في الواحد والثلاثين من مايو من كل عام، يُحتفى باليوم العالمي للامتناع عن التدخين، مناسبة تسلط الضوء على أخطار التدخين، وتدعو الى حماية الأجيال القادمة من آثاره المدمرة؛ إذ يُعد التدخين أحد أبرز التحديات الصحية والبيئية التي تواجه المجتمعات الحديثة في العالم، حيث يؤدي إلى وفاة أكثر من 8 ملايين شخص سنويا، على الرغْم من الجهود المبذولة على مر العقود للحد من هذه العادة، فإن التدخين لا يزال يشكل تهديدًا لصحة الأفراد، كما له تأثيرات سلبية عميقة على البيئة. ومع ذلك، فإن وجود مجتمع خالٍ من التدخين يمثل خطوة حاسمة نحو بناء بيئة أكثر استدامة وصحة أفضل للجميع.
وتاريخيا، فإن أصل اكتشاف التبغ يرجع إلى زمن اكتشاف القارة الأمريكية على يد الرحالة كريستوفر كولومبوس، ففي نوفمبر من عام 1492، فقد دوّن كولومبوس في مذكراته وصفًا لعادة غريبة رآها لدى سكان أمريكا الأصليين في كوبا، وهي أنهم يستنشقون دخان أوراق نبات مجفف، وقد لاحظ أن السكان وهم يحرقون أوراق النبات يستشقون دخانها باستمتاع، وعندما عاد أحد البحارة، ويدعى رودريغو دى خيريز إلى اسبانيا، كان أول مدخن أوروبي يعاني من سوء فهم المجتمع، حيث ألقت محاكم التفتيش الإسبانية القبض عليه، واعتبرته مسكونًا بالشيطان بسبب الدخان الذي يخرج من فمه، حيثُ أمضى في السجن سبع سنوات، وخلال هذه الفترة انتشر التدخين في إسبانيا وأصبح عادة مألوفة.
وإلى جانب هذا الاعتقاد الخاطئ الذي انتشر في القرن السادس عشر، حيثُ اعتقد الأطباء الأوروبيون أن للتدخين واستخدام نبات التبغ فوائد صحية، وقد نصح الأطباء به لعلاج بعض الأمراض، وقد استمرت هذه الأوهام حتى أواخر القرن العشرين، حيثُ ظهرت نصائح طبية توضح أن التبغ يستخدم لأغراض علاجية في بعض المراجع الطبية، وبحلول التسعينيات من هذا القرن، ووفقًا للدراسات أصبحت الأضرار الصحية للتدخين واضحة للجميع، وقد أثبتت الدراسات بشكل علمي أن التدخين يسبب العديد من الأمراض الخطيرة على رأسها سرطان الرئة والحنجرة، وأمراض القلب وتصلب الشرايين، والتشوهات الخلقية والتأثير على نمو الجنين، كذلك فإن المدخنين يصلون إلى مرحلة الإدمان، ويصعب عليهم الإقلاع عنه لأن نبات التبغ من أكثر النباتات ذات المكونات المسببة للإدمان.
لذا ووفقًا لتقرير اليونسكو، يُظهر التعليم تأثيرًا مباشرًا في المساهمة بتقليل معدلات التدخين، إذ إن الأفراد ذوي المستويات التعليمية الأعلى أقل عرضة للتدخين، ثم إن البرامج التعليمية التي تدمج مفاهيم الصحة والبيئة تُعزز من فهم الطلبة لمخاطر التدخين وتُشجعهم على تبني أنماط حياة صحية. وبما أن التعليم أداة للتغير، ومن أهم الركائز الأساسية في مواجهة التدخين، فإن المملكة تبذل جهودا ملموسة لتعزيز الوعي بمخاطر التدخين، بإدراج موضوعاته في المناهج الدراسية، وتنظيم حملات توعوية في المدارس. ومن هنا يبرز دور التعليم الذي يلعب دورًا محوريًا في هذه الجهود، وكوسيلة للتوعية والتغيير السلوكي، حيث يُعد أداة فعّالة لبناء وعي مجتمعي يُمكّن الأفراد من اتخاذ قرارات تُعزز من صحته ورفاهيته، ويشير العديد من الباحثين إلى أن التدخين غالبًا ما يرتبط بانخفاض مستوى الوعي الصحي والثقافي، وخاصة في المراحل العمرية المبكرة. وباعتبار التعليم حجر الزاوية في بناء مجتمع واعٍ بمخاطر التدخين؛ لذا فإن دمج مفاهيم مكافحة التدخين ضمن المناهج الدراسية في مراحل التعليم الأساسي والثانوي يعد خطوة جوهرية في بناء وعي صحي طويل الأمد. وتؤكد منظمة الصحة العالمية (WHO) أن التعليم يلعب دورًا محوريًا في الحد من استخدام التبغ، وخاصة إذا تم توجيهه نحو الفهم الصحيح والإدراك العقلي لمخاطر التدخين، بواسطة الاستثمار في التعليم، وتمهيد الطريق نحو مستقبل أخضر وصحي خالٍ من التبغ بكافة أنواعه.
ومن جهة أخرى، يُسهم التعليم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، لا سيما الهدف الثالث المتعلق بالصحة الجيدة والرفاه، والهدف الرابع المتعلق بالتعليم الجيد، وذلك لما تقدمه المؤسسات التعليمية من تعزيز الوعي المستدام بالأضرار المترتبة على التدخين، وتقليل الأمراض غير المعدية كأمراض الرئة والقلب، وكذلك الهدف الحادي عشر (مدن ومجتمعات مستدامة)، والهدف الثالث عشر (العمل المناخي)، لذا فإن ذلك يُحسن من جودة الحياة، ويسهم في التقليل من العبء الاقتصادي الواقع على النظام الصحي، وتبني سياسات مجتمعية فعّالة للتقليل من التدخين.
وانطلاقًا من إنشاء اللجنة الوطنية لمكافحة التدخين والتبغ، التي تم إنشاؤها بموجب المرسوم الملكي رَقَم (8) لسنة 2008م، والصادر عن صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، وذلك بشأن مكافحة تدخين التبغ بأنواعه، حيثً نصت المادة من القانون على: العمل على ضرورة إعداد الدراسات والإحصائيات التي توضح حجم مشكلة استخدام التبغ ومنتجاته ومدى انتشاره بين فئات المجتمع، وحجم الأمراض الناتجة عن التدخين، وإعداد سياسة إعلامية واضحة تستهدف توعية المجتمع بالتنسيق بين وزارتي الإعلام والتربية، إلى جانب دراسة التقارير التي يتم رفعها من قبل وزارة الصحة ووزارة الصناعة والتجارة حول استيراد وتوزيع جميع الخدمات المرتبطة بالتبغ ومنتجاته، أو تقديم خدمات الشيشة وغيرها.
كذلك فإن من أهم اختصاصات اللجنة الوطنية العمل على مراجعة واقتراح الحد الأعلى المسموح به من النيكوتين وغيرها من المواد الضارة من منتجات التبغ بأنواعه، ومراجعة العبارات التحذيرية الواجب توافرها على هذه المنتجات، وتصميم وتنفيذ برامج فعالة في مختلف الأماكن كالمؤسسات التعليمية ومرافق الرعاية الصحية وكافة مؤسسات العمل وصالات الرياضة وغيرها، وذلك بهدف التشجيع على الإقلاع عن التدخين، ورسم أفضل الخطط والبرامج الصحية لحماية المجتمع من أخطار ومضاعفات استخدام التبغ، وان بناء هذا المجتمع على أسس سليمة يتطلب تضافر الجهود الوطنية المعطاة بين مؤسسات الرعاية الصحية والتعليم والإعلام والجهات التشريعية المختصة في سن القوانين التي تمنع التدخين في المؤسسات الرسمية والعامة، ويبدأ من تعزيز التوعية وتوفير بيئات خالية من أضرار التبغ، والعمل على حثهم وتحفيزهم على الاشتراك في برامج للإقلاع عن التدخين ولا سيما بين فئة الشباب.
وعلى سبيل المثال، فإن العديد من المؤسسات التعليمية حول العالم بدأت في تخصيص برامج توعية مستمرة للطلبة من جميع الأعمار حول أخطار التدخين، منها مملكة البحرين التي طبقت برنامج «أجيال بلا تدخين» والقائم على تنفيذه قسم الصحة المدرسية بوزارة الصحة وبالتنسيق مع قسم الصحة المدرسية «إدارة الخدمات الطلابية» في وزارة التربية والتعليمية، والمطبق في المدارس الحكومية بهدف الكشف المبكر عن استخدام التبغ والتوعية بمضار التدخين وتعزيز المهارات الحياتية وأنماط الحياة الصحية للطلبة انطلاقًا من عدة محطات لتحقيق الأهداف المرجوة من البرنامج، «علمًا بأنه بدأ تطبيقه منذ عام 2018 بمعدل 8-9 مدارس في الفصل الدراسي الواحد، حيث استفاد من البرنامج 1171 طالبا وطالبة، وذلك في إطار التعاون المشترك بين وزارتي الصحة والتربية والتعليم».
في النهاية، يمكن القول بأن المجتمع الخالي من التدخين هو أكثر من مجرد حلم؛ بل هو ضرورة حتمية من أجل صحة أفضل وبيئة أنظف. عبر التوعية، والتعليم، والضوابط القانونية، والجهود المستدامة، يمكننا جميعًا الإسهام في بناء هذا المجتمع، الذي يُعد خطوة نحو بيئة أكثر استدامة ونقاء، ولن يكون الوصول إلى مجتمع خالٍ من التدخين مهمة سهلة، ولكنه بالتأكيد هدف يستحق السعي من أجله. لما يتطلبه من تعاون قوي بين الحكومات، والمنظمات الصحية، والقطاع الخاص، والمجتمع كليًّا. ولعل الخطوة الأولى هي تعزيز الوعي بأضرار التدخين، وتوفير الدعم الكافي للمساهمة في إقلاع الأفراد عن هذه العادة، وهو ما من شأنه أن يبني بيئة صحية ومستدامة، تتوافر فيها حياة أفضل للجميع.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك