في صالة المغادرة بمطار البحرين، حيث تتقاطع الوجوه المتعجلة والمواعيد المتقاربة والحقائب المليئة بالتفاصيل، تقف لوحة زجاجية كبيرة بهدوء، لا تثير صخبا، لكنها تلتقط انتباه من يمر بجوارها.
لم أكن في مزاج فني، ولم أخطط للتأمل، لكن شيئا في هذه اللوحة شدّني للحظة توقف. ربما لأننا في مثل هذه الأماكن نحتاج إلى ما يكسر وتيرة السرعة، ويعيدنا إلى لحظة اتزان.
تحمل اللوحة اسم «وئام وسلام»، وهي من تصميم الفنان البريطاني برايان كلارك، وتُعرف عالميا باسم Concordia. عمل زجاجي يمتد على مساحة واسعة، يتكوّن من 127 قطعة دقيقة التصميم. ما يميزها أنها تتفاعل مع ضوء الشمس على مدار اليوم، فتتغير ألوانها ومظهرها بتغير الزاوية، كما لو أنها تشارك إيقاع الزمن.
وجود عمل فني بهذه المساحة في مطار مزدحم لا يحدث كثيرًا، لكنه هنا يضيف بعدا إنسانيا للمكان، لا يُملي على العابرين شعورًا بعينه، لكنه يتيح لكلٍّ منهم أن يلتقط من ألوانه ما يلامس وجدانه، من دون حاجة إلى تفسير. اللوحة لا تمثل فقط عملاً بصريا، بل تعكس أيضا اختيارًا ثقافيا لما نريد أن نتركه في ذاكرة من يزور المكان. حين توضع قطعة بهذا الحجم والجمال في قلب مطار، فإنها لا ترحّب بالآخر فحسب، بل تعرّف بهدوء من نحن، وما الذي نقدّره ونحتفي به.
ومن ميزات الفن العام أنه لا يخاطب طبقة بعينها. لا يحتاج إلى ترجمة، ولا إلى اتفاق في الرأي. يكفي أنه يترك أثرا. في هذا المعبر الدولي، تشكّل اللوحة نقطة التقاء عابرة بين الغرباء، حيث تتنوع النظرات، لكن المعنى الإنساني يظل حاضرا.
نميل أحيانا إلى اختزال السلام في لحظات تاريخية كبرى، بينما تغيب صورته الأوضح: في نظرة لا تحمل حكمًا، في اختلاف لا يخلق خصومة، في رأي لا يقصي صاحبه. السلام ليس إعلانا سياسيا، بل سلوكا يوميا.
أما الوئام، فلا يعني التشابه، بل هو قبول الاختلاف من دون خوف. أن نترك مساحات آمنة للتنوع، من دون أن نطالب الآخرين بأن يشبهونا، وهو ليس رفاهية، بل ضرورة لصحة المجتمعات.
وغالبا لا تكتسب هذه القيم من النظريات، بل من مواقف صغيرة. من طابور انتظار، من تصرّف عابر، أو حتى من عمل فني لا يطلب انتباها، لكنه يترك أثرا لمن ينتبه.
في المطار، الوقت محسوب بدقة: الإقلاع، الوصول، اللحاق برحلة، لكن اللوحة تقترح زمنًا مختلفا، أكثر هدوءًا وتأملا. وكأنها تدعوك لتهدأ قليلا، وتنظر إلى العالم لا كمن يسابقه، بل كمن يرى تفاصيله.
في زمن يمتلئ بالشاشات والحركة السريعة، يصبح للصمت جمال خاص. الجمال هنا لا يفرض نفسه، بل يرافقك بهدوء. وفي مكان كالذي تبدأ فيه فصول، وتنتهي فيه أخرى، يكفي وجود كهذا ليذكرنا أن الرحلة لا تكون دائمًا في الطائرة فقط.
كثيرون لا يتوقفون عمدا، لكن اللوحة تمرّ في عيونهم ولو للحظة. وتترك فيهم شيئًا لا يمكن قياسه، لكنه يشعرهم أن المكان ليس خاليًا من المعنى.
ربما لا نحتاج إلى أن نفهم كل عمل فني، كي نستشعر أثره. فبعض الأعمال لا تشرح نفسها، لكنها توقظ فينا شعورًا دفينا.. كما يفعل الجمال حين يمرّ من دون إعلان.
وفي صالة المغادرة، حيث تطوى الصفحات وتبدأ الرحلات، تقف «وئام وسلام» من دون ضجيج. لا تفرض معنى، لكنها توحي بشيء نحتاج أن نعيشه أكثر: أن السلام لا يصنعه الكبار فقط في غرف المفاوضات، بل نمارسه نحن.. في أبسط تفاصيل الحياة.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك