إن المعارضة الشديدة من جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لقيام دولة فلسطينية تتوافق تماما مع أيديولوجية صهيونية راسخة اعتبرت باستمرار إنشاء دولة فلسطينية بمثابة تهديد مباشر لأساس ووجود إسرائيل كمشروع استعماري استيطاني.
وهكذا فإن مجرد وجود دولة فلسطينية ذات حدود جغرافية محددة بوضوح من شأنه أن يحول حتماً دولة إسرائيل، التي تظل بلا حدود معترف بها دولياً إلى دولة محصورة في مساحة جغرافية ثابتة.
وفي الوقت الذي تستمر فيه إسرائيل في احتلال مساحات كبيرة من الأراضي السورية واللبنانية وتواصل بلا هوادة توسعها الاستعماري للاستيلاء على المزيد من الأراضي، فإن فكرة قبول إسرائيل الحقيقي لدولة فلسطينية ذات سيادة أمر لا يمكن تصوره على الإطلاق في العقلية الصهيونية.
وفي الحقيقة فإن هذا الواقع لا يمثل تطورًا جديدًا، بل كان دائمًا يشكل الحقيقة الكامنة. ومما لا شك فيه أن هذا الواقع يكشف في جوهره أن مسرحية «حل الدولتين» التي استمرت عقودًا كانت سرابًا، حُبكت بعناية فائقة لترويج الأوهام للفلسطينيين والمجتمع الدولي على حد سواء، ما عزز الانطباع الخاطئ بأن إسرائيل جادة أخيرًا في تحقيق السلام والقبول بوجود دولة فلسطينية.
ولذلك، لم يكن مفاجئا أن يتفاعل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بغضب كبير مع إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخرا نية فرنسا الاعتراف بدولة فلسطين في شهر يونيو المقبل.
وفي مكالمة هاتفية مع الرئيس الفرنسي ماكرون يوم الثلاثاء 15 أبريل، لجأ بنيامين نتنياهو، كما كان متوقعا، إلى خطابه غير المنطقي المألوف، حيث ساوى بشكل مثير للسخرية بين إنشاء دولة فلسطينية ومكافأة «الإرهاب».
وبنفس القدر من السهولة والاستسهال، استبق نتنياهو مزاعمه المبتذلة وغير المثبتة حول وجود صلة إيرانية، حيث أصدر مكتبه بيانا قال فيه: «إن قيام دولة فلسطينية على بُعد دقائق قليلة من المدن الإسرائيلية سيُصبح معقلًا للإرهاب الإيراني».
في هذه الأثناء، كرر الرئيس الفرنسي ماكرون، بأسلوبه المعتاد والمألوف في البحث عن الموازنة، التزام بلاده بـدعم «أمن» دولة إسرائيل، في حين أكد بشكل فاتر أن المعاناة في قطاع غزة يجب أن تنتهي.
وبطبيعة الحال، في عالم أكثر عدلاً وحكمة وعقلانية ومنطقا، كان ينبغي للرئيس ماكرون أن يؤكد بشكل لا لبس فيه أن أمن الفلسطينيين، بل وجودهم ذاته، هو الذي أصبح على المحك بشكل حاد، وأن إسرائيل، من خلال عنفها واحتلالها المتواصلين، تشكل أكبر خطر يتهدد الوجود الفلسطيني، وربما السلام العالمي.
ولكن من المؤسف أن مثل هذا العالم يظل بعيد المنال.
ونظرا للدعم الثابت والمتذلل الذي قدمه ماكرون وفرنسا لإسرائيل على مر السنين، وخاصة منذ بداية حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية في قطاع غزة، فقد يرحب البعض بحذر بتصريح الرئيس الفرنسي باعتباره تحولا إيجابيا محتملا في السياسة.
ولكن من الضروري أن نحذر من أي تفاؤل مبالغ فيه، وخاصة في الوقت الذي تتعرض فيه عائلات فلسطينية بأكملها في قطاع غزة للتقتيل في الإبادة الجماعية الإسرائيلية المستمرة، في ذات الوقت الذي تقرأون فيه هذه الكلمات.
ومن الحقائق التي لا يمكن إنكارها أن الدولة الفرنسية، وعلى غرار العديد من الحكومات الغربية الأخرى، قد لعبت دوراً كبيراً في تمكين إسرائيل وتسليحها وتبرير جرائمها الشنيعة في قطاع غزة.
ولكي تتراجع فرنسا عن موقفها الراسخ، إن كان هذا هو المسار الحالي، فإنها تتطلب أكثر بكثير من مجرد لفتات رمزية فارغة في نهاية المطاف. ومن المفهوم أن يشعر الفلسطينيون بالتعب والإحباط من الانتصارات الرمزية، والخطابات الجوفاء، واللفتات غير الصادقة.
لقد قدمت الاعترافات الأخيرة بدولة فلسطين من قبل إيرلندا والنرويج وإسبانيا في مايو 2024 شرارة عابرة من الأمل بين الفلسطينيين، مما يشير إلى تحول محتمل، وإن كان محدودا، في المشاعر الغربية، مما قد يمارس بعض الضغوط على إسرائيل لوقف أفعالها الإجرامية المدمرة في غزة.
ولكن من المؤسف أن هذا التفاؤل الأولي الهش قد تلاشى وفشل ولم تتم بالتالي ترجمته إلى عمل أوروبي أوسع نطاقا وأكثر أهمية.
ونتيجة لهذا، فقد قوبل إعلان الرئيس ماكرون الأخير عن نية فرنسا الاعتراف بدولة فلسطين في شهر يونيو القادم برد فعل أكثر هدوءا وتشككا وفتورا من جانب الفلسطينيين المكلومين.
وفي حين أن بلدان الاتحاد الأوروبي الأخرى التي اعترفت بالفعل بفلسطين غالباً ما تحافظ على مواقف أقوى بكثير ضد الاحتلال الإسرائيلي، فإن سجل الدولة الفرنسية في هذا الصدد يتسم بضعف كبير لا تخطئه عين.
وعلاوة على ذلك، فإن صدق الموقف الفرنسي المعلن هو موضع تساؤل عميق، نظراً لقمعها المستمر والمثير للقلق للناشطين الفرنسيين الذين يجرؤون على الاحتجاج على الإجراءات الإسرائيلية والدعوة إلى تكريس حقوق الفلسطينيين داخل فرنسا نفسها.
إن هذه الهجمات والاعتقالات والقمع الأوسع نطاقاً للآراء السياسية المعارضة داخل فرنسا لا تعكس صورة دولة مستعدة حقاً لتغيير مسارها بالكامل بشأن دعم الجرائم الإسرائيلية والتحريض عليها.
وعلاوة على ذلك، هناك تناقض صارخ لا يمكن إنكاره بين المواقف المبدئية التي تبنتها إسبانيا والنرويج وأيرلندا ودعم فرنسا الثابت للحملة العسكرية الوحشية التي تشنها إسرائيل في غزة منذ بدايتها، وهو الدعم الذي أكدته زيارة ماكرون المبكرة والرمزية للغاية لتل أبيب.
وكان الرئيس ماكرون من بين أوائل زعماء العالم الذين وصلوا إلى تل أبيب في أعقاب الحرب، في حين كان الفلسطينيون في غزة يتعرضون بالفعل لأشد أشكال العنف فظاعة.
وخلال تلك الزيارة التي كانت بتاريخ 24 أكتوبر 2023، أكد ماكرون بشكل قاطع أن «فرنسا تقف جنبًا إلى جنب مع إسرائيل. نشارككم آلامكم، ونؤكد التزامنا الراسخ بأمن إسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها ضد الإرهاب».
وهذا يثير سؤالا أساسيا وخطيرا: كيف يمكن تفسير اعتراف فرنسا المتأخر بالدولة الفلسطينية على أنه تضامن حقيقي في حين تظل في الوقت نفسه داعما عالميا كبيرا للكيان الذي يمارس العنف ضد الفلسطينيين؟
وفي حين أن أي اعتراف أوروبي بفلسطين هو خطوة مرحب بها، وإن كانت متأخرة، فإن أهميتها الحقيقية تتضاءل إلى حد كبير بسبب الاعتراف شبه العالمي بفلسطين داخل الأغلبية العالمية، وخاصة في جميع أنحاء الجنوب العالمي، والذي نشأ في الشرق الأوسط ويتوسع باطراد في جميع أنحاء العالم.
إن حقيقة أن فرنسا ستكون من بين آخر مجموعة من الدول في العالم التي تعترف رسميا بفلسطين (حاليا، اعترفت 147 دولة من أصل 193 دولة عضو في الأمم المتحدة بدولة فلسطين)، تتحدث كثيرا عن محاولة فرنسا الواضحة للانضمام إلى الإجماع العالمي السائد، وربما تبييض تاريخها الطويل من التواطؤ في الجرائم الصهيونية الإسرائيلية، في حين تجد إسرائيل نفسها معزولة بشكل متزايد ومدانة على الساحة الدولية.
يمكن القول بثقة كبيرة أن الفلسطينيين، وخاصة أولئك الذين يعانون من أهوال الإبادة الجماعية التي لا يمكن تصورها في غزة، يعطون الأولوية لوقف فوري لهذه الإبادة الجماعية والمساءلة الحقيقية عن تصرفات إسرائيل فوق الأفعال الرمزية للاعتراف التي يبدو أنها تهدف في المقام الأول إلى تعزيز أهمية فرنسا كقوة عالمية فاعلة وداعمة لجرائم الحرب الإسرائيلية منذ فترة طويلة.
وأخيرا، في حين يحرص ماكرون على طمأنة إسرائيل بأن أمنها يظل على رأس أولويات الحكومة الفرنسية، فإنه يتعين عليه أن يتذكر أن استمراره في التعامل مع بنيامين نتنياهو يشكل في حد ذاته انتهاكا محتملا للقانون الدولي.
إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مطلوب ومتهم من قبل المحكمة الجنائية الدولية، ومن مسؤولية فرنسا، مثلها كمثل أكثر من 120 دولة موقعة على ميثاق المحكمة الجنائية الدولية، القبض على نتنياهو، وليس العمل باستمرار على استرضائه.
ولا يهدف هذا التحليل إلى التقليل من الأهمية المحتملة لاعتراف فرنسا بدولة فلسطين باعتباره انعكاسا للتضامن العالمي المتزايد مع الشعب الفلسطيني.
ولكن لكي يكون هذا الاعتراف ذا معنى وتأثير حقيقي، فلابد أن ينبع من مكان الاحترام الحقيقي والاهتمام العميق بالشعب الفلسطيني نفسه، وليس من رغبة تنطلق من حسابات كامنة يهدف أصحابها إلى حماية «أمن» معذبيه.
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك