نحن نعيش في القرن الحادي والعشرين، ولكن نعيش في هذا القرن المتقدم والمتطور بعقلية القرون الوسطى، وبفكر الرجل الأوحد الذي كان يحكم في مناطق مختلفة في تلك الحقبة الزمنية. فبالرغم من الرقي العلمي غير المسبوق في تاريخ البشرية، وبالرغم من الإنجازات العظيمة التي لم تطرأ على بال أحد، ولم يتخيل أحد وقوعها، إلا أن هناك من البشر من يريد أن يُرجع العالم فكرياً وعقلياً وثقافياً إلى الوراء قرونا طويلة مضت، وأكل عليها الدهر وشرب، فلا يريد من هذا العالم المتحضر مادياً وعلمياً أن يكون في الوقت نفسه متحضراً ومتنوراً ثقافياً وخُلقياً وإنسانياً فيلحق بركب التقدم، ويجاري بتنوع فكره وعقله هذا التطور.
وهذه الظاهرة المستجدة نراها اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية بكل وضوح، بزعامة الرئيس ترامب. وهناك الكثير من الأدلة الدامغة، وليست مؤشرات بسيطة فحسب، على سيادة عقلية القرون الوسطى على حكومة الولايات المتحدة، وهيمنة ثقافة وفكر الرجل الأوحد الذي لا تجوز مناقشة أوامره، ويُحرم قطعياً مخالفة سياساته ومواقفه، سواء على المستوى القومي في الولايات الأمريكية، أو حتى على المستوى الدولي.
فالسياسة التي ينفذها ترامب حالياً وأعلنها في حملته الانتخابية وجعلها شعاراً يرفعه في كل مناسبة صغيرة وكبيرة هي مبدأ «أمريكا أولاً»، وشعار «اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى»، وهي سياسة شعبوية حمائية انعزالية تخالف سياسة العولمة التي أجمع عليها كل دول العالم. ثم بعد انتخابه رئيساً أكد تنفيذ هذه السياسة الماكرة، ودَعَمَها بعقيدة قديمة ومستجدة، وهي فكرة تحقيق السلام باستخدام القوة. وهذا مفهوم قديم طبَّقه الرومان، ثم بعض رؤساء أمريكا كالرئيس الجمهوري الأسبق رونالد ريجان.
ولكن ترامب استغل هاتين الفكرتين أسوأ استغلال، وجعلهما يصبان مباشرة في تقوية سلطته الشخصية، وتعميق سيطرته، وانتقامه من كل من لم يقف معه، إضافة إلى تعظيم مصالحه الشخصية على المستويين الاتحادي الأمريكي والدولي. فباستخدام حُجة أمريكا أولاً، وتحت مبرر تحقيق الأمن والسلام الدوليين باستخدام القوة المفرطة، الناعمة والعسكرية، فَرضَ مواقفه الاقتصادية والسياسية المتشددة على الجميع في الداخل والخارج، وضيَّق الخناق على حرية الرأي والتعبير، وشدَّد على منع التنوع الثقافي والفكري في الجامعات والمدارس والمجتمع الأمريكي برمته، كما أشعل نيران الحرب التجارية والاقتصادية بينه وبين دول العالم من خلال الإفراط في نسبة رفع الرسوم على كل دول العالم من دون استثناء، وكان آخرها إعلان رفع التعرفة الجمركية بنسبة 50% على الاتحاد الأوروبي، بدءاً من الأول من يونيو 2025، ثم في 25 مايو غيَّر موعد بدء التنفيذ إلى 9 يوليو، مما يؤكد أن قراراته غير مدروسة، ومبنية على ثقافة إظهار القوة والتنمر على الآخرين.
وعلاوة على ذلك كله، مُشاركته واسهاماته المباشرة العسكرية والمالية والاستخباراتية والدبلوماسية في ارتكاب الإبادة الجماعية الشاملة للبشر والشجر والحجر في غزة، أيضاً جاء تحت بند تحقيق السلام بالقوة. فهو بهذه الحجة، والمنطق الأعوج قدَّم المئات من القنابل التي تزن 2000 رطل، والتي في مجملها بعد أن أُلقيت على غزة تساوي قوتها وشدتها أكثر من قنبلة نووية كالتي ألقتها أمريكا على مدينتي هيروشيما وناجازاكي. وبهذا المبرر أيضاً سمح لأكبر مجاعة جماعية من صُنع البشر على أن تنزل على نحو مليوني إنسان في غزة، دون أن يتحرك بجدية وصدق فيوقف هذه الكارثة الإنسانية غير المسبوقة في تاريخ البشرية. والأدهى من ذلك والأمر أن هذه المجاعة الجماعية على الأرض والتي كان يموت منها الأطفال والنساء والشيوخ بشكلٍ تدريجي وبطيء، كانت أيضاً تواجه الجحيم الذي كان يسقط على الناس من السماء من الصواريخ الفتاكة، والقنابل المدمرة التي أهداها للكيان الصهيوني.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لا يطبق ترامب فكرة تحقيق السلام باستخدام القوة إلا على الجانب الفلسطيني الضعيف الأعزل الذي لا يملك إلا الأسلحة البسيطة المصنوعة محلياً؟ فلماذا لا يضغط ترامب أيضاً على الكيان الصهيوني بالقوة والسلاح التدميري، أو حتى بالضغط السياسي والمالي لكي يرضخ للسلام ويوقف الحرب والإبادة الشاملة؟ أليست هذه ازدواجية في المعايير، والتحيز الكامل للجانب الصهيوني؟
وعلاوة على ما سبق، فقد استغل هذه العقيدة الشخصية الأنانية والانتقامية، والفكرة الاستغلالية الإرهابية لنهب وسرقة ثروات الأمم والشعوب في وضح النهار، ونقل خيراتها ومواردها إلى الولايات المتحدة الأمريكية تحت عناوين متعددة، منها جلب الاستثمار الخارجي، ومنها باسم التعاون والتنسيق في مجال النفط واستخراج المعادن الأرضية النادرة وغيرها، كما حدث لأوكرانيا على سبيل المثال لا الحصر. كما أيضاً تحت شعار أمريكا أولاً، وشعار الأمن باستخدام القوة دعا ترامب إلى غزو واحتلال بعض دول العالم ذات السيادة، مثل جزيرة جرينلاند، وكندا، وبنما.
ومن أجل التأكيد أكثر، وبيان ثقافة استخدام القوة بجميع أنواعها عند ترامب، وسعيه للانتقام وإرضاخ وإذلال كل من لا يطيعه، ويتبع سياسته، ويسير على نهجه وهداه، حتى ولو كان في الداخل الأمريكي، أُقدم لكم مثالاً مازلنا نشهد فصوله أمامنا كل يوم، وهو تهديد ترامب بفرض ثقافته الأحادية على الجامعات الأمريكية الخاصة والعامة، ورفض التنوع الثقافي والتعددية الفكرية، وفي مقدمتها أقدم، وأغنى، وأكثر جامعة تتمتع بسمعة علمية وبحثية عالية على المستويين الأمريكي والدولي، وهي جامعة هارفرد، حيث أعلن الحرب الشاملة على الجامعة على جميع الجبهات واتهمها بأنها معقل معاداة السامية والفكر اليساري والماركسي. وهدد الجامعة على الملأ إما أن تتبعي أوامري في قضية معاداة السامية وإلا سأُحرم عليك كل المنح والعقود التي تقدمها الحكومة الاتحادية للجامعة. ومع رفض الجامعة اتباع سياسة الإرهاب الفكري والثقافي لترامب في تسييس حرية الرأي والتعبير، وتغيير المناهج لصالح أفكار ترامب، والرضوخ له في عملية توظيف أعضاء هيئة التدريس وقبول الطلاب، بدأ أولاً في تجميد وإلغاء المنح والعقود التي تعطى للجامعة، والتي بلغت قرابة 3 بلايين دولار، كما أمر ترامب الوزارات الحكومية بإلغاء أية عقود بحثية مع الجامعة، مثل وزارة الطاقة، ثم أشهر سيف مقاضاة الجامعة في قضايا كثيرة لإفلاسها وممارسة الضغوط عليها، وبعدها ألغى تأشيرات الطلاب الأجانب في الجامعة. ولمزيد من المعلومات يمكن الرجوع إلى المقال المنشور في «بلومبيرج» في 23 مايو تحت عنوان: «هذه هي الطرق الكثيرة التي يهاجم فيها ترامب هارفرد».
وهذه الحرب التي شنها ترامب ضد هارفرد خاصة، والجامعات عامة، هي تعد في الواقع حرباً ضروساً على حرية العلم والعلماء، وتنوع واستقلالية البحث العلمي على كل المستويات. ولذلك حذَّر العلماء في الداخل الأمريكي من خطورة تدهور العلم وهروب العلماء والعقول المبدعة من أمريكا، كما بدا هذا واضحاً لكل مراقب خارج أمريكا. فعلى سبيل المثال، خصصت مجلة «الإيكونومست» الاقتصادية المرموقة عددها الصادر في 24 مايو 2025 للتحذير من هذه الظاهرة التي ستصل تداعياتها إلى خارج أمريكا أيضاً، فكان العنوان على صفحة الغلاف: «الهجوم على العلم الأمريكي». واحتوى العدد على عدة مقالات حول هذه الظاهرة العقيمة، منها المقال تحت عنوان: «الهجوم على العلم هو عمل من أعمال الإيذاء الذاتي الخطير»، والمقال: «هجوم ترامب على العلم أصبح شرساً وعشوائياً بشكلٍ متزايد»، إضافة إلى المقال المعنون: «أمريكا في خطر التعرض لهجرة الأدمغة الأكاديمية»، والمقال: «كيف يؤثر قطع التمويل للعلم على الأمريكي العادي؟».
ومما سبق يتأكد أن منهجية ترامب في حكم البلاد والعباد في الداخل الأمريكي والخارج هي تبني ثقافة القوة بجميع أنواعها لقيادة العالم في جميع القطاعات والمجالات، وتهميش دور كل دول العالم، لكي يكون هناك قطب واحد حَاكِم هو القطب الأمريكي القوي الذي لا تُرد له كلمة، ولا يُرفض له أي قرار.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك