العدد : ١٧٢٤١ - الجمعة ٠٦ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ١٠ ذو الحجة ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢٤١ - الجمعة ٠٦ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ١٠ ذو الحجة ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

حين تغتال التكنولوجيا حق الإنسان في الخصوصية!

بقلم: د. طارق عباس {

الخميس ٠٥ يونيو ٢٠٢٥ - 02:00

لكل‭ ‬إنسان‭ ‬حقه‭ ‬المطلق‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬له‭ ‬أسراره‭ ‬وخصوصياته،‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬على‭ ‬الجميع‭ ‬احترامها‭ ‬وعدم‭ ‬التدخل‭ ‬فيها،‭ ‬تلك‭ ‬الخصوصيات‭ ‬التي‭ ‬تجعله‭ ‬حرا‭ ‬فيما‭ ‬يختار‭ ‬أو‭ ‬يدع،‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬يتحدث؟‭ ‬وعما‭ ‬يمتنع؟‭ ‬وماذا‭ ‬قرر‭ ‬أن‭ ‬يحتفظ‭ ‬به‭ ‬لنفسه؟‭ ‬ومتى‭ ‬يتشارك‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭ ‬الأفكار‭ ‬والرؤى‭ ‬والمعلومات؟‭ ‬

تشير‭ ‬المادة‭ ‬‮«‬12‮»‬‭ ‬من‭ ‬الإعلان‭ ‬العالمي‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬وكذلك‭ ‬المادة‭ ‬‮«‬17‮»‬‭ ‬من‭ ‬العهد‭ ‬الدولي‭ ‬للحقوق‭ ‬المدنية‭ ‬والسياسية،‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭: (‬لا‭ ‬يجوز‭ ‬تعريض‭ ‬أحد‭ ‬للتدخل‭ ‬التعسفي‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬الخاصة‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬أسرته‭ ‬أو‭ ‬مسكنه‭ ‬أو‭ ‬مراسلاته‭ ‬أو‭ ‬شَن‭ ‬حملات‭ ‬تمس‭ ‬شرفه‭ ‬وسمعته‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذى‭ ‬أكدته‭ ‬أيضا‭ ‬الاتفاقية‭ ‬الأوروبية‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬والوثيقة‭ ‬الإفريقية‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬والشعوب‭ ‬والاتفاقية‭ ‬الأمريكية‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬واللائحة‭ ‬الأوروبية‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الهيئات‭ ‬الحقوقية‭ ‬والنصوص‭ ‬القانونية‭ ‬الضامنة‭ ‬لاحترام‭ ‬خصوصية‭ ‬الإنسان‭ ‬وعدم‭ ‬انتهاكها،‭ ‬بل‭ ‬حمايتها‭ ‬من‭ ‬قِبَل‭ ‬الأفراد‭ ‬والجماعات‭ ‬والدول‭.‬

لكن،‭ ‬هل‭ ‬تضمن‭ ‬هذه‭ ‬المواثيق‭ ‬والقوانين‭ ‬حماية‭ ‬حقيقية‭ ‬لخصوصية‭ ‬الناس؟‭ ‬وإلى‭ ‬أي‭ ‬مدى‭ ‬يتم‭ ‬انتهاك‭ ‬تلك‭ ‬الخصوصية؟

للأسف‭ ‬الشديد‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬العصر‭ ‬الرقمي‭ ‬أصبح‭ ‬مفهوم‭ ‬الخصوصية‭ ‬ممتهنا‭ ‬ومنتهكا‭ ‬ومُفرغا‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬معانيه‭ ‬نتيجة‭ ‬انتشار‭ ‬الرقابة‭ ‬الإلكترونية‭ ‬وجمع‭ ‬البيانات‭ ‬الشخصية‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التطبيقات‭ ‬أو‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬حيث‭ ‬تحولت‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬إلى‭ ‬ضرورة‭ ‬لا‭ ‬فصال‭ ‬فيها،‭ ‬نحو‭ ‬تغيير‭ ‬وجه‭ ‬الحياة‭ ‬والتحكم‭ ‬في‭ ‬سلوكيات‭ ‬الأفراد‭ ‬والمجتمعات‭ ‬وزيادة‭ ‬الإنتاج‭ ‬وسرعة‭ ‬الإنجاز‭ ‬وسهولة‭ ‬التواصل‭ ‬ودقة‭ ‬النتائج‭ ‬وكفاءة‭ ‬العمل‭ ‬وإعادة‭ ‬بناء‭ ‬العلاقات‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والأخلاقية‭.‬

لذلك‭ ‬ورغم‭ ‬الفوائد‭ ‬العظيمة‭ ‬والمهمة‭ ‬التي‭ ‬قدمتها‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬للإنسان‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬باتت‭ ‬تمثل‭ ‬خطرا‭ ‬جما‭ ‬على‭ ‬حريته‭ ‬الشخصية‭ ‬وخصوصياته‭ ‬في‭ ‬كافة‭ ‬مناحي‭ ‬الحياة‭: ‬‮«‬الحركة‭ ‬والتنقل‭ ‬والإبداع‭ ‬والتملك‭ ‬والثروة‭ ‬والعلاقات‭ ‬العاطفية‭ ‬والنفعية‮»‬‭.‬

والسؤال‭ ‬الذي‭ ‬يطرح‭ ‬نفسه‭ ‬الآن‭: ‬كيف‭ ‬تهدد‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬خصوصية‭ ‬الإنسان؟‭ ‬أحد‭ ‬أبرز‭ ‬تلك‭ ‬التهديدات‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬المراقبة‭ ‬الجماعية،‭ ‬وذلك‭ ‬عندما‭ ‬تستخدم‭ ‬السلطات‭ ‬والشركات‭ ‬الكبرى‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬في‭ ‬متابعة‭ ‬الأفراد‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الهواتف‭ ‬الذكية‭ ‬أو‭ ‬الإنترنت‭ ‬أو‭ ‬كاميرات‭ ‬المراقبة‭ ‬أو‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي،‭ ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الأدوات‭ ‬تخلق‭ ‬بيئة‭ ‬تفتقر‭ ‬إلى‭ ‬الخصوصية،‭ ‬بل‭ ‬تجعل‭ ‬الأفراد‭ ‬يشعرون‭ ‬باستمرار‭ ‬بأنهم‭ ‬مراقبون،‭ ‬مما‭ ‬يحد‭ ‬من‭ ‬قدرتهم‭ ‬على‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬أنفسهم‭ ‬ومجتمعاتهم‭ ‬بحرية،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬تعتمد‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬الحديثة‭ ‬على‭ ‬جمع‭ ‬البيانات‭ ‬الشخصية‭ ‬بطرق‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬المستخدم‭ ‬واعيا‭ ‬بها،‭ ‬حيث‭ ‬يتم‭ ‬تحليل‭ ‬أنماط‭ ‬سلوكه‭ ‬وتوجهاته‭ ‬وأفكاره‭ ‬بشكل‭ ‬يمكن‭ ‬للشركات‭ ‬والسلطات‭ ‬التأثير‭ ‬على‭ ‬قراراته‭ ‬والتلاعب‭ ‬بها،‭ ‬واستثمار‭ ‬البيانات‭ ‬كسلعة‭ ‬تُباع‭ ‬وتشترى‭ ‬لأغراض‭ ‬تجارية‭ ‬أو‭ ‬عسكرية‭ ‬أو‭ ‬سياسية‭.‬

ناهيك‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬التوجيه‭ ‬الإعلامي‭ ‬‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬‭ ‬مصنوع‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬أدوات‭ ‬تكنولوجية‭ ‬تستخدمها‭ ‬بعض‭ ‬الجهات‭ ‬بالتحكم‭ ‬في‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬خوارزميات‭ ‬تدقق‭ ‬في‭ ‬تصنيع‭ ‬المحتوى‭ ‬الذي‭ ‬يظهر‭ ‬للأفراد،‭ ‬بطريقة‭ ‬تجعله‭ ‬محاصرا‭ ‬داخل‭ ‬فقاعات‭ ‬فكرية‭ ‬قد‭ ‬تقلل‭ ‬من‭ ‬وجهات‭ ‬النظر‭ ‬وتؤثر‭ ‬على‭ ‬استقلالية‭ ‬التفكير‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬اتخاذ‭ ‬القرار‭.‬

إن‭ ‬أخطر‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬الآن‭ ‬أنها‭ ‬توفر‭ ‬إمكانية‭ ‬مراقبة‭ ‬الناس‭ ‬سواء‭ ‬بطريقة‭ ‬مباشرة‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬مباشرة‭ ‬وشن‭ ‬هجمات‭ ‬سيبرانية‭ ‬قد‭ ‬يتم‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬تسريب‭ ‬معلومات‭ ‬شخصية‭ ‬وحسابات‭ ‬بنكية‭ ‬وأسرار‭ ‬شخصية‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬الإنسان‭ ‬الكشف‭ ‬عنها‭.‬

لقد‭ ‬تحكمت‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬وحكمت،‭ ‬حتى‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬في‭ ‬الإمكان‭ ‬الفكاك‭ ‬من‭ ‬أَسرها،‭ ‬وتجنب‭ ‬زيفها‭ ‬وتزييفها،‭ ‬والفرار‭ ‬من‭ ‬رقابتها‭ ‬التي‭ ‬باتت‭ ‬تحيط‭ ‬بالإنسان‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭: ‬في‭ ‬البيت،‭ ‬في‭ ‬الشارع،‭ ‬في‭ ‬العمل،‭ ‬في‭ ‬التنقل،‭ ‬في‭ ‬التفكير‭ ‬واتخاذ‭ ‬القرار،‭ ‬في‭ ‬طريقة‭ ‬المشاعر‭ ‬والتخيل‭ ‬والتفكير،‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬نراه‭ ‬ونسمعه‭ ‬ونلمسه‭ ‬ونشمه،‭ ‬حتى‭ ‬أصبح‭ ‬السؤال‭ ‬الأكثر‭ ‬إلحاحا‭: ‬هل‭ ‬أصبحت‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬ملكنا؟‭ ‬أم‭ ‬أصبحنا‭ ‬نحن‭ ‬ملكا‭ ‬للتكنولوجيا؟

 

{ كاتب‭ ‬وباحث‭ ‬أكاديمي

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا