فيما ترتبط دول الخليج مع منطقة الآسيان بعلاقات تاريخية، وتجارية وثقافية، تعود إلى أزمنة طويلة في الماضي، حيث كان تجار سلطنة عُمان هم من نشروا الإسلام في هذه المنطقة. وفيما تعد اتفاقية التجارة الحرة مع سنغافورة من أولى اتفاقيات التجارة الحرة التي عقدتها المنظومة الخليجية؛ جاءت «قمة الخليج والآسيان والصين» التي شهدتها العاصمة الماليزية «كوالالمبور» في آخر مايو، تحت شعار «الشمولية والاستدامة»، تعزز الشراكة الخليجية الآسيانية الصينية على طريق التعاون والتنمية.
وفي حين عبرت القمة، التي عقدت برئاسة مشتركة بين ولي العهد الكويتي الشيخ «صباح خالد الحمد المبارك الصباح»، ورئيس وزراء ماليزيا «أنور إبراهيم»، ورئيس مجلس الدولة الصيني «لي تشيانج»، عن الدعم الخليجي للنمو الاقتصادي المستدام، وتحقيق التكامل مع دول الآسيان والصين، الأمر الذي حرصت عليه مع الآسيان في القمة السابقة في الرياض في 2023، التي مثلت امتدادًا لمسيرة طموحة بدأت قبل أكثر من 15 عاما منذ قمة المنامة 2009 التي شهدت توقيع مذكرة تفاهم بين الجانبين الخليجي والآسياني؛ فقد عززت في «كوالالمبور» دعائم شراكة طموحة اقتصادية وتجارية، وفتحت آفاقا جديدة للتعاون في مجالات الطاقة والتعليم والأمن والابتكار، وتعظيم الاستفادة من مبادرات «الحزام والطريق» الصينية لدعم الترابط الإقليمي، وتسريع التحول نحو طاقة نظيفة منخفضة الكربون، وتطوير الاقتصاد الرقمي عبر تمكين الشركات الناشئة وتوسيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص.
وفي حين استبقت هذه القمة مؤتمر حل الدولتين الذي يعقد في إطار الأمم المتحدة برئاسة سعودية فرنسية في يونيو، فقد حمل الجانب الخليجي معه إلى القمة اهتمامه بالقضية الفلسطينية –القضية المركزية العربية– حيث أكد رؤساء وفود الدول الخليجية إلى القمة وهم سمو ولي العهد رئيس الوزراء الأمير «سلمان بن حمد آل خليفة» وولي العهد الكويتي الشيخ «صباح الخالد الصباح»، ووزير الخارجية السعودي الأمير «فيصل بن فرحان»، ونائب رئيس الوزراء لشؤون العلاقات والتعاون الدولي العماني «أسعد بن طارق»، وعضو المجلس الأعلى حاكم رأس الخيمة «الشيخ سعود بن صقر القاسمي»، ووزير التجارة والصناعة القطري «فيصل بن ثاني آل ثاني»، إلى جانب أمين عام مجلس التعاون «جاسم البديوي»، أكدوا موقف «مجلس التعاون»، الثابت والداعم لحقوق الشعب الفلسطيني، على رأسها إقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وفق قرارات الأمم المتحدة ومبادرة السلام العربية، داعين المجتمع الدولي إلى تحمل مسؤولياته تجاه وقف العدوان الإسرائيلي، وضمان إيصال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، وإعادة إعمار القطاع.
ومن المعلوم أن رابطة الآسيان تضم 10 دول هي: إندونيسيا – ماليزيا – تايلند – الفلبين – كمبوديا – فيتنام – لاوس – ميانمار – بروناي – سنغافورة. وبين قمة الرياض في 2023 وهذه القمة ارتفع حجم التجارة بين المجموعتين الخليجية والآسيان بنسبة 21% ليبلغ 123 مليار دولار في 2024، وشكلت تجارة دول الخليج مع الآسيان أكثر من 8% من إجمالي التبادل التجاري في السلع لمجلس التعاون. وفيما بلغت قيمة الصادرات الخليجية للآسيان نحو 76 مليار دولار، بلغت الواردات نحو 46 مليار دولار، بفائض خليجي بلغ نحو 29 مليار دولار، وجاء مجلس التعاون الخليجي الشريك السادس لرابطة الآسيان في التجارة، وشكل الوقود والزيوت المعدنية غالبية الصادرات الخليجية للآسيان، حيث ارتفعت استثمارات الآسيان المباشرة في الخليج من 4 مليارات دولار في 2018، إلى 20 مليار دولار في 2023، كما أن دول الآسيان هي أكبر شريك تجاري للصين، وفي الربع الأول لعام 2025 بلغ حجم التجارة بينهما 234 مليار دولار، كما تعد الصين الشريك التجاري الأكبر لمجلس التعاون الخليجي وبلغ حجم التجارة بينهما أكثر من 288 مليار دولار في 2024.
وتكشف هذه الأرقام الآفاق الواعدة لنمو التعاون بين أطراف هذه القمة، وخاصة في مجال الغذاء، حيث تعد إندونيسيا وماليزيا من أولى دول العالم في إنتاج زيت النخيل، وفي مجال الصناعات المغذية لصناعة السيارات، حيث تعد الدولتين من أولى دول العالم في إنتاج المطاط، المدخل الرئيسي لصناعة إطارات السيارات، كما تتقدم دول الآسيان في إنتاج ممكنات التكنولوجيا المتقدمة كالرقائق وأشباه الموصلات، وتعتبر سوقا واعدة للسياحة المتبادلة، ويشكل سكان بلدان هذه القمة البالغ عددهم 2.14 مليار نسمة نحو 27% من سكان العالم، بناتج محلي إجمالي أكثر من 24 تريليون دولار أي أكثر من 22% من الناتج العالمي، مع توقعات بنمو يتراوح بين 4% و6% حتى عام 2030.
وقد بلغ حجم التجارة بين دول مجلس التعاون الخليجي، والآسيان، والصين نحو 347 مليار دولار في 2023. وفي هذا العام، أرست «قمة الرياض» الإطار الاستراتيجي للفترة 2024–2028، الذي يشمل السياسة والاقتصاد والطاقة والأمن الغذائي والتكنولوجيا، واعتمدت القمة الخليجية – الصينية في الرياض في ديسمبر 2022 خطة العمل المشتركة للفترة 2023–2027، التي غطت طيفًا واسعًا من مجالات التعاون في السياسة والاقتصاد والطاقة والبيئة والزراعة والتعليم والسياحة والتكنولوجيا والأمن السيبراني.
واستبقت قمة الخليج والآسيان والصين بيوم واحد قمة الآسيان الـ46، وفيها دعا الرئيس الماليزي «أنور إبراهيم» إلى أن تكون القمة الثلاثية مبادرة لنموذج للتعاون في عالم بات يتشكل على أساس التعددية القطبية، ووجد في القمة الثلاثية فرصة غير مسبوقة لرسم مسار جديد للتعاون الاقتصادي والسياسي بين منطقتين حيويتين في العالم، يسعى كلاهما إلى الابتعاد عن الاستقطاب الدولي التقليدي. وتسعى ماليزيا في ظل رئاستها الدورية للآسيان إلى لعب دور الوسيط النشط في تعزيز التداخل بين الكتل الاقتصادية الكبرى، ولا سيما في ظل الروابط التاريخية والثقافية التي تجمعها بدول الخليج وعلاقاتها الاستراتيجية مع الصين.
وفي كلمته أمام القمة دعا رئيس الوزراء الصيني إلى سوق مشتركة واسعة بين الأطراف الثلاثة في أقرب وقت، تتدفق فيها الموارد والمواهب والمنتجات بكفاءة أكبر، وتتمتع فيها التجارة والاستثمار بمزيد من الحرية، مؤكدًا أن تفاوت درجات النمو لا يشكل عائقًا، بل يمكن تحويله إلى قوة تكاملية يمكن استغلالها. فيما أكد الأمين العام لرابطة الآسيان «كاو كيم» ضرورة التصرف بشجاعة لتسريع التكامل الاقتصادي الإقليمي، في وقت باتت فيه معظم دول العالم في حالة حرب تجارية، بسبب الرسوم الجمركية الأمريكية، فيما شهدت بلدان الآسيان فرض رسوم جمركية عالية على صادراتها للسوق الأمريكي، بلغت في بعض الأحيان 48%.
وجاء البيان الختامي للقمة يعكس نجاحًا للدبلوماسية الخليجية في تحقيق حشد دولي لمؤتمر نيويورك بخصوص حل الدولتين، إذ أعربت القمة عن بالغ القلق تجاه تطورات الأوضاع في قطاع غزة، حيث أدانت الهجمات ضد المدنيين، ودعت إلى وقف دائم وغير مشروط لإطلاق النار وضمان تدفق المساعدات الإنسانية، ورفع الحصار واستعادة الخدمات الأساسية لسكان القطاع ودعمت الجهود الدولية الرامية إلى تطبيق حل الدولتين وفق حدود 4 يونيو 1967، وأكدت تأييدها للرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية، بشأن ضرورة إنهاء الوضع غير القانوني لإسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأثنت على مبادرات السعودية والنرويج والاتحاد الأوروبي نحو إقامة دولة فلسطينية، وجهود الوساطة القطرية، والمصالحة الفلسطينية التي رعتها الصين.
وعلاوة على ذلك، فقد التزمت الأطراف الثلاثة بتعزيز الشراكة الاستراتيجية متعددة الأبعاد، وتحقيق التنمية المستدامة، وتعزيز السلام والاستقرار الإقليمي والدولي. وفيما أشادوا بالروابط التاريخية والحضارية والاقتصادية بينهم، أكدوا أهمية ترسيخ التعاون في مجالات التجارة والذكاء الاصطناعي والأمن الغذائي والتعليم، مع التشديد على احترام مبادئ السيادة وعدم التدخل وفقًا لمبادئ الأمم المتحدة، وشدد البيان الختامي على الإسراع في إنهاء مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة بين مجلس التعاون والصين والتعاون في مجالات التحول الرقمي والطاقة المتجددة والابتكار التكنولوجي ومشاريع البنية التحتية والتغير المناخي، ودعا البيان إلى تعزيز التواصل بين الشعوب من خلال التبادل الثقافي والطلابي والسياحة المستدامة والمنح الدراسية بين الدول الأعضاء.
على العموم، مثلت هذه القمة الثلاثية علامة مميزة في اتجاه إنشاء سلاسل توريد متكاملة، يشكلها تكتل إقليمي يجمع بين الطاقة والموارد والتصنيع والسوق، يستطيع أن يتحرر من الضغوط الاقتصادية الخارجية التي قد تشكل تحديًا تنمويًا، وهي محاولة جادة للم شمل العائلة الآسيوية من شرقها إلى غربها، مستفيدة من إمكانياتها التكاملية الهائلة، فيما تعد الآسيان خامس أكبر اقتصاد في العالم بإجمالي ناتج محلي يبلغ 3.3 تريليونات دولار، بينما تظل الصين شريكها التجاري الأكبر، حيث يصل حجم التجارة بينهما قرابة 700 مليار دولار، وتشكل تجارة دول الخليج مع الصين والآسيان نحو ثلث تجارتها مع دول العالم قاطبة، مع مؤشرات واضحة بتجاوز رقم التجارة 500 مليار دولار بحلول 2030.
وتعكس هذه الأرقام في مضمونها دعوة واضحة لتفعيل الشراكة، وبناء نموذج يقوم على تشارك الفرص واستدامة العوائد، وتتعلق المصالح المشتركة بين مجلس التعاون الخليجي والآسيان والصين، بتعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري، وتطوير البنية التحتية، وتحقيق الأمن الغذائي، والطاقة، وتعزيز الاستثمارات المشتركة، وتطوير سلاسل الإمداد الإقليمية، علمًا أن القواسم المشتركة بين الأطراف الثلاثة في القمة تتجاوز التباينات، ويمكن للتعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري القائم على احترام السيادة تجاوز هذه التباينات، كما أنه من شأن هذا التعاون دفع عجلة الاقتصاد العالمي قدمًا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك