الإبادة الجماعية التي تشنها الصهيونية العالمية على الأمة العربية لم تكن لتحدث لو أن الأمة في وضع أكثر تماسكا وامتلاكا لوسائل الردع. إن الدخول في الحروب هو من الأمور الضارة بالتنمية والمدمرة للأوطان؛ وتفادي الحروب يكون بامتلاك القوة الرادعة التي تمنع أي طمع فيها واعتداء على حقوقها ومصالحها. تاريخ الحروب، والحرب الدائرة على غزة، تقول إن العلم والتفوق المعرفي والتكنولوجي هو أهم مقومات القوة التي على الأمة امتلاكها، وطالما أن الوطن العربي لا يمتلك هذه المقومات، كمجموعة، أو دول منفردة، فإن مستقبله واستقلاله وسلامة أراضيه تبقى مهددة وموضع أطماع واستباحة.
إن مقومات القوة ليست في العتاد الحربي والتفوق العددي، بل هي منظومة من العوامل تشمل القوة العلمية والمعرفية؛ النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري القائم على الحكم الرشيد والتنمية الشاملة التي ترفع مستوى معيشة جميع شرائح المجتمع بشكل عادل ومتزن يعزز الثقة في المجتمع ويقود إلى التماسك الوطني؛ تقليل مجال الصراعات الفكرية (الدينية والأيديولوجية) بين مكونات المجتمعات العربية ومعالجتها بعقلانية وقبول الاختلاف على أنه تنوع صحي في الطبيعة البشرية. عدد كبير من الدول العربية دمرت ليس بسبب حروب خارجية لكنها لأسباب داخلية ناتجة من القصور في هذه الجوانب والاختلافات التي قوضت التحول الديمقراطي القائم على العدالة والمساواة، أي أن عوامل القوة تكمن في العلم والمعرفة وما ينتج عنهما من قدرة إنتاجية تمنح الدولة قوة الردع الخارجي، وسلامة الوضع الداخلي القائم على مبادئ العدالة والمساواة والحكم الرشيد ضمن تحول ديمقراطي.
من حيث التنمية الاقتصادية والاجتماعية وبناء القدرات، فإن الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي (AFESD) الذي تأسس عام 1968، ويقع مقره في الكويت، ويضم 22 دولة عربية؛ يقوم بدور كبير في بناء القدرات العربية؛ فهو مؤسسة محورية مكرسة لتعزيز النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي للدول الأعضاء. يهدف الصندوق إلى معالجة التحديات الملحة مثل تخفيف الفقر، البطالة، وعدم المساواة الاجتماعية وهذه من العوامل المؤثرة في الاستقرار الداخلي لأي دولة، كذلك عمل على دعم المشاريع التنموية التي تعزز مستويات المعيشة للمواطنين وتروج للتنمية الاقتصادية المستدامة. لتحقيق ذلك وضع الصندوق استراتيجية (2025-2030) لتلبية المتطلبات المتزايدة في المجالات الاجتماعية وتشجيع الشراكة بين القطاعين العام والخاص. تشمل هذه المشاريع تمويل المجالات التنموية المحورية في الدول العربية، مثل تطوير رأس المال البشري وخلق فرص وظيفية بالدول الأعضاء، وتحقيق الأمن المائي والغذائي، ودعم المشاريع الخضراء، والقطاعات الاقتصادية ذات القيمة المضافة العالية؛ كل ذلك باستعمال منتجات وخدمات مالية مبتكرة، تحقق الهدف التنموي المنشود وتضمن الاستدامة المالية للصندوق العربي.
يركز الصندوق على مجموعة متنوعة من القطاعات تعتبر حيوية لتقدم المنطقة العربية، من بينها تطوير البنية التحتية التي سهلت التجارة البينية. لعب الصندوق دورًا حيويًا في تمويل مختلف المبادرات في الوطن العربي، بدءًا من تطوير البنية التحتية إلى برامج الرعاية الاجتماعية، وقد بلغ مجموع مساهماته في مشاريع التنمية 11.2 مليار دينار كويتي حتى 2023. شملت كذلك الجانب الاجتماعي مثل التعليم والصحة والإسكان، ومشاريع تنموية مثل الزراعة والطاقة والصناعة والتعدين. كما أولى الصندوق أهمية متزايدة لمشاريع التنمية الاجتماعية وذلك من خلال تمويل مشاريع الخدمات الصحية والتعليمية (بما في ذلك بناء المدارس والمستشفيات وتنفيذ برامج التدريب لتحسين مهارات القوى العاملة)، ومياه الشرب ومشاريع التنمية الريفية والصناديق الاجتماعية والاستدامة البيئية.
ينطلق الصندوق العربي من كونه مؤسسة عربية تشارك العرب قضاياهم وهمومهم، ومن هذا المنطلق يولي اهتماماً خاصاً للدول العربية الأقل نمواً، ويقدم الدعم للشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، من خلال تمويل المشاريع في مختلف القطاعات وتقديم المعونات ودعم المؤسسات التعليمية والجامعات، ومساندة الجمعيات المهنية والإنسانية. إن تحقيق التكامل العربي وترسيخ التعاون المشترك بين الدول الأعضاء هو أهم أهداف الصندوق العربي، ولهذا فقد أولى الصندوق العربي تمويل المشروعات العربية المشتركة أهمية خاصة، وهي تلك المشاريع التي تزيد من ترابط وتواصل دولنا العربية مثل مشاريع الربط الكهربائي، ومشاريع الطرق والاتصالات وغيرها.
على الرغم من هذا النشاط التنموي للصندوق فإن مساهمته غير واضحة في أهم ما يفتقده الوطن العربي وهو إنتاج المعرفة من خلال البحث العلمي والتطور التكنولوجي. إن تقدم الأمم واكتساب القوة والقدرة والمنعة تقوم على إنتاج المعرفة وليس على استهلاكها. ما يقوم به الصندوق اليوم موجه بشكل أكبر نحو دعم الجانب الاستهلاكي للمعرفة، وهذا مفهوم في ظل الأوضاع العربية التي سادت، لكن ماذا عن المستقبل؟ لذلك نتساءل: هل يمكن للصندوق الدخول في تمويل مجالات البحث والتطوير في الدول العربية مثل مصر وغيرها وفق معايير وشروط تضمن حسن الاستغلال ونشر النتائج عربيا؟ هل يمكن للصندوق أن يوسع اهتماماته لتشمل مشاريع الإنتاج العلمي والمعرفي، وهل الأفضل تعديل مهام الصندوق لتشمل مجالات البحث العلمي والتطوير أم أنشاء صندوق اخر يقوم بالمهمة. عدد من دول الخليج لها خبرة ومشاريع كبيرة في هذا المجال مثل الإمارات والسعودية وبإمكانهما دعم الصندوق في توسيع هذا الاهتمام ليشمل دول عربية أخرى لديها القدرات العلمية ومراكز أبحاث لتكثيف هذه الأبحاث وتنويعها ليشمل الصناعات المتقدمة والذكاء الاصطناعي وتحرير الفكر من قيود الماضي، أم نحن بحاجة إلى صندوق آخر يهتم بالإنتاج العلمي والمعرفي تتولاه السعودية والإمارات ليدعم ويساعد الصندوق الذي تقوم بإدارته دول الكويت مشكورة على مدى ثمانية وخمسين عاما.
drmekuwaiti@gmail.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك