بعد أحداث 7 أكتوبر كان الموقف الغربي وخاصة الأمريكي في منتهى السلبية ضد الفلسطينيين عامة وضد فلسطيني غزة خاصة وشكل هذا الموقف السلبي ضد الفلسطينيين مظلة سياسية للدولة الصهيونية خلال فترة الحرب التي تقارب الآن 20 شهرا، ونتذكر جيدا كيف تداعى الزعماء الغربيون واحدا تلو الآخر لزيارة إسرائيل وتقديم الدعم الكامل لها بل إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أوصى من تل أبيب في ذلك الوقت بأنه يجب تشكيل تحالف دولي لمحاربة حركة «حماس» مثل التحالف الدولي ضد «داعش»، وقد تتالت التصريحات المماثلة من الزعماء الأوروبيين فضلا عن الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن الذي سخر كل القدرات والإمكانات الأمريكية لدعم إسرائيل وتقديم كل أنواع الفتك والمتفجرات لتدمير غزة.
ولم يكن في ذلك الوقت من يعارض الإبادة الجماعية والتدمير الممنهج للقطاع إلا عدد قليل جدا من القادة الغربيين ربما باستثناء رئيس وزراء إسبانيا وبعض القيادات السياسية والبرلمانية في إيرلندا.
وكان أغلب هؤلاء الداعمين للإبادة الجماعية يرونها نتيجة لما أقدمت عليه حماس في 7 أكتوبر بل ويرونها طريقة لدفاع إسرائيل عن نفسها مهما بلغت الأعمال العسكرية من شدة. وقد أسهم ذلك بشكل واضح لا لبس فيه في تشجيع وتحريض إسرائيل على المزيد من القتل والفتك والتدمير حتى وصل ذلك إلى درجة مرعبة فاقت كل تصور وكل الأعمال الوحشية التي جرت خلال الحروب الحديثة والقديمة.
اليوم بدا عدد من قادة الدول الأوروبية يتحركون تحت ضغط مواطنيهم الذين ملأوا الشوارع بالاحتجاجات ضد الإبادة الجماعية والتدمير والتجويع فقد بدأوا يشعرون بأن القيادة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة قد تمادت في جرائم الإبادة وبلغت درجة لم يعد من الممكن السكوت عنها سياسيا وإنسانيا وأخلاقيا.
وقد صدر خلال الأيام القليلة الماضية عن الاتحاد الأوروبي ورئيس وزراء بريطانيا بعض التصريحات الخجولة التي تنادي بوقف الإبادة الجماعية وعدم استخدام الغذاء أو الماء أو الدواء كأدوات للحرب والقتل في غزة وإنه لا يجوز تجويع أكثر من مليونين من الغزاويين وحرمانهم من الطعام والماء وكل اساسيات الحياة بما في ذلك المستشفيات ومخازن الأدوية ومصادر المياه القليلة، وخاصة تدمير محطة تحلية المياه الوحيدة في غزة التي كانت تمد الغزاويين بالحد الأدنى من المياه.
هذا الموقف الخجول المتأخر جدا جدا يحاول من خلاله الأوروبيون أن يتنصلوا من تبعات هذه الحرب المجنونة وغير الأخلاقية التي ستكتب على جباه هؤلاء الزعماء الذين سكتوا عن هذه الجريمة النكراء ضد المدنيين الفلسطينيين العزل بدعوى محاربة حماس هذا الموقف المتأخر له ثلاثة أسباب:
الأول: التمادي الإسرائيلي إلى أبعد الحدود في تنفيذ جرائم القتل والإبادة والتهجير في غزة، وهذا أمر معلن وصدر بشأنه عدد من التصريحات من كبار المسؤولين الإسرائيليين بل وجاءت ضمن المشروع الذي تحدث عنه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتهجير الفلسطينيين من غزة تمهيدا لإعادة إعمارها وتحويلها إلى مشروع سياحي، فهذا التمادي العدواني صدم الأوروبيين الذين كانوا يتوقعون أن هذه الحرب لن تدوم طويلا فوجدوا أنها تواصلت على مدى 20 شهرا تقريبا من دون توقف، وان ما يحدث في غزة وينقل على الهواء مباشرة ضد المدنيين وضد المستشفيات وضد المدارس وضد البنية التحتية بالكامل يؤدي يوميا إلى المزيد من القتل والتدمير.
الثاني: إن الرأي العام الأوروبي في أغلبه خاصة في منظمات المجتمع المدني وطلاب الجامعات ينظمون تظاهرات تملاْ الشوارع والجامعات والساحات العامة، والمتظاهرون يجرمون قيادات بلادهم التي سكتت عن هذه الإبادة الجماعية ولم تفعل شيئا في سبيل إيقافها او حتى الحد منها فأصبحت هذه القيادات تعيش حالة من الخوف والقلق نتيجة تراجع شعبيتها ليس فقط بسبب الموقف من القضية الفلسطينية، بل أيضا بسبب الدعم اللامحدود لأوكرانيا لضمان استمرار الحرب على حساب قوت ورفاهية الشعوب الأوروبية التي تعاني اليوم بسبب ذلك.
وقد رأينا بعض النتائج المبكرة لهذا الوضع في نتائج الانتخابات في ألمانيا ورومانيا وسلوفاكيا وغيرها، ولذلك تحاول هذه القيادات أن تعبر ولو بشكل خجول عن عدم رضاها عن تمادي إسرائيل في هذه الهمجية اللاإنسانية وذلك لتقول إنها لم تكن موافقة على ما يفعله نتنياهو وحلف اليمين المتطرف في إسرائيل.
الثالث: الخوف من إسرائيل نفسها، لأن ما تقوم به الحكومة المتطرفة حاليا من اعتماد سياسة الحرب الدائمة والإصرار على التهجير والقتل والابعاد من شأنه أن يهدد الاستقرار في المنطقة ككل وخاصة ان هذه الأعمال الوحشية التي لا تتوقف يوما ستكون على المدى القريب خطر على إسرائيل نفسها وبالذات في المحيط الإقليمي الذي بدأ يسير في الاتجاه المعاكس لأي آمال أن يتحقق السلام أو يكون مع الحلول الوسطى، وان كل هذه العدوانية لن تؤدي في النهاية إلا إلى مزيد من التوتر والحروب التي تؤثر بدورها على النمو الاقتصادي وعلى مشروعات التعاون بين الدول الأوروبية والدول العربية بل ويعزز مشاعر الكراهية والعنف المولد للتوترات.
إن الاحتجاجات الأوروبية على هذا التمادي الإسرائيلي في القتل والتهجير والتجويع لن تؤثر في الحقيقة وحدها على السياسات الإسرائيلية باتجاه وقف هذه الحرب الهمجية طالما انه لا يوجد أي رد حقيقي من الولايات المتحدة الأمريكية التي تمتلك الأوراق لإيقاف هذه الحرب والدفع نحو مفاوضات الحل السلمي في هذه المنطقة التي ابتليت بالحروب التي لا تتوقف منذ عام 1948 وإلى يومنا هذا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك