بعد خروج «المملكة المتحدة»، من الاتحاد الأوروبي، أصبح من الضروري على الحكومات البريطانية المتعاقبة التفاوض على اتفاقيات تجارية جديدة مع دول وتكتلات اقتصادية حول العالم، إلا أن النتائج الأولية لهذه الاتفاقيات كانت مخيبة للآمال، إذ تعرضت لانتقادات بسبب محدودية نطاقها، وعدم قدرتها على تعزيز الاستثمارات الحيوية التي يحتاجها الاقتصاد البريطاني.
وفي يوليو 2024، آلت مهمة صياغة اتفاقيات تجارية جديدة إلى الحكومة العمالية برئاسة السير «كير ستارمر»، التي تسلمت السلطة. وبحلول أبريل 2025، وفي ظل وصف الاقتصاديين سياسات التعريفات الجمركية للرئيس الأمريكي «دونالد ترامب»، بأنها «قلبت عقودًا من معايير التجارة الدولية رأسًا على عقب»؛ نجحت الحكومة البريطانية سريعًا في إبرام ثلاث اتفاقيات مهمة مع كل من الولايات المتحدة، والهند، والاتحاد الأوروبي.
وعقب إبرامها الاتفاقيات مع ثلاثة من أبرز القوى الاقتصادية العالمية؛ أكدت «راشيل ريفز»، وزيرة الخزانة البريطانية، أن تركيز حكومتها الجديد ينصب الآن على توقيع اتفاقية تجارة حرة مع دول مجلس التعاون الخليجي، مع السعي لإنهاء عملية التفاوض التي انطلقت أول مرة في يونيو 2022.
وسجل «آدم بوتلين»، من «كلية لندن للاقتصاد»، كيف انهمكت الحكومة البريطانية خلال الأسابيع القليلة الماضية في «جولة من الصفقات التجارية»، والتي وصفتها الحكومة نفسها بأنها «تاريخية وبارزة». وردًا على فرض «ترامب»، لتعريفة جمركية بنسبة 10% على جميع الصادرات إلى الولايات المتحدة (كجزء من نظام التعريفات الجمركية العالمي الأوسع الذي طبقته واشنطن أوائل أبريل)؛ كان «ستارمر»، أول رئيس حكومة أجنبية يلتقي الرئيس الأمريكي؛ للتفاوض على شروط تعريفة جمركية جديدة، حيث وافق البيت الأبيض على خفض الرسوم الجمركية على واردات السيارات بريطانية الصنع، بالإضافة إلى رفع الرسوم الجمركية على الصادرات البريطانية من الصلب والألمنيوم.
وأعقب ذلك، إعلان بريطانيا رسميًا اتفاقية التجارة الحرة مع الهند، والتي خُفضت بموجبها الرسوم الجمركية على 90% من المنتجات البريطانية إلى الهند، ومن المتوقع زيادة التجارة الثنائية بمقدار 34 مليار دولار. وفي 19 مايو -بعد ستة أشهر من المفاوضات- تم التوصل إلى اتفاقية جديدة مع الاتحاد الأوروبي تُخفف قيود السفر بين الطرفين، وتُذلّل استيراد وتصدير المنتجات الغذائية والمشروبات، وتنص على حقوق وحصص صيد متبادلة لمدة 12 عامًا أخرى، والتي وصفتها شبكة «بي بي سي»، بأنها «تُمثّل أكبر اتفاقية بين الطرفين منذ خروج المملكة من الاتحاد الأوروبي عام 2020».
من جانبه، أوضح «مارك لاندلر»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، أن إبرام صفقات متتالية مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، يُظهر أن بريطانيا -في هذه الحقبة التي تشهد تصاعد المنافسات الجيواقتصادية – لم تكن مضطرة الى الاختيار بين أكبر شريكين تجاريين متعارضين، مضيفا أن الرغبة القوية لحكومة «ستارمر»، في توقيع المزيد من الاتفاقيات الاقتصادية؛ تظهر في إصرار وزيرة الخزانة، «راشيل ريفز»، على أن «الصفقة التالية»، ستضع إطارًا رسميًا لاتفاق مع شركاء بريطانيا التاريخيين في دول مجلس التعاون الخليجي.
ونظرًا لأن مجلس التعاون الخليجي هو سابع أكبر سوق تصدير للمملكة المتحدة حاليًا؛ فقد بلغت قيمة التجارة بينهما 57 مليار جنيه إسترليني سنويًا. ومن المتوقع أن يعزز تنفيذ اتفاقية التجارة الحرة هذه النسبة بنحو 16%، مع وجود فرصة لتعظيم التعاون القائم على التصنيع والطاقة المتجددة والأغذية والمشروبات، فضلًا عن تشجيع المزيد من الاستثمارات المتبادلة. ورغم أن هذه الاتفاقية ستكون ذات أثر واضح في خفض أو إلغاء التعريفات الجمركية؛ إلا أنه من المهم أيضًا تأكيد دورها في تبسيط اللوائح الجمركية، وتعزيز قطاع الخدمات لدى الطرفين، مما يسهم في تسهيل تدفق استثمارات أكبر بينهما.
وبدأت مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة بين «المملكة المتحدة»، و«دول الخليج»، في منتصف عام 2022. وقد خضعت هذه المفاوضات لعدة جولات من المحادثات، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. وفي يوليو 2024، أكد وزير الأعمال والتجارة، «جوناثان رينولدز»، أن التوصل إلى اتفاقية مع دول الخليج لا يزال يمثل أولوية قصوى ضمن أجندته الاقتصادية «الطموحة». واستُؤنفت المفاوضات المباشرة في سبتمبر من نفس العام، حيث زار وفد من دول مجلس التعاون الخليجي، «لندن»، في أكتوبر، تبعته زيارة لوفد بريطاني إلى الرياض في الشهر التالي لمواصلة المحادثات.
وفي أبريل 2025 – وخلال زيارته لسلطنة عمان وقطر – جدّد وزير الخارجية «ديفيد لامي»، التزام المملكة المتحدة، بمواصلة العملية التفاوضية. وصرّح مكتب مجلس الوزراء البريطاني عن «تحقيق تقدم جيد»، بعد مكالمة هاتفية بين رئيس الوزراء «كير ستارمر»، وولي العهد السعودي الأمير «محمد بن سلمان»، في وقت سابق من نفس الشهر. ومع تأكيد «ريفز»، أن إتمام مفاوضات الاتفاقية التي استمرت ثلاث سنوات، يُعد «محورًا رئيسيا»، في استراتيجية المملكة المتحدة التجارية؛ تبرز تساؤلات مهمة حول مضمون الاتفاقية وتأثيرها المحتمل.
ووفقًا لما وثّقته «لجنة التجارة والأعمال البريطانية»، فقد غطّت المفاوضات حتى الآن بين «مجلس التعاون الخليجي»، وبريطانيا، 23 مجالًا مختلفًا. كما أشار «المعهد المعتمد للتصدير والتجارة الدولية»، إلى أن «أحد الآثار المباشرة لاتفاقية التجارة الحرة، سيكون خفض أو إلغاء التعريفات الجمركية على السلع والخدمات الرئيسية»، مع استفادة الشركات البريطانية بشكل خاص من صادرات الأغذية والمشروبات والسيارات والأدوية. وفي المقابل، من المتوقع أن تزداد القدرة التنافسية لصادرات دول الخليج من الألمنيوم والطاقة والبتروكيماويات إلى المملكة المتحدة بفضل تخفيض الرسوم الجمركية.
وإلى جانب الرسوم الجمركية، ستتناول الاتفاقية كذلك قضايا التوافق التنظيمي، وتبسيط الإجراءات الجمركية. إلا أن «المعهد المعتمد»، يرى أن «التأثير الحقيقي» لها سيؤثر في قطاع الخدمات؛ نظرًا لتفوق المملكة المتحدة في مجالات الخدمات المهنية، والاستشارات المالية، والخبرة القانونية، والتعليم، في حين تسعى دول الخليج إلى تعزيز النمو في هذه المجالات. وبالتالي، قد توفر الاتفاقية مزيدًا من الفرص لمقدمي الخدمات البريطانيين من خلال تسهيل الوصول إلى مشاريع القطاع العام، والاعتراف القانوني بالمؤهلات المهنية، وتخفيف القيود المفروضة على ملكية الأعمال.
وفيما يتعلق بالآثار الإيجابية المحتملة لاتفاقية التجارة الحرة بين «الخليج»، و«المملكة المتحدة»، ترى الأخيرة «أن الاتفاق قد يرفع حجم التجارة الثنائية بنسبة تصل إلى 16%، وهو ما يعادل نحو 8.6 مليارات جنيه إسترليني إضافية سنويًا. وبالنظر إلى أن الاقتصاد البريطاني نما بنسبة 0.7% فقط خلال الربع الأول من عام 2025، فإن توقع إضافة نحو 2.1 مليار دولار إلى الاقتصاد على المدى الطويل؛ يعد أمرًا مبشرًا لحكومة ستارمر. أما بالنسبة الى دول الخليج، فإن تقليل الحواجز أمام الاستثمارات في المملكة المتحدة، سيتكامل مع فرص متزايدة للاستفادة من خبرات بريطانيا الرائدة في التقنيات المتقدمة في مجال الطاقة المتجددة، خصوصًا تلك المتعلقة باحتجاز الكربون، وتوظيف الهيدروجين كمصدر بديل للطاقة».
ومع تأكيد «ريفز»، أن «المملكة المتحدة» حققت «أول وأفضل صفقة» مع إدارة ترامب، و«أفضل صفقة» مع الاتحاد الأوروبي خارج الكتلة، إلى جانب «أفضل اتفاقية تجارية» مع الهند، أصبحت البلاد -بحسب قولها- «وجهة جاذبة للاستثمار والأعمال» بفضل امتلاكها صفقات تفضيلية مع أكبر اقتصادات العالم. وبدوره، سيعزز هذا الزخم الإيجابي جهود إتمام الاتفاقية التجارية مع دول مجلس التعاون الخليجي.
ورغم غياب إطار زمني رسمي لإنهاء الاتفاق من جانب أي من الطرفين، يؤكد «المعهد المعتمد»، أن الشركات البريطانية جاهزة للاستفادة من بيئة تجارية أكثر تكاملاً مع دول الخليج. ومن الجدير بالذكر أن إتمام هذه الاتفاقية لن يمثل نهاية الحوار التجاري بين الجانبين، إذ تشير وكالة «بلومبرج»، إلى أن بعض دول الخليج قد تسعى لعقد اتفاقيات تجارية ثنائية إضافية، مثل اتفاقيات الشراكة الاقتصادية الشاملة (CEPA)، لتشمل مجالات التجارة والاستثمار التي لا تغطيها اتفاقية التجارة الحرة مع دول مجلس التعاون الخليجي. وبالتالي، سيشكل إتمام هذه الاتفاقية جسراً أساسياً لتعزيز الشراكات الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية والاجتماعية القائمة والمتطورة بين المملكة المتحدة ودول الخليج.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك