العدد : ١٧٢٤٢ - السبت ٠٧ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ١١ ذو الحجة ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢٤٢ - السبت ٠٧ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ١١ ذو الحجة ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

لماذا الخوف من الغزو؟ (1)

مارست‭ ‬العمالة‭ ‬لدول‭ ‬الغرب‭ ‬في‭ ‬مرحلتين‭ ‬من‭ ‬مسيرتي‭ ‬المهنية،‭ ‬وكانت‭ ‬الأولى‭ ‬عند‭ ‬التحاقي‭ ‬بالسفارة‭ ‬البريطانية‭ ‬في‭ ‬الخرطوم،‭ ‬بدرجة‭ ‬سكرتير‭ ‬ثالث،‭ ‬مترجما‭ ‬وضابط‭ ‬إعلام،‭ ‬وكانت‭ ‬الثانية‭ ‬عندما‭ ‬عملت‭ ‬في‭ ‬شركة‭ ‬أرامكو‭ ‬النفطية‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬الأمريكان‭ ‬شركاء‭ ‬فيها،‭ ‬أي‭ ‬قبل‭ ‬سعودتها‭ ‬كليا‭.‬

ومع‭ ‬هذا‭ ‬فوجئت‭ ‬بوصول‭ ‬رسالة‭ ‬الكترونية‭ ‬من‭ ‬رئيس‭ ‬تحرير‭ ‬إحدى‭ ‬المجلات،‭ ‬يطلب‭ ‬فيها‭ ‬مني‭ ‬مداخلة‭ ‬حول‭ ‬حوار‭ ‬الثقافات،‭ ‬و«الغزو‭ ‬الثقافي‮»‬‭.  ‬قفز‭ ‬الى‭ ‬ذهني‭ ‬سؤال‭ ‬ضخم‭: ‬هل‭ ‬بيني‭ ‬والرجل‭ ‬ثأر‭ ‬قديم‭ ‬حتى‭ ‬يجعلني‭ ‬موضع‭ ‬شبهة؟‭ ‬لماذا‭ ‬اتهمني‭ ‬بالتثقف؟‭ ‬أليس‭ ‬هذا‭ ‬تلميحا‭ ‬صريحا‭ ‬يشي‭ ‬بأنه‭ ‬متواطئ‭ ‬مع‭ ‬دوائر‭ ‬استعمارية‭ ‬استكبارية‭ ‬تهدف‭ ‬الى‭ ‬تشويه‭ ‬سمعتي‭ ‬كي‭ ‬تستهدفني‭ ‬أجهزة‭ ‬المخابرات‭ ‬الغرقية؟‭ (‬هذا‭ ‬جهاز‭ ‬موحد‭ ‬للاستخبارات‭ ‬الغربية‭ ‬والشرقية‭ ‬أثبت‭ ‬كفاءة‭ ‬في‭ ‬حملة‭ ‬أمريكا‭ ‬لمحارية‭ ‬الارهاب‭. ‬امريكا‭ ‬تقبض‭ ‬على‭ ‬جعفر‭ ‬عباس‭ ‬وتسلمه‭ ‬لدولة‭ ‬شرقية‭ ‬فيعترف‭ ‬خلال‭ ‬دقائق‭ ‬بأنه‭ ‬كان‭ ‬نائب‭ ‬هتلر،‭ ‬ثم‭ ‬التحق‭ ‬بكتائب‭ ‬القذافي‭ ‬في‭ ‬سيبيريا‭)‬،‭ ‬وهب‭ ‬أنني‭ ‬فعلا‭ ‬مثقف‭. ‬هل‭ ‬سأجاهر‭ ‬بذلك؟‭ ‬ثم‭ ‬لماذا‭ ‬أورط‭ ‬نفسي‭ ‬بنفي‭ ‬وجود‭ ‬غزو‭ ‬ثقافي‭ ‬غربي‭ ‬فأُتهم‭ ‬بالعمالة‭ ‬للغرب،‭ ‬أو‭ ‬أزعم‭ ‬ان‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬حادث‭ ‬تلاقح‭ ‬عظيم‭ ‬الفائدة‭ ‬وحتمي‭ ‬فأُتهم‭ ‬بالعمالة‭ ‬للغرْق‭ (‬الشرق‭ ‬والغرب‭ ‬معا‭!). ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬وزير‭ ‬الدعاية‭ ‬النازي‭ ‬الهتلري‭ ‬غوبلز‭ ‬مات،‭ ‬ولكن‭ ‬مقولته‭ ‬‮«‬كلما‭ ‬سمعت‭ ‬كلمة‭ ‬ثقافة‭ ‬تحسست‭ ‬مسدسي‮»‬‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬سارية‭ ‬المفعول‭. ‬وكل‭ ‬من‭ ‬يحمل‭ ‬لقب‭ ‬مثقف‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬عميل،‭ ‬فهو‭ ‬إما‭ ‬عميل‭ ‬للحكومة‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬المثقفاتية‭ ‬أو‭ ‬عميل‭ ‬لدولة‭ ‬أجنبية‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬الحكومة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فهو‭ ‬لقب‭ ‬لا‭ ‬يُرجى‭ ‬من‭ ‬ورائه‭ ‬خير‭.‬

وبداهة‭ ‬فإنني‭ ‬لا‭ ‬امانع‭ ‬في‭ ‬ان‭ ‬اكون‭ ‬عميلا‭ ‬غربيا‭ ‬بلا‭ ‬أجر،‭ (‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬العمالة‭ ‬تعني‭ ‬النهل‭ ‬من‭ ‬موارد‭ ‬الثقافة‭ ‬الغربية‭ ‬بوعي‭)‬،‭ ‬لأن‭ ‬ذلك‭ ‬حتما‭ ‬وقطعا‭ ‬أشرف‭ ‬من‭ ‬أكون‭ ‬عميلا‭ ‬عربيا‭ ‬مأجورا‭ ‬كشأن‭ ‬الاف‭ ‬المثقفين‭ ‬العرب‭ ‬الذي‭ ‬أصبحوا‭ ‬مطايا‭ ‬للحكومات‭ ‬يستخدمونهم‭ ‬كأبواق‭ ‬دعاية،‭ ‬يلبسون‭ ‬الباطل‭ ‬ثياب‭ ‬الحق،‭ ‬ثم‭ ‬يلفظونهم‭ ‬لفظ‭ ‬المناديل‭ ‬الورقية‭ ‬المستعملة‭. ‬المهم‭ ‬هو‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أتحسس‭ ‬مسدسي‭ ‬الافتراضي‭ ‬كلما‭ ‬سمعت‭ ‬عبارة‭ ‬‮«‬ثقافة‭ ‬غربية‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬لا‭ ‬أتوجس‭ ‬مما‭ ‬يسمى‭ ‬الغزو‭ ‬الثقافي‭ ‬الغربي‭ ‬رغم‭ ‬انه‭ ‬امر‭ ‬حادث‭ ‬وواقع‭! ‬ولكن‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬غزو؟‭ ‬الغزو‭ ‬نشاط‭ ‬منظم‭ ‬له‭ ‬تكتيك‭ ‬واستراتيجية‭: ‬فهل‭ ‬أبدع‭ ‬الغرب‭ ‬رواياته‭ ‬وقصصه‭ ‬واشعاره‭ ‬وفنونه‭ ‬التشكيلية‭ ‬وموسيقاه‭ ‬واشتراكيته‭ ‬ورأسماليته‭ ‬وفلسفاته‭ ‬التي‭ ‬يناقض‭ ‬بعضها‭ ‬بعضا‭ ‬ومنظوماته‭ ‬الإعلامية‭ ‬لغسل‭ ‬ادمغة‭ ‬العرب‭ ‬بالتحديد؟‭ ‬من‭ ‬يجيب‭ ‬بنعم‭ ‬يحتاج‭ ‬الى‭ ‬زرع‭ ‬دماغ‭. ‬يا‭ ‬جماعة‭ ‬والله‭ ‬ما‭ ‬حد‭ ‬سائل‭ ‬فينا‭ ‬كي‭ ‬نتوهم‭ ‬ان‭ ‬الكون‭ ‬كله‭ ‬يتآمر‭ ‬علينا‭.‬

إنني‭ ‬لا‭ ‬آت‭ ‬بجديد‭ ‬إذا‭ ‬قلت‭ ‬ان‭ ‬من‭ ‬يعد‭ ‬للثقافة‭ ‬والمعرفة‭ ‬ما‭ ‬تيسر‭ ‬من‭ ‬عدة‭ ‬ومن‭ ‬رباط‭ ‬الفكر‭ ‬لا‭ ‬يخشى‭ ‬من‭ ‬الغزو،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬أمرا‭ ‬حادثا،‭ ‬والغرب‭ ‬غزانا‭ ‬وغيرنا‭ ‬ثقافيا‭ ‬فقط‭ ‬بمعنى‭ ‬ان‭ ‬له‭ ‬ثقافة‭ ‬طاغية‭ ‬مبهرة‭ ‬وذات‭ ‬زخم‭ ‬ويملك‭ ‬ادوات‭ ‬توصيلها‭ ‬الى‭ ‬الآخرين،‭ ‬ونحن‭ ‬أمة‭ ‬مستهلكة‭ ‬ومستهلكة‭ (‬بكسر‭ ‬اللام‭ ‬مرة‭ ‬وفتحها‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭)‬،‭ ‬فالكلام‭ ‬الذي‭ ‬تقرؤونه‭ ‬الآن‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬ليصلكم‭ ‬لولا‭ ‬أنني‭ ‬استعين‭ ‬بأدوات‭ ‬من‭ ‬إنتاج‭ ‬الثقافة‭ ‬والحضارة‭ ‬الغربية،‭ ‬القميص‭ ‬الذي‭ ‬ارتديه‭ ‬الان‭ ‬صنع‭ ‬من‭ ‬قطن‭ ‬سوداني‭ ‬او‭ ‬جزر‭ ‬قمري‭ ‬ولكنني‭ ‬اشتريته‭ ‬من‭ ‬ماركس‭ (‬سيتهمني‭ ‬البعض‭ ‬بالشيوعية‭) ‬آند‭ ‬سبنسر‭ (‬سيتهمني‭ ‬الجميع‭ ‬بالتطبيعية‭ ‬لانه‭ ‬وفيما‭ ‬يقال‭ ‬فإن‭ ‬أصحاب‭ ‬المتجر‭ ‬يهود‭..‬ليكن،‭ ‬فالتطبيع‭ ‬على‭ ‬المكشوف‭ ‬خير‭ ‬من‭ ‬التطبيع‭ ‬المستتر‭ ‬وجوبا‭ ‬للتعذُّر‭!)‬،‭ ‬الرواد‭ ‬من‭ ‬شعرائنا‭ ‬المعاصرين‭ ‬نقلوا‭ ‬بالمسطرة‭ ‬عن‭ ‬تي‭ ‬أس‭ ‬اليوت‭ ‬وإيزرا‭ ‬باوند،‭ ‬حتى‭ ‬طريقة‭ ‬أداء‭ ‬السح‭ ‬الدح‭ ‬امبو‭ ‬و«بحب‭ ‬عمرو‭ ‬موسى‭..‬‮»‬‭ ‬منقولة‭ ‬عن‭ ‬الراب‭ ‬الامريكي‭ ‬المنشأ،‭ ‬وبيننا‭ ‬من‭ ‬يقول‭ ‬علنا‭ ‬ان‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يستأهل‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬للآداب‭ ‬لأنه‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬قامة‭ ‬غارسيا‭ ‬ماركيث‭ ‬او‭ ‬جيمس‭ ‬جويس‭ ‬او‭ ‬هنري‭ ‬جيمس‭. ‬المهم‭ ‬أنك‭ ‬عندما‭ ‬تطلع‭ ‬على‭ ‬الثقافات‭ ‬الأجنبية‭ ‬بذهن‭ ‬متفتح‭ ‬ومسلحا‭ ‬بثقافتك‭ ‬الأصلية،‭ ‬لن‭ ‬تنجرف‭ ‬ولن‭ ‬تنحرف،‭ ‬بل‭ ‬يصبح‭ ‬عودك‭ ‬الثقافي‭ ‬اكثر‭ ‬متانة‭.. ‬ونواصل‭ ‬بعد‭ ‬الفاصل‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا