمي لدوله؛ فالمسألة لا تنحصر في الأهداف التنموية فحسب، وإنما تمتد إلى كيفية جعل المنظومة حائط صدٍّ ضد أي تهديداتٍ تواجه الدول الأعضاء. وفي تقديري إن بقاء مجلس التعاون ذاته -في ظل تجميد عمل بعض المنظمات الإقليمية المماثلة أو تفكك البعض الآخر- يُعد دليلاً دامغاً على صلابته وعزم دوله الأعضاء على استمراره وتطويره.
ومما يسترعي الانتباه الآن هو تقديم مجلس التعاون لأولوية التنسيق مع القوى الدولية بشكل جماعي، وهو ما يتضح من خلال الحوارات الاستراتيجية مع القوى والمنظمات الدولية والتكتلات الاقتصادية الفاعلة، ما يعكس الرؤية الخليجية الموحدة للتعامل مع تلك الأطراف، وهو ما يحقق القيمة المضافة من تلك الشراكات ويجسد المصلحة الخليجية الموحدة.
وفي ظل عدم الاستقرار الإقليمي الراهن، الذي يُظهر استهداف الجماعات دون الدول لمفهوم الدولة الوطنية الموحدة، مستهدفا الأمن الإقليمي للخليج العربي، يبقى مجلس التعاون مسؤولاً عن الاستمرار في تطوير البديل الذاتي لأمنه الإقليمي من خلال القيادة العسكرية الموحدة لدوله، في ظل تغير مفهوم الأمن ذاته، واحتدام تهديدات الأمن البحري، ونجاح الجماعات من دون الدول في توظيف التكنولوجيا الحديثة لتهديد المنشآت الحيوية.
أخيراً وليس آخراً، بغض النظر عن المشروعات العسكرية المشتركة التي يمكن من خلالها للمجلس الاستمرار في الحفاظ على توازن القوى الإقليمي، يبقى استمرار حرص دول الخليج العربي على تحقيق مبدأ التضامن البيني هو الركيزة الأساسية لبقاء وتطور مجلس التعاون.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك