أحداث عدة جرت وقائعها في واشنطن الأسبوع الماضي تربط بينها المفارقة بين إبادة الحقيقة الواقعة أمام أعين الجميع، واختراع وقائع أخرى، والإمعان في تكرارها لعلها تشغل العالم فتصبح هي «الحقيقة»!.
فليس سرًا أنه يسهل على السياسيين إدانة العنف السياسي دون خلط الأوراق وتهديد الحريات. لكن مضمون الإدانات الواسعة التي صدرت عن السياسيين الأمريكيين لمقتل اثنين من العاملين بالسفارة الإسرائيلية بواشنطن على يد شاب أمريكي، يدعى إلياس وردريجاز، هتف «الحرية لفلسطين»، لم تقتصر على إدانة الفعل والفاعل، وإنما امتدت لتشمل إدانة الحركة الأمريكية السلمية لمناصرة فلسطين!
النائب الديمقراطي جوش جوتيمر، مثلا، زعم أن ما سمَّاه «حركة الانتفاضة التقدمية» في أمريكا مسؤولة عن واقعة القتل. بل اعتبرت سلطات الأمن الحدث من جرائم «العداء للسامية».
كل ذلك بينما رودريجز لم يتطرق في بيانه مطلقًا لليهود، وإنما ربط ما فعله صراحة بالإبادة الجماعية في غزة. واعتبار أكثر السياسيين الأمريكان لأي موقف مناهض لإسرائيل موقفا معاديًا بالضرورة لليهود وهذا نقل حرفي لما قاله وزير الخارجية الإسرائيلي قبل أن يتهم «زعماء ومسؤولين من دول كثيرة ومنظمات دولية، خصوصًا في أوروبا» بالمسؤولية عبر «التحريض» ضد إسرائيل!
أما المفارقة، فهي أن أحدًا لم يسمع كلمات إدانة أمريكية وقت أطلقت القوات الإسرائيلية النار على وفد دبلوماسي زار جنين بالضفة الغربية الأسبوع نفسه!.
ولعلها مفارقة في ذاتها أن يتزامن ذلك الحدث بمفارقاته تلك مع حدث يحمل مفارقاته هو الآخر. فقد تحول استقبال رئيس جنوب إفريقيا بالبيت الأبيض لمهرجان لعقاب جنوب إفريقيا بسبب موقفها الأخلاقي والقانوني من إسرائيل، ولحملة دعاية لإسعاد العنصريين الأمريكيين البيض المؤمنين بأنهم «ضحية» للتمييز والقهر.
فقد تحول اللقاء بين الرئيس الأمريكي ترامب ورئيس جنوب إفريقيا في البيت الأبيض إلى معرض للصور والفيديوهات الملفقة، إذ اشتمل على صور التقطت في الكونجو، لا في جنوب إفريقيا، وشريط فيديو تم تصويره عام 2020، لموقع لم يعد موجودًا أصلًا للزعم بأن هناك «إبادة» للبيض في جنوب إفريقيا.
وقصة «إبادة البيض» في جنوب إفريقيا يعتبرها الجنوب إفريقيين مجرد «نكتة سخيفة» لا يصدقها حتى الأغلبية الساحقة من البيض هناك، وكان وراء الترويج لها في واشنطن وعبر وسائل الإعلام الأمريكية والغربية مجموعة من غلاة المتطرفين منهم الذين يقتلهم الحنين إلى زمن الفصل العنصري المقيت.
ومن المفارقات اللافتة للنظر أن إدارة ترامب التي تلاحق حتى المهاجرين الذين دخلوا أمريكا بشكل قانوني هي ذاتها التي فتحت أبوابها لاستقبال «لاجئين» بيض من جنوب إفريقيا.
أما المفارقة الأخرى فكانت في تصريح وزير الخارجية الأمريكي وقتها بأن «حكومة جنوب إفريقيا تسيء معاملة هؤلاء. فهي تهددهم بسرقة أرضهم وتخضعهم لتفرقة عنصرية وضيعة».
وليس هناك نكتة أكثر سخافة من نكتة الحديث عن الإبادة في جنوب إفريقيا سوى جريمة المشاركة في إبادة غزة. ومن المثير للدهشة فعلا أن الرئيس الأمريكي نفسه دونالد ترامب عبر علنًا عن رغبته في تطهير غزة عرقيًّا لتحويلها لما سمَّاه «ريفييرا» الشرق.
كذلك ليس هناك ما هو أكثر سخافة من نكتة «سرقة الأرض» في جنوب إفريقيا التي أطلقها وزير الخارجية الأمريكي سوى إعلان استعداد الولايات المتحدة للمشاركة في سرقة أراضي الفلسطينيين بالضفة الغربية وانخراطها اليوم في مخطط نتنياهو لتجويع غزة.
ذلك أن مخطط توزيع المساعدات الإنسانية الذي أعلنته إسرائيل باعتباره مشروعًا إسرائيليًا أمريكيًا مشتركًا يتم فيه توزيع الطعام في مناطق، بعينها دون غيرها، تحددها إسرائيل وبنسب محدودة لكل أسرة هو سياسة موضع استنكار عالمي وخصوصا من قبل منظمات حقوق الإنسان والهيئات الدولية التي كانت تتولى توزيع المساعدات الإنسانية في قطاع غزة وفق معايير تتسم بالنزاهة والحياد والشفافية.
أما من حاولت القيام بتوزيع المساعدات الغذائية في غزة قبل أيام فهي مؤسسة أنشئت لهذا الغرض أطلقوا عليها «مؤسسة غزة الخيرية» تديرها الأجهزة الإسرائيلية مع شركة عسكرية أمريكية خاصة كالشركات التي ارتكبت فظائع في العراق تحت مظلة الاحتلال الأمريكي.
{ باحثة مختصة في الشؤون الأمريكية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك