العدد : ١٧٢٣٥ - السبت ٣١ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ ذو الحجة ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢٣٥ - السبت ٣١ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ ذو الحجة ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

«الكواد كابتر» التي تحصي حركاتنا وتمزق أجسادنا

بقلم: د. هيا فريج {

الخميس ٢٩ مايو ٢٠٢٥ - 02:00

ظهرت‭ ‬‮«‬الكواد‭ ‬كابتر‮»‬‭ ‬أو‭ ‬الطائرات‭ ‬المُسَيَّرَة‭ ‬الرباعية‭ ‬المراوح‭ ‬في‭ ‬الآونة‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬وطننا‭ ‬العربي؛‭ ‬للترفيه‭ ‬والتصوير،‭ ‬وصناعة‭ ‬الأفلام،‭ ‬ولأغراض‭ ‬صناعية‭ ‬وتجارية‭ ‬أخرى،‭ ‬بينما‭ ‬ضَمَن‭ ‬استخدام‭ ‬الاحتلال‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬حربه‭ ‬الأخيرة‭ ‬على‭ ‬غزة،‭ ‬ضمن‭ ‬له‭ ‬السيطرة‭ ‬التامّة‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬جنوده‭ ‬في‭ ‬الميدان‭.‬

‭ ‬إذ‭ ‬يمكنها‭ ‬استطلاع‭ ‬المكان،‭ ‬ومراقبته‭ ‬بشكل‭ ‬واضح‭ ‬وكامل،‭ ‬ورصد‭ ‬وجود‭ ‬الأفراد،‭ ‬وحركاتهم‭ ‬وتنقلاتهم،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تغطية‭ ‬جوية‭ ‬لأكبر‭ ‬قدرٍ‭ ‬ممكن‭ ‬من‭ ‬المناطق‭ ‬المحظورة‭ ‬عسكريًّا‭ ‬التي‭ ‬يتوغّلها‭ ‬بريًّا،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تنفيذ‭ ‬مهمات‭ ‬هجوميّة،‭ ‬وإطلاق‭ ‬النار‭ ‬المباشر‭ ‬بقنابل‭ ‬‮«‬الكواد‭ ‬كابتر‮»‬‭ ‬على‭ ‬المدنيين‭ ‬أو‭ ‬العسكريين،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تمييز‭ ‬بينهم‭ ‬خلافاً‭ ‬لما‭ ‬تقتضيه‭ ‬الأعراف‭ ‬الدولية‭.‬

‭ ‬فقد‭ ‬شهدت‭ ‬غزةُ‭ ‬ارتقاء‭ ‬عدد‭ ‬هائل‭ ‬من‭ ‬الشهداء،‭ ‬بمجرد‭ ‬اقترابهم‭ ‬من‭ ‬المنطقة‭ ‬المحظورة‭ ‬التي‭ ‬تتواجد‭ ‬فيها‭ ‬آليات‭ ‬الاحتلال،‭ ‬وفي‭ ‬أثناء‭ ‬محاولتهم‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬منازلهم‭ ‬أو‭ ‬محلاتهم‭ ‬أو‭ ‬أراضيهم‭ ‬الزراعية،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬نزوحهم‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭. ‬كما‭ ‬لم‭ ‬ترحم‭ ‬آلة‭ ‬القتل‭ ‬هذه‭ ‬المختبئين‭ ‬المحتمين‭ ‬داخل‭ ‬بيوتهم‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬عسكرية‭ ‬مغلقة‭ ‬توغل‭ ‬فيها‭ ‬الجيش‭ ‬فجأة،‭ ‬ولم‭ ‬يستطع‭ ‬أصحابها‭ ‬مغادرة‭ ‬المكان،‭ ‬أو‭ ‬آثروا‭ ‬البقاء‭ ‬ظنًّا‭ ‬منهم‭ ‬أن‭ ‬المكان‭ ‬آمنٌ،‭ ‬وأن‭ ‬الجيش‭ ‬لن‭ ‬يقترب‭ ‬من‭ ‬العزّل‭ ‬المسالمين‭ ‬في‭ ‬بيوتهم‭. ‬

هذا‭ ‬الأمر‭ ‬جعل‭ ‬‮«‬الكواد‭ ‬كابتر‮»‬‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬عناصر‭ ‬التفوق‭ ‬العسكري‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬وأسهم‭ ‬في‭ ‬تحييد‭ ‬مناطق‭ ‬كاملة،‭ ‬مثلما‭ ‬فعل‭ ‬في‭ ‬عزله‭ ‬للمناطق‭ ‬المتاخمة‭ ‬للشريط‭ ‬الحدودي‭ ‬مع‭ ‬غزة‭ ‬منذ‭ ‬السابع‭ ‬من‭ ‬أكتوبر،‭ ‬ومثلما‭ ‬يفعل‭ ‬في‭ ‬اجتياحاته‭ ‬المتكررة‭ ‬لشمال‭ ‬القطاع‭ ‬وجنوبه،‭ ‬ومنعه‭ ‬للسكان‭ ‬من‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬رفح‭ ‬منذ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عامٍ،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬حصار‭ ‬مخيم‭ ‬جباليا،‭ ‬حين‭ ‬أطبق‭ ‬الاحتلال‭ ‬على‭ ‬مداخل‭ ‬المخيم‭ ‬ومخارجه،‭ ‬وكانت‭ ‬محاولة‭ ‬النجاة‭ ‬منه‭ ‬دربَ‭ ‬موتٍ‭ ‬تمشي‭ ‬إليه‭ ‬بكامل‭ ‬إرادتك‭.  ‬

أما‭ ‬الأحياء‭ ‬الناجون‭ ‬الذين‭ ‬أخطأتهم‭ ‬سِهامُ‭ ‬الأقدار،‭ ‬فليس‭ ‬لهم‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يرووا‭ ‬حكايتهم،‭ ‬ويكتبوها‭ ‬بالدمِ‭ ‬والدمع‭... ‬جربنا‭ ‬‮«‬الكواد‭ ‬كابتر‮»‬‭ ‬في‭ ‬حصارات‭ ‬مخيم‭ ‬جباليا،‭ ‬فقد‭ ‬انهمرت‭ ‬علينا‭ ‬القذائف‭ ‬والصواريخ،‭ ‬وسط‭ ‬اقتحام‭ ‬الاحتلال‭ ‬للمخيم‭ ‬بجنوده‭ ‬ودباباته،‭ ‬مع‭ ‬تغطية‭ ‬جويّة‭ ‬كثيفة،‭ ‬فقد‭ ‬فرضت‭ ‬‮«‬الكواد‭ ‬كابتر‮»‬‭ ‬حظر‭ ‬التجوال،‭ ‬ولم‭ ‬نستطِع‭ ‬أن‭ ‬نتحرك‭ ‬من‭ ‬البيوت،‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬صراخ‭ ‬جارنا‭ ‬الذي‭ ‬استنجد‭ ‬بإخوتي‭ ‬لإسعافه‭ ‬من‭ ‬رصاصٍ‭ ‬حيٍّ‭ ‬في‭ ‬قدمه،‭ ‬وأخبرهم‭ ‬بتفتيش‭ ‬الجيش‭ ‬للبيوت‭ ‬في‭ ‬المخيم،‭ ‬واعتقاله‭ ‬للرجال‭ ‬والشباب‭ ‬والنساء،‭ ‬ونصحنا‭ ‬بضرورة‭ ‬النزوح‭ ‬قبل‭ ‬الاعتقال،‭ ‬في‭ ‬حينِ‭ ‬أن‭ ‬جارًا‭ ‬لنا‭ ‬قد‭ ‬حاول‭ ‬استطلاع‭ ‬ما‭ ‬يجري،‭ ‬فأصابته‭ ‬الطائرة‭ ‬برصاص‭ ‬مباشر‭ ‬أردته‭ ‬شهيدًا‭ ‬على‭ ‬الفور‭. ‬حاول‭ ‬جاره‭ ‬سحب‭ ‬جثته،‭ ‬فسقط‭ ‬شهيدًا‭ ‬فوقه،‭ ‬ولم‭ ‬يستطع‭ ‬أحد‭ ‬انتشال‭ ‬جثتيهما‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أيام‭ ‬فور‭ ‬انسحاب‭ ‬القوات‭ ‬من‭ ‬المخيم،‭ ‬ودُفِنا‭ ‬معًا‭ ‬في‭ ‬مقبرة‭ ‬جماعيةٍ‭ ‬للشهداء،‭ ‬فقد‭ ‬فُرِض‭ ‬حصارٌ‭ ‬تامّ‭ ‬على‭ ‬المخيَّم،‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬الأيام‭ ‬الأولى‭ ‬بعد‭ ‬الهدنة‭ ‬الهشّة‭ ‬أوائل‭ ‬2024،‭ ‬التي‭ ‬جرى‭ ‬فيها‭ ‬تبادلٌ‭ ‬للأسرى‭ ‬والمخطوفين‭. ‬

ادّعى‭ ‬الاحتلال‭ ‬وقتها‭ ‬بأنّ‭ ‬المخيم‭ ‬مسرح‭ ‬قتالٍ‭ ‬خطير،‭ ‬وأن‭ ‬علينا‭ ‬مغادرته‭ ‬نحو‭ ‬مدينة‭ ‬غزة،‭ ‬وقد‭ ‬حدّد‭ ‬لنا‭ ‬خريطةً‭ ‬للنزوح،‭ ‬تنتهي‭ ‬بنا‭ ‬لأن‭ ‬نسلُكَ‭ ‬شارع‭ ‬الوحدة‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬الملاذات‭ ‬المعروفة‭ ‬في‭ ‬حيّ‭ ‬الرمال،‭ ‬ولندرة‭ ‬وسائل‭ ‬المواصلات،‭ ‬فقد‭ ‬مشينا‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬الطريق‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نجد‭ ‬حمارًا‭ ‬نضع‭ ‬حِملَنا‭ ‬عليه،‭ ‬استطاعت‭ ‬والدتي‭ ‬مع‭ ‬جدتي‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬حي‭ ‬الرمال‭ ‬قبلنا،‭ ‬لكن‭ ‬باغتتنا‭ ‬‮«‬الكواد‭ ‬كابتر‮»‬‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬النّزوح‭ ‬برصاصها‭ ‬المباشر‭ ‬تحت‭ ‬أقدامنا،‭ ‬وعلى‭ ‬أرجلنا،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نحتمي‭ ‬بجدران‭ ‬مسجد‭ ‬السرايا‭ ‬المقصوف،‭ ‬حاولنا‭ ‬مع‭ ‬جموع‭ ‬النازحين‭ ‬قطع‭ ‬الشارع‭ ‬الرئيسي‭ ‬إلّا‭ ‬أن‭ ‬رصاصاً‭ ‬عنيفاً‭ ‬كان‭ ‬ينتظرنا‭. ‬سقط‭ ‬المصابون‭ ‬أمام‭ ‬أعيننا،‭ ‬وكان‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نختار‭ ‬بين‭ ‬أن‭ ‬نعبر‭ ‬شارع‭ ‬الموت،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬نعود‭ ‬مفترقين‭ ‬إلى‭ ‬حيّ‭ ‬الشيخ‭ ‬رضوان،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬مسرحًا‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬مسارح‭ ‬العمليّات‭ ‬العسكريّة‭. ‬

وفيما‭ ‬كان‭ ‬إخوتي‭ ‬يعبئون‭ ‬المياه‭ ‬مع‭ ‬الجيران،‭ ‬أمطرت‭ ‬الطائرة‭ ‬اللعينة‭ ‬ذاتها‭ ‬الرصاص‭ ‬على‭ ‬الجموع‭ ‬التي‭ ‬تصطف‭ ‬لتملأ‭ ‬ما‭ ‬يكفيها‭ ‬من‭ ‬مياهٍ‭ ‬غير‭ ‬صالحة‭ ‬للشرب،‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬ملوحتها‭ ‬في‭ ‬فمي‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬مضي‭ ‬ما‭ ‬يقاربُ‭ ‬عاماً‭ ‬ونصف‭ ‬العام‭ ‬على‭ ‬شربها،‭ ‬كان‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نتجرعها؛‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬نموت‭ ‬عطشًا‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬الموت‭ ‬واليأس‭ ‬والقهر‭. ‬

لا‭ ‬يُغادر‭ ‬هذا‭ ‬المشهد‭ ‬عيناي،‭ ‬ولا‭ ‬أنسى‭ ‬محاولات‭ ‬الشباب‭ ‬للاحتماء‭ ‬بالسيارات،‭ ‬وإلقاءهم‭ ‬جالونات‭ ‬المياه‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬النجاةِ،‭ ‬وعدم‭ ‬قدرتهم‭ ‬على‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬المغرب‭. ‬

اضطُّررنا‭ ‬بعدها‭ ‬للعودة‭ ‬إلى‭ ‬المخيم‭ ‬مرةً‭ ‬أخرى،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬شمالُ‭ ‬غزّة‭ ‬كله‭ ‬يشتعلُ‭ ‬نارًا،‭ ‬وكنّا‭ ‬كلّ‭ ‬ليلةٍ‭ ‬على‭ ‬موعدٍ‭ ‬مع‭ ‬جنود‭ ‬المشاة‭ ‬الذين‭ ‬يتجوّلون‭ ‬في‭ ‬الأزقة،‭ ‬ومع‭ ‬جنازير‭ ‬الدبابات‭ ‬التي‭ ‬تدّوس‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬رحمةٍ‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يقع‭ ‬بين‭ ‬أسنانها‭. ‬

ضيف‭ ‬ثقيل‭ ‬يحصي‭ ‬النيام‭ ‬وأنفاسهم‭  ‬

النومُ‭ ‬رفاهيةٌ‭ ‬بعيدة‭ ‬المنال،‭ ‬حملنا‭ ‬على‭ ‬أعتاقِنا‭ ‬ضجيجَ‭ ‬اليوم،‭ ‬وحين‭ ‬حلّ‭ ‬المساء،‭ ‬وجدنا‭ ‬الليل‭ ‬ثقيلًا،‭ ‬وما‭ ‬أطول‭ ‬الليل‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬لم‭ ‬ينَمِ،‭ ‬وكيف‭ ‬ينامُ‭ ‬من‭ ‬ينتظر‭ ‬مجهولًا،‭ ‬وقدرًا‭ ‬معلّقًا‭ ‬بين‭ ‬السماء‭ ‬والأرض،‭ ‬تقذفه‭ ‬الدبابات‭ ‬وترميه‭ ‬الطائرات‭ ‬وتلقي‭ ‬به‭ ‬البوارج‭ ‬دون‭ ‬شفقة؟

عُدْنا‭ ‬مع‭ ‬جارٍ‭ ‬وحيد،‭ ‬لا‭ ‬نجرؤ‭ ‬على‭ ‬الكلام‭ ‬والحركة‭ ‬إلا‭ ‬حين‭ ‬تهدأ‭ ‬الأوضاع،‭ ‬وتتراجع‭ ‬الآليات‭ ‬قليلًا،‭ ‬وحين‭ ‬ارتاح‭ ‬لوجودنا،‭ ‬أحضرَ‭ ‬بناته‭ ‬بعد‭ ‬أيامٍ‭ ‬لينمْن‭ ‬معنا‭ ‬في‭ ‬الحارة؛‭ ‬طلبًا‭ ‬للأُنْسِ‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يغيّر‭ ‬في‭ ‬معادلة‭ ‬الصراع‭ ‬شيئًا،‭ ‬فلا‭ ‬هو‭ ‬يجلبُ‭ ‬الأمان،‭ ‬ولا‭ ‬يحقّق‭ ‬الاستقرارَ،‭ ‬لكنّه‭ ‬يعني‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الطمأنينة‭ ‬للذين‭ ‬يعيشون‭ ‬كلّ‭ ‬تفاصيل‭ ‬الحياة‭ ‬تحت‭ ‬القصف‭. ‬

كنّا‭ ‬وقتها‭ ‬نسكنُ‭ ‬بيتنا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬نوافذ،‭ ‬فقد‭ ‬تحطمت‭ ‬مع‭ ‬القصف‭ ‬المتكرر،‭ ‬وضعنا‭ ‬قطع‭ ‬قماش‭ ‬خفيفة‭ ‬تسدّ‭ ‬عنا‭ ‬بردَ‭ ‬كانون،‭ ‬لكنها‭ ‬لا‭ ‬تمنع‭ ‬استقبال‭ ‬ضيوف‭ ‬سمجين،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬‮«‬الكواد‭ ‬كابتر‮»‬‭ ‬زائرةً‭ ‬ليليّةً‭ ‬تفرض‭ ‬نفسها‭ ‬عنوةً،‭ ‬تحلّق‭ ‬فوق‭ ‬النافذة‭ ‬تمامًا،‭ ‬وتتربّصُ‭ ‬بنا،‭ ‬فتفتح‭ ‬كشافاتها‭ ‬لتعدنا‭ ‬واحدًا‭ ‬تلو‭ ‬الآخر،‭ ‬ثم‭ ‬تأتي‭ ‬عند‭ ‬الباب‭ (‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬باب‭ ‬لأنه‭ ‬سقط‭ ‬فوقي‭ ‬جراء‭ ‬قصف‭ ‬منازل‭ ‬جيراننا‭ ‬آنذاك‭) ‬وتضيء‭ ‬لتراقب‭ ‬المنزل‭ ‬بأكمله،‭ ‬كانت‭ ‬ضيفًا‭ ‬ثقيلًا،‭ ‬لكنّنا‭ ‬كنّا‭ ‬أهل‭ ‬بيتٍ‭ ‬ملتزمين‭ ‬بما‭ ‬تقتضيه‭ ‬مبادئ‭ ‬الضيافة،‭ ‬نفردُ‭ ‬فراشنا‭ ‬في‭ ‬الصالون‭ ‬بعد‭ ‬صلاة‭ ‬العصر،‭ ‬ولا‭ ‬نتحركُ‭ ‬إلا‭ ‬للضرورة‭ ‬القصوى،‭ ‬ولا‭ ‬نتكلمُ‭ ‬إلا‭ ‬همسًا،‭ ‬تحومُ‭ ‬ساعاتٍ‭ ‬حولنا،‭ ‬فلا‭ ‬تسمعُ‭ ‬إلا‭ ‬أصوات‭ ‬دقّات‭ ‬قلوبنا‭ ‬المرتجفة،‭ ‬ولا‭ ‬تشعر‭ ‬إلا‭ ‬بتجمّد‭ ‬أطرافنا،‭ ‬وتصلُّب‭ ‬أجسادنا‭.‬

في‭ ‬آخر‭ ‬اجتياحٍ‭ ‬للمخيم‭ ‬قبل‭ ‬الهدنة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬تمركزت‭ ‬الدبابات‭ ‬في‭ ‬حيّ‭ ‬الفالوجة‭ ‬الذي‭ ‬يعدُّ‭ ‬مدخل‭ ‬المخيم‭ ‬ومخرجه‭ ‬الجنوبي‭ ‬والغربي،‭ ‬ظل‭ ‬أحد‭ ‬الجيران‭ ‬يدعونا‭ ‬إلى‭ ‬الثبات‭: ‬‮«‬لا‭ ‬تخرجوا‭ ‬يا‭ ‬ناس،‭ ‬أنا‭ ‬هنا‭ ‬مع‭ ‬زوجتي‭ ‬وأولادي‭ ‬في‭ ‬الحارة‮»‬،‭ ‬لكنّ‭ ‬خوف‭ ‬الأولاد‭ ‬دفعه‭ ‬الى‭ ‬الخروج‭ ‬لتأمين‭ ‬الطريق‭ ‬لهم،‭ ‬بمجرّد‭ ‬محاولته‭ ‬قطع‭ ‬الشارع،‭ ‬مزّقته‭ ‬طائرة‭ ‬الكواد‭ ‬كابتر‭ ‬بالرصاص،‭ ‬ثم‭ ‬جاءت‭ ‬الدبابة؛‭ ‬لتكمل‭ ‬هرْسَه‭ ‬بقذائفها،‭ ‬ظلّ‭ ‬الرصاص‭ ‬مطرًا‭ ‬ينهمر‭ ‬على‭ ‬الحيّ‭ ‬كله‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬ساعتين،‭ ‬وحين‭ ‬تراجعت‭ ‬الدبابات‭ ‬قليلًا،‭ ‬نادى‭ ‬جارنا‭ ‬في‭ ‬الحارة‭ ‬على‭ ‬أخي‭ ‬الحكيم‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬بوسعه‭ ‬إسعافه،‭ ‬قرأ‭ ‬أخي‭: ‬‮«‬وَجَعَلْنَا‭ ‬مِن‭ ‬بَيْنِ‭ ‬أَيْدِيهِمْ‭ ‬سَدًّا‭ ‬وَمِنْ‭ ‬خَلْفِهِمْ‭ ‬سَدًّا‭ ‬فَأَغْشَيْنَاهُمْ‭ ‬فَهُمْ‭ ‬لَا‭ ‬يُبْصِرُونَ‮»‬‭ (‬سورة‭ ‬يس،‭ ‬الآية‭ ‬9‭). ‬لكن‭ ‬الشاب‭ ‬كان‭ ‬جثة‭ ‬هامدةً‭ ‬لا‭ ‬روح‭ ‬فيها،‭ ‬تمكن‭ ‬أخي‭ ‬من‭ ‬انتشال‭ ‬جثمانه‭ ‬بتوفيق‭ ‬الله‭ ‬وصدق‭ ‬الدعاء‭. ‬

قبل‭ ‬قصف‭ ‬منزلنا‭ ‬بدقائق،‭ ‬كنا‭ ‬قد‭ ‬رأينا‭ ‬طائرة‭ ‬‮«‬الكواد‭ ‬كابتر‮»‬‭ ‬تقف‭ ‬عند‭ ‬باب‭ ‬المنزل،‭ ‬كانوا‭ ‬على‭ ‬درايةٍ‭ ‬بوجودنا‭ ‬فيه،‭ ‬وعلى‭ ‬علمٍ‭ ‬بأننا‭ ‬لا‭ ‬نشكل‭ ‬خطرًا‭ ‬عليهم،‭ ‬لكنّ‭ ‬وجودنا‭ ‬أحياءَ‭ ‬يفشل‭ ‬مخططات‭ ‬التهجير‭ ‬التي‭ ‬يعدونها‭. ‬

وبالطبع،‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬للطيران‭ ‬قدرته‭ ‬الفائقة‭ ‬على‭ ‬رصد‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬التحركات،‭ ‬فمن‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬تحركّات‭ ‬الأفراد‭ ‬ستكون‭ ‬محدودةً‭ ‬للغاية‭ ‬وفي‭ ‬نطاق‭ ‬ضيق‭ ‬جدًا،‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬سقوط‭ ‬فرضية‭ ‬المقاومة‭ ‬الشرسة،‭ ‬والاشتباكات‭ ‬العنيفة‭ ‬التي‭ ‬تروّج‭ ‬لها‭ ‬بعض‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام،‭ ‬فلا‭ ‬جدوى‭ ‬للوسائل‭ ‬البدائية‭ ‬في‭ ‬حضور‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬الحديثة،‭ ‬وبذلك‭ ‬يكون‭ ‬مطلب‭ ‬نزع‭ ‬السلاح‭ ‬لإيقاف‭ ‬الحرب‭ ‬نوعًا‭ ‬من‭ ‬المراوغة‭ ‬للاستمرار‭ ‬فيها‭. ‬فكيف‭ ‬للكف‭ ‬أن‭ ‬تلاطم‭ ‬المخرز؟‭ ‬فلا‭ ‬يملكُ‭ ‬العُزَّلُ‭ ‬ما‭ ‬يواجهون‭ ‬به‭ ‬القنابل‭ ‬التي‭ ‬تتساقط‭ ‬من‭ ‬السماء،‭ ‬ولا‭ ‬الصواريخ‭ ‬التي‭ ‬تُصبّ‭ ‬حِمماً‭ ‬فوق‭ ‬رؤوسهم،‭ ‬ولا‭ ‬كُتلُ‭ ‬اللهيب‭ ‬التي‭ ‬تندفعُ‭ ‬إليهم،‭ ‬فتحصد‭ ‬أرواحهم،‭ ‬غير‭ ‬أنهم‭ ‬ينتظرون‭ ‬إنصاف‭ ‬العدالة‭ ‬لهم،‭ ‬وإحقاق‭ ‬الحقّ‭ ‬القاضي‭ ‬بإيقاف‭ ‬شلال‭ ‬الدمّ‭. ‬

 

{‭ ‬باحثة‭ ‬فلسطينية‭ ‬من‭ ‬غزة

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا