العدد : ١٧٢٣٧ - الاثنين ٠٢ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٦ ذو الحجة ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢٣٧ - الاثنين ٠٢ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٦ ذو الحجة ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

وئام وسلام.. تأملات في لوحة تتنفس مع الشمس

بقلم: نبيلة رجب

السبت ٣١ مايو ٢٠٢٥ - 02:00

في‭ ‬صالة‭ ‬المغادرة‭ ‬بمطار‭ ‬البحرين،‭ ‬حيث‭ ‬تتقاطع‭ ‬الوجوه‭ ‬المتعجلة‭ ‬والمواعيد‭ ‬المتقاربة‭ ‬والحقائب‭ ‬المليئة‭ ‬بالتفاصيل،‭ ‬تقف‭ ‬لوحة‭ ‬زجاجية‭ ‬كبيرة‭ ‬بهدوء،‭ ‬لا‭ ‬تثير‭ ‬صخبا،‭ ‬لكنها‭ ‬تلتقط‭ ‬انتباه‭ ‬من‭ ‬يمر‭ ‬بجوارها‭.‬

لم‭ ‬أكن‭ ‬في‭ ‬مزاج‭ ‬فني،‭ ‬ولم‭ ‬أخطط‭ ‬للتأمل،‭ ‬لكن‭ ‬شيئا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة‭ ‬شدّني‭ ‬للحظة‭ ‬توقف‭. ‬ربما‭ ‬لأننا‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الأماكن‭ ‬نحتاج‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يكسر‭ ‬وتيرة‭ ‬السرعة،‭ ‬ويعيدنا‭ ‬إلى‭ ‬لحظة‭ ‬اتزان‭.‬

تحمل‭ ‬اللوحة‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬وئام‭ ‬وسلام‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬تصميم‭ ‬الفنان‭ ‬البريطاني‭ ‬برايان‭ ‬كلارك،‭ ‬وتُعرف‭ ‬عالميا‭ ‬باسم‭ ‬Concordia‭. ‬عمل‭ ‬زجاجي‭ ‬يمتد‭ ‬على‭ ‬مساحة‭ ‬واسعة،‭ ‬يتكوّن‭ ‬من‭ ‬127‭ ‬قطعة‭ ‬دقيقة‭ ‬التصميم‭. ‬ما‭ ‬يميزها‭ ‬أنها‭ ‬تتفاعل‭ ‬مع‭ ‬ضوء‭ ‬الشمس‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬اليوم،‭ ‬فتتغير‭ ‬ألوانها‭ ‬ومظهرها‭ ‬بتغير‭ ‬الزاوية،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنها‭ ‬تشارك‭ ‬إيقاع‭ ‬الزمن‭.‬

وجود‭ ‬عمل‭ ‬فني‭ ‬بهذه‭ ‬المساحة‭ ‬في‭ ‬مطار‭ ‬مزدحم‭ ‬لا‭ ‬يحدث‭ ‬كثيرًا،‭ ‬لكنه‭ ‬هنا‭ ‬يضيف‭ ‬بعدا‭ ‬إنسانيا‭ ‬للمكان،‭ ‬لا‭ ‬يُملي‭ ‬على‭ ‬العابرين‭ ‬شعورًا‭ ‬بعينه،‭ ‬لكنه‭ ‬يتيح‭ ‬لكلٍّ‭ ‬منهم‭ ‬أن‭ ‬يلتقط‭ ‬من‭ ‬ألوانه‭ ‬ما‭ ‬يلامس‭ ‬وجدانه،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬تفسير‭. ‬اللوحة‭ ‬لا‭ ‬تمثل‭ ‬فقط‭ ‬عملاً‭ ‬بصريا،‭ ‬بل‭ ‬تعكس‭ ‬أيضا‭ ‬اختيارًا‭ ‬ثقافيا‭ ‬لما‭ ‬نريد‭ ‬أن‭ ‬نتركه‭ ‬في‭ ‬ذاكرة‭ ‬من‭ ‬يزور‭ ‬المكان‭. ‬حين‭ ‬توضع‭ ‬قطعة‭ ‬بهذا‭ ‬الحجم‭ ‬والجمال‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬مطار،‭ ‬فإنها‭ ‬لا‭ ‬ترحّب‭ ‬بالآخر‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬تعرّف‭ ‬بهدوء‭ ‬من‭ ‬نحن،‭ ‬وما‭ ‬الذي‭ ‬نقدّره‭ ‬ونحتفي‭ ‬به‭.‬

ومن‭ ‬ميزات‭ ‬الفن‭ ‬العام‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يخاطب‭ ‬طبقة‭ ‬بعينها‭. ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬ترجمة،‭ ‬ولا‭ ‬إلى‭ ‬اتفاق‭ ‬في‭ ‬الرأي‭. ‬يكفي‭ ‬أنه‭ ‬يترك‭ ‬أثرا‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المعبر‭ ‬الدولي،‭ ‬تشكّل‭ ‬اللوحة‭ ‬نقطة‭ ‬التقاء‭ ‬عابرة‭ ‬بين‭ ‬الغرباء،‭ ‬حيث‭ ‬تتنوع‭ ‬النظرات،‭ ‬لكن‭ ‬المعنى‭ ‬الإنساني‭ ‬يظل‭ ‬حاضرا‭.‬

نميل‭ ‬أحيانا‭ ‬إلى‭ ‬اختزال‭ ‬السلام‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬تاريخية‭ ‬كبرى،‭ ‬بينما‭ ‬تغيب‭ ‬صورته‭ ‬الأوضح‭: ‬في‭ ‬نظرة‭ ‬لا‭ ‬تحمل‭ ‬حكمًا،‭ ‬في‭ ‬اختلاف‭ ‬لا‭ ‬يخلق‭ ‬خصومة،‭ ‬في‭ ‬رأي‭ ‬لا‭ ‬يقصي‭ ‬صاحبه‭. ‬السلام‭ ‬ليس‭ ‬إعلانا‭ ‬سياسيا،‭ ‬بل‭ ‬سلوكا‭ ‬يوميا‭.‬

أما‭ ‬الوئام،‭ ‬فلا‭ ‬يعني‭ ‬التشابه،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬قبول‭ ‬الاختلاف‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬خوف‭. ‬أن‭ ‬نترك‭ ‬مساحات‭ ‬آمنة‭ ‬للتنوع،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نطالب‭ ‬الآخرين‭ ‬بأن‭ ‬يشبهونا،‭ ‬وهو‭ ‬ليس‭ ‬رفاهية،‭ ‬بل‭ ‬ضرورة‭ ‬لصحة‭ ‬المجتمعات‭.‬

وغالبا‭ ‬لا‭ ‬تكتسب‭ ‬هذه‭ ‬القيم‭ ‬من‭ ‬النظريات،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬مواقف‭ ‬صغيرة‭. ‬من‭ ‬طابور‭ ‬انتظار،‭ ‬من‭ ‬تصرّف‭ ‬عابر،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬عمل‭ ‬فني‭ ‬لا‭ ‬يطلب‭ ‬انتباها،‭ ‬لكنه‭ ‬يترك‭ ‬أثرا‭ ‬لمن‭ ‬ينتبه‭.‬

في‭ ‬المطار،‭ ‬الوقت‭ ‬محسوب‭ ‬بدقة‭: ‬الإقلاع،‭ ‬الوصول،‭ ‬اللحاق‭ ‬برحلة،‭ ‬لكن‭ ‬اللوحة‭ ‬تقترح‭ ‬زمنًا‭ ‬مختلفا،‭ ‬أكثر‭ ‬هدوءًا‭ ‬وتأملا‭. ‬وكأنها‭ ‬تدعوك‭ ‬لتهدأ‭ ‬قليلا،‭ ‬وتنظر‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬لا‭ ‬كمن‭ ‬يسابقه،‭ ‬بل‭ ‬كمن‭ ‬يرى‭ ‬تفاصيله‭.‬

في‭ ‬زمن‭ ‬يمتلئ‭ ‬بالشاشات‭ ‬والحركة‭ ‬السريعة،‭ ‬يصبح‭ ‬للصمت‭ ‬جمال‭ ‬خاص‭. ‬الجمال‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬يفرض‭ ‬نفسه،‭ ‬بل‭ ‬يرافقك‭ ‬بهدوء‭. ‬وفي‭ ‬مكان‭ ‬كالذي‭ ‬تبدأ‭ ‬فيه‭ ‬فصول،‭ ‬وتنتهي‭ ‬فيه‭ ‬أخرى،‭ ‬يكفي‭ ‬وجود‭ ‬كهذا‭ ‬ليذكرنا‭ ‬أن‭ ‬الرحلة‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬دائمًا‭ ‬في‭ ‬الطائرة‭ ‬فقط‭.‬

كثيرون‭ ‬لا‭ ‬يتوقفون‭ ‬عمدا،‭ ‬لكن‭ ‬اللوحة‭ ‬تمرّ‭ ‬في‭ ‬عيونهم‭ ‬ولو‭ ‬للحظة‭. ‬وتترك‭ ‬فيهم‭ ‬شيئًا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬قياسه،‭ ‬لكنه‭ ‬يشعرهم‭ ‬أن‭ ‬المكان‭ ‬ليس‭ ‬خاليًا‭ ‬من‭ ‬المعنى‭.‬

ربما‭ ‬لا‭ ‬نحتاج‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نفهم‭ ‬كل‭ ‬عمل‭ ‬فني،‭ ‬كي‭ ‬نستشعر‭ ‬أثره‭. ‬فبعض‭ ‬الأعمال‭ ‬لا‭ ‬تشرح‭ ‬نفسها،‭ ‬لكنها‭ ‬توقظ‭ ‬فينا‭ ‬شعورًا‭ ‬دفينا‭.. ‬كما‭ ‬يفعل‭ ‬الجمال‭ ‬حين‭ ‬يمرّ‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬إعلان‭.‬

وفي‭ ‬صالة‭ ‬المغادرة،‭ ‬حيث‭ ‬تطوى‭ ‬الصفحات‭ ‬وتبدأ‭ ‬الرحلات،‭ ‬تقف‭ ‬‮«‬وئام‭ ‬وسلام‮»‬‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ضجيج‭. ‬لا‭ ‬تفرض‭ ‬معنى،‭ ‬لكنها‭ ‬توحي‭ ‬بشيء‭ ‬نحتاج‭ ‬أن‭ ‬نعيشه‭ ‬أكثر‭: ‬أن‭ ‬السلام‭ ‬لا‭ ‬يصنعه‭ ‬الكبار‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬غرف‭ ‬المفاوضات،‭ ‬بل‭ ‬نمارسه‭ ‬نحن‭.. ‬في‭ ‬أبسط‭ ‬تفاصيل‭ ‬الحياة‭.‬

 

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا