كان موضوع الريادة والابتكار في المجتمعات العلمية والجامعية العربية محور الدورة العاشرة للمنتدى العربي للبحث العلمي والتنمية المستدامة التي انعقدت في تونس، سبتمبر 2024؛ عقدت هذه الدورة في إطار الخطة الاستراتيجية العربية للبحث العلمي والتكنولوجيا والابتكار التي اعتمدتها القمة العربية الثامنة والعشرون المنعقدة في البحر الميت في عام 2017. في هذا اللقاء تداول الحاضرون واقع الريادة والابتكار وسبل تحفيزه في الدول العربية.
بهذه المناسبة تقول الدكتورة ادلي (مديرة قطاع الإحصاء ومجتمع المعلومات والتكنولوجيا في لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا – إسكوا) إن أحد التحديات التي تحول دون تطوير الريادة والابتكار في المنطقة العربية هو عدم ربط الابتكار بالعملية التنموية والأعمال الاقتصادية والاجتماعية، وحاجة مجال البحث والتطوير إلى جرعة أكبر من الاهتمام سواء من ناحية الأموال المرصودة أو من ناحية الأكاديميين. كذلك اشار عدد من المختصين الى غياب التمويل الكافي ووجود نقائص في البيئة الحاضنة التمكينية للبحث والابتكار وتشريعات غير ملائمة لتحفيزه.
في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه العالم العربي، يعتبر الابتكار والريادة من الأدوات الأساسية لتحقيق التنمية المستدامة ورفع مستوى المعيشة ومحاربة البطالة. تشير التجارب إلى أن التحديات في الوطن العربي لا تتمثل في قلة العقول أو الإمكانيات، بل تكمن في عدم وجود البيئة الحاضنة التي تمكّن هذه العقول من الاستفادة من الإمكانيات. في هذا المقال سوف نستعرض الأفكار والتجارب التي تهدف إلى بناء البيئة الحاضنة للابتكار والريادة، بالإضافة إلى العوامل الفكرية والسياسية المؤثرة.
قبل ان ندخل في هذا الاستعراض نتطرق إلى زيارة الرئيس الأمريكي ترامب (مايو 2025) وما تمخض عنها من نتائج تتعلق بالابتكار، ويمكن الاستفادة منها في تطوير القدرات التكنولوجية في المنطقة العربية (والخليجية بشكل خاص)، بما فيها خلق بيئة حاضنة لها. شملت الزيارة السعودية والإمارات وقطر، وتم توقيع اتفاقيات باستثمارات ضخمة تُقدّر بأكثر من 3.2 تريليونات دولار، شملت قطاعات استراتيجية كالدفاع، والطاقة، والتكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي. هذه الاتفاقيات سوف تتيح لدول الخليج استيراد 500 ألف وحدة سنويا من الرقائق المتقدمة لنماذج الذكاء الاصطناعي وتنمية القدرات في هذا المجال. كذلك شملت الاتفاقيات إنشاء صندوق استثمار في الطاقة بقيمة 5 مليارات دولار، وصندوق تكنولوجيا الطيران والدفاع بنفس القيمة. كما التزمت شركات مثل غوغل، وداتافولت، وإنفيديا، وغيرها، باستثمار 80 مليار دولار في مجالات التكنولوجيا، وأعلنت أوراكل عزمها استثمار 14 مليار دولار في السعودية على مدى 10 سنوات.
في البيئة الحالية اليوم فإن التنمية الاقتصادية الشاملة والمستدامة تعتمد على الابداع والابتكار الذي يرفع الانتاجية، ومن ناحية ثانيا تعتمد على السياسات التي تحدد من المستفيد من هذه التنمية. يمكن لهذه الاتفاقيات بين امريكا ودول الخليج أن تسهم في خلق فرص عمل جديدة، وتحفيز الابتكار وريادة الأعمال، بشرط ان تدعمها سياسات تخلق بيئة حاضنة تمكينية محفزة للابتكار، وسياسات لمحاربة البطالة ورفع مستوى المعيشة.
غير ان الاستفادة القصوى من مثل هذه الاتفاقيات تتطلب جهودًا متكاملة تشمل تحسين التعليم، توفير البنية التحتية، وضع سياسات داعمة للمواطن والمجتمع، وتعزيز الثقافة العلمية، مع تأكيد أهمية تحقيق الاستقرار السياسي وتعزيز قيم الديمقراطية والحرية الفكرية.
بالإضافة إلى ذلك يتطلب الأمر بناء البيئة الحاضنة التي تمكن من الاستفادة القصوى من التقدم التكنولوجي والمعرفي. تشمل هذه البيئة الثقافة العلمية ونشر الوعي بأهمية العلم والبحث العلمي في المجتمع، التعاون بين الشركات والجامعات والمؤسسات البحثية، توافر التمويل المادي، التشريعات والسياسات الداعمة للابتكار وحماية الحقوق الفكرية.
خلق هذه البيئة التي تمكن الاستفادة من الامكانات المتاحة، تتطلب قدرات مادية مثل البنية التحتية البحثية والانتاجية والتمويل، ولكن الاهم تتطلب نشر الوعي بأهمية العلم والبحث العلمي في المجتمع (الثقافة العلمية)، والعمل على تطوير وتعزيز التعليم النوعي الموجه نحو تعزيز التفكير النقدي والإبداعي واعمال العقل، مع التركيز على العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM). هذا يتطلب أن تتضمن المناهج الدراسية مواد مثل الفلسفة التي تشجع على طرح الفرضيات ومساءلتها، والبحث العلمي واهمية ثقافة الحوار سواء في الميدان العلمي او في المجال المجتمعي والفكري. كذلك تحتاج الدول العربية إلى الاهتمام بالتعاون بين الجامعات والمؤسسات البحثية وبناء شراكات دولية ترفد القدرات المحلية.
بشكل عام؛ فإن بناء البيئة الحاضنة للابتكار والتقدم العلمي تتجاوز التمويل والبنى التحتية البحثية والتعليم، فهي كذلك تقوم على اشاعة الاستقرار السياسي والاجتماعي، لذلك فإن عدم تجذر قيم الديمقراطية والحرية الفكرية الاكاديمية وحرية التعبير والفكر النقدي يمكن أن يؤثر سلبا على القدرات الإبداعية والابتكارية.
هناك معوقات مهمة أخرى طرحها الدكتور منيف الزعبي (نائب رئيس منظمة المجتمع العلمي العربي) وهي: «ان الابتكار، في الوقت الحاضر، لا يُعدّ مكوّنا أساسيا من الثقافة الجمعيّة في الدول العربية، وذلك لأسباب كثيرة منها غياب مفهوم العلم النفعي في المجتمعات العربية، وانعدام الثقافة العلمية عموما، وثقافة الدقة والاتقان خصوصا، والتي تمثل ركائز الثقافة العلمية الإبداعية الناهضة». معوق آخر يشير إليه الزعبي، هو «ان دوائر صنع القرار في أنظمة العلوم والتكنولوجيا والابتكار في الدول العربية تركز على المدخلات وبدرجة أقل على المخرجات، وقد حان الوقت لعكس هذا التوجّه، والتركيز على المخرجات والنتائج»، وكذلك تأثيرها المباشر وغير المباشر، وغير المقصود.
متى ما توافرت البيئة الحاضنة حينها لن تكون هناك مشكلة في التمويل، ويمكن ان يتم ذلك بتخصيص جزء من عائدات الموارد الطبيعية التي تتمتع بها الدول العربية، أو انشاء صناديق استثمارية تمول الابحاث والمشاريع الابتكارية، أو التعاون مع الشركات الكبرى في المنطقة أو عالميا لتوفير التمويل.
الخلاصة هي أن توافر الموارد المادية والبيئة الحاضنة مدعومة باستقرار سياسي واجتماعي معززا بالثقافة العلمية ومنظومة تعليم مناسبة وداعمة للحرية الفكرية وتشجيع الفكر النقدي هي مفاتيح النجاح في الجهود العربية لولوج عالم الإبداع والابتكار والريادة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك