لكل إنسان حقه المطلق في أن تكون له أسراره وخصوصياته، التي يجب على الجميع احترامها وعدم التدخل فيها، تلك الخصوصيات التي تجعله حرا فيما يختار أو يدع، في أي شيء يتحدث؟ وعما يمتنع؟ وماذا قرر أن يحتفظ به لنفسه؟ ومتى يتشارك مع الآخرين الأفكار والرؤى والمعلومات؟
تشير المادة «12» من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكذلك المادة «17» من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، إلى أنه: (لا يجوز تعريض أحد للتدخل التعسفي في حياته الخاصة أو في شؤون أسرته أو مسكنه أو مراسلاته أو شَن حملات تمس شرفه وسمعته)، وهو الأمر الذى أكدته أيضا الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والوثيقة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب والاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان واللائحة الأوروبية لحقوق الإنسان وغيرها من الهيئات الحقوقية والنصوص القانونية الضامنة لاحترام خصوصية الإنسان وعدم انتهاكها، بل حمايتها من قِبَل الأفراد والجماعات والدول.
لكن، هل تضمن هذه المواثيق والقوانين حماية حقيقية لخصوصية الناس؟ وإلى أي مدى يتم انتهاك تلك الخصوصية؟
للأسف الشديد في ظل العصر الرقمي أصبح مفهوم الخصوصية ممتهنا ومنتهكا ومُفرغا من كل معانيه نتيجة انتشار الرقابة الإلكترونية وجمع البيانات الشخصية سواء من خلال التطبيقات أو مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تحولت التكنولوجيا إلى ضرورة لا فصال فيها، نحو تغيير وجه الحياة والتحكم في سلوكيات الأفراد والمجتمعات وزيادة الإنتاج وسرعة الإنجاز وسهولة التواصل ودقة النتائج وكفاءة العمل وإعادة بناء العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية.
لذلك ورغم الفوائد العظيمة والمهمة التي قدمتها التكنولوجيا للإنسان إلا أنها باتت تمثل خطرا جما على حريته الشخصية وخصوصياته في كافة مناحي الحياة: «الحركة والتنقل والإبداع والتملك والثروة والعلاقات العاطفية والنفعية».
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: كيف تهدد التكنولوجيا خصوصية الإنسان؟ أحد أبرز تلك التهديدات يتمثل في المراقبة الجماعية، وذلك عندما تستخدم السلطات والشركات الكبرى التكنولوجيا في متابعة الأفراد من خلال الهواتف الذكية أو الإنترنت أو كاميرات المراقبة أو الذكاء الاصطناعي، ولا شك في أن مثل هذه الأدوات تخلق بيئة تفتقر إلى الخصوصية، بل تجعل الأفراد يشعرون باستمرار بأنهم مراقبون، مما يحد من قدرتهم على التعبير عن أنفسهم ومجتمعاتهم بحرية، بالإضافة إلى ما سبق تعتمد التكنولوجيا الحديثة على جمع البيانات الشخصية بطرق قد لا يكون المستخدم واعيا بها، حيث يتم تحليل أنماط سلوكه وتوجهاته وأفكاره بشكل يمكن للشركات والسلطات التأثير على قراراته والتلاعب بها، واستثمار البيانات كسلعة تُباع وتشترى لأغراض تجارية أو عسكرية أو سياسية.
ناهيك عن أن التوجيه الإعلامي – في الغالب – مصنوع بناء على أدوات تكنولوجية تستخدمها بعض الجهات بالتحكم في الرأي العام من خلال خوارزميات تدقق في تصنيع المحتوى الذي يظهر للأفراد، بطريقة تجعله محاصرا داخل فقاعات فكرية قد تقلل من وجهات النظر وتؤثر على استقلالية التفكير والقدرة على اتخاذ القرار.
إن أخطر ما في التكنولوجيا الآن أنها توفر إمكانية مراقبة الناس سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وشن هجمات سيبرانية قد يتم من خلالها تسريب معلومات شخصية وحسابات بنكية وأسرار شخصية لا يريد الإنسان الكشف عنها.
لقد تحكمت التكنولوجيا وحكمت، حتى لم يعد في الإمكان الفكاك من أَسرها، وتجنب زيفها وتزييفها، والفرار من رقابتها التي باتت تحيط بالإنسان في كل مكان: في البيت، في الشارع، في العمل، في التنقل، في التفكير واتخاذ القرار، في طريقة المشاعر والتخيل والتفكير، في كل شيء نراه ونسمعه ونلمسه ونشمه، حتى أصبح السؤال الأكثر إلحاحا: هل أصبحت التكنولوجيا ملكنا؟ أم أصبحنا نحن ملكا للتكنولوجيا؟
{ كاتب وباحث أكاديمي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك