زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
لماذا الخوف من الغزو؟ (1)
مارست العمالة لدول الغرب في مرحلتين من مسيرتي المهنية، وكانت الأولى عند التحاقي بالسفارة البريطانية في الخرطوم، بدرجة سكرتير ثالث، مترجما وضابط إعلام، وكانت الثانية عندما عملت في شركة أرامكو النفطية عندما كان الأمريكان شركاء فيها، أي قبل سعودتها كليا.
ومع هذا فوجئت بوصول رسالة الكترونية من رئيس تحرير إحدى المجلات، يطلب فيها مني مداخلة حول حوار الثقافات، و«الغزو الثقافي». قفز الى ذهني سؤال ضخم: هل بيني والرجل ثأر قديم حتى يجعلني موضع شبهة؟ لماذا اتهمني بالتثقف؟ أليس هذا تلميحا صريحا يشي بأنه متواطئ مع دوائر استعمارية استكبارية تهدف الى تشويه سمعتي كي تستهدفني أجهزة المخابرات الغرقية؟ (هذا جهاز موحد للاستخبارات الغربية والشرقية أثبت كفاءة في حملة أمريكا لمحارية الارهاب. امريكا تقبض على جعفر عباس وتسلمه لدولة شرقية فيعترف خلال دقائق بأنه كان نائب هتلر، ثم التحق بكتائب القذافي في سيبيريا)، وهب أنني فعلا مثقف. هل سأجاهر بذلك؟ ثم لماذا أورط نفسي بنفي وجود غزو ثقافي غربي فأُتهم بالعمالة للغرب، أو أزعم ان ما هو حادث تلاقح عظيم الفائدة وحتمي فأُتهم بالعمالة للغرْق (الشرق والغرب معا!). صحيح أن وزير الدعاية النازي الهتلري غوبلز مات، ولكن مقولته «كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي» ما زالت سارية المفعول. وكل من يحمل لقب مثقف في العالم العربي عميل، فهو إما عميل للحكومة في نظر غيره من المثقفاتية أو عميل لدولة أجنبية في نظر الحكومة، وبالتالي فهو لقب لا يُرجى من ورائه خير.
وبداهة فإنني لا امانع في ان اكون عميلا غربيا بلا أجر، (إذا كانت العمالة تعني النهل من موارد الثقافة الغربية بوعي)، لأن ذلك حتما وقطعا أشرف من أكون عميلا عربيا مأجورا كشأن الاف المثقفين العرب الذي أصبحوا مطايا للحكومات يستخدمونهم كأبواق دعاية، يلبسون الباطل ثياب الحق، ثم يلفظونهم لفظ المناديل الورقية المستعملة. المهم هو أنني لا أتحسس مسدسي الافتراضي كلما سمعت عبارة «ثقافة غربية»، بل لا أتوجس مما يسمى الغزو الثقافي الغربي رغم انه امر حادث وواقع! ولكن هل هو غزو؟ الغزو نشاط منظم له تكتيك واستراتيجية: فهل أبدع الغرب رواياته وقصصه واشعاره وفنونه التشكيلية وموسيقاه واشتراكيته ورأسماليته وفلسفاته التي يناقض بعضها بعضا ومنظوماته الإعلامية لغسل ادمغة العرب بالتحديد؟ من يجيب بنعم يحتاج الى زرع دماغ. يا جماعة والله ما حد سائل فينا كي نتوهم ان الكون كله يتآمر علينا.
إنني لا آت بجديد إذا قلت ان من يعد للثقافة والمعرفة ما تيسر من عدة ومن رباط الفكر لا يخشى من الغزو، حتى لو كان أمرا حادثا، والغرب غزانا وغيرنا ثقافيا فقط بمعنى ان له ثقافة طاغية مبهرة وذات زخم ويملك ادوات توصيلها الى الآخرين، ونحن أمة مستهلكة ومستهلكة (بكسر اللام مرة وفتحها مرة أخرى)، فالكلام الذي تقرؤونه الآن ما كان ليصلكم لولا أنني استعين بأدوات من إنتاج الثقافة والحضارة الغربية، القميص الذي ارتديه الان صنع من قطن سوداني او جزر قمري ولكنني اشتريته من ماركس (سيتهمني البعض بالشيوعية) آند سبنسر (سيتهمني الجميع بالتطبيعية لانه وفيما يقال فإن أصحاب المتجر يهود..ليكن، فالتطبيع على المكشوف خير من التطبيع المستتر وجوبا للتعذُّر!)، الرواد من شعرائنا المعاصرين نقلوا بالمسطرة عن تي أس اليوت وإيزرا باوند، حتى طريقة أداء السح الدح امبو و«بحب عمرو موسى..» منقولة عن الراب الامريكي المنشأ، وبيننا من يقول علنا ان نجيب محفوظ لم يكن يستأهل جائزة نوبل للآداب لأنه ليس في قامة غارسيا ماركيث او جيمس جويس او هنري جيمس. المهم أنك عندما تطلع على الثقافات الأجنبية بذهن متفتح ومسلحا بثقافتك الأصلية، لن تنجرف ولن تنحرف، بل يصبح عودك الثقافي اكثر متانة.. ونواصل بعد الفاصل.
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك