منذ أكتوبر2023، وفرت معظم الدول الغربية غطاء سياسيا لإسرائيل يحول دون إدانتها دوليا، أو مساءلتها عن انتهاكاتها الجسيمة للقانون الدولي، بما في ذلك جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتُكبت بحق المدنيين الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية المحتلة، حيث لم تتجاوز ردود فعل هذه الدول سوى اعتراضات شكلية، دون اتخاذ خطوات حقيقية ملموسة لوقف هذه الجرائم، أو التخفيف من حجم المعاناة التي تطال ملايين الفلسطينيين.
وفي هذا السياق، لم يكن فرض إسرائيل حصارًا شاملًا على دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة في مارس 2025، «كافيًا»، لدفع العواصم الغربية إلى تحرك فعّال لوقف الكارثة الإنسانية في القطاع. ومع ذلك، فإن التصعيد العسكري الإسرائيلي خلال مايو، والاستيلاء على المزيد من الأراضي الفلسطينية؛ مهّدا لتحولات لافتة في بعض المواقف الغربية، حيث سمح ائتلاف «بنيامين نتنياهو»، اليميني المتطرف بمرور مساعدات محدودة، في محاولة لتخفيف الضغوط، دون أن يقلل ذلك من فداحة الكارثة، أو ينفي ازدواجية المعايير الدولية.
من جانبها، كتبت «ألكسندرا شارب»، في مجلة «فورين بوليسي»، عن كيفية «اضطلاع بريطانيا بهذا التحرك»، حيث أدان رئيس وزرائها «كير ستارمر»، و«ديفيد لامي»، وزير خارجيتها علنًا تصرفات إسرائيل، واستدعيا سفيرتها لدى المملكة المتحدة، وتم تعليق المفاوضات التجارية الجارية، وفرض عقوبات على المستوطنين غير الشرعيين. ووفقًا لـ«باتريك وينتور»، و«إيما هاريسون»، في صحيفة «الجارديان»، فقد تدهورت العلاقات البريطانية الإسرائيلية إلى «أسوأ حالة لها منذ عقود».
ومع إصدار بريطانيا، «بيانًا مشتركًا» -إلى جانب فرنسا، وكندا- يحذر قوات الاحتلال من مغبة استمرار هجماتها العسكرية «الوحشية» على غزة؛ أوضح «أندرياس كريج»، من «كينجز كوليدج لندن»، كيف تشكل هذه التحذيرات سابقة يجب على الحكومات الغربية الأخرى أن تحذو حذوها.
علاوة على ذلك، شهدت جلسة «مجلس العموم» البريطاني في 20 مايو، ترديد عدد من أعضائه لهتافات تتهم إسرائيل بارتكاب «إبادة جماعية»، أثناء إلقاء «لامي» كلمته أمام المجلس. وطالب الأعضاء، الحكومة باتخاذ خطوات حاسمة، تشمل «وقف جميع مبيعات الأسلحة إلى إسرائيل»، و«فرض عقوبات تستهدف وزراء في حكومتها لدورهم المباشر في ارتكاب جرائم حرب». وفي ظل هذا الوضع، يبرز التساؤل حول طبيعة الإجراءات التي يمكن اتخاذها في حال واصلت إسرائيل رفضها الانصياع للضغوط الدولية. كما أن امتناع بريطانيا عن الاعتراف بما يتعرض له الفلسطينيون من قتل ومعاناة بوصفه «إبادة جماعية»، وترددها في فرض عقوبات مباشرة على المسؤولين الإسرائيليين، يعد مؤشرا آخر على حدود الشجاعة الأخلاقية التي لا تزال تفتقدها الحكومات الغربية الرائدة، التي لا تزال عاجزة عن الاستجابة بحزم لجرائم الحرب الموثقة، لواحدة من أشد الأزمات الإنسانية في العصر الحديث.
وعلى نطاق واسع، تناولت وسائل الإعلام والتحليلات الغربية، كيف أسهم الحصار الإسرائيلي على المساعدات الإنسانية العاجلة إلى غزة، في تعميق واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في المنطقة. وقد ترافق ذلك مع تصعيد عسكري غير مسبوق بدأه الجيش الإسرائيلي في 5 مايو، أعلن خلاله نيته احتلال غزة بالكامل، وهو ما أسفر عن استشهاد مئات الفلسطينيين، وسط تحذيرات متزايدة من كارثة إنسانية أوسع نطاقًا.
وعلى الرغم من إذعان «نتنياهو»، لبعض الضغوط الأمريكية والأوروبية، للسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، بعد أشهر من الرفض والتعطيل؛ فإن الاستجابة ظلت محدودة للغاية؛ إذ لم تدخل سوى خمس شاحنات تابعة للأمم المتحدة في 19 مايو، في حين بلغ عدد الشاحنات التي وصلت في اليوم التالي نحو 100 فقط، وهو رقم لا يزال بعيدًا عن نحو 600 شاحنة كانت تدخل القطاع يوميًا خلال فترة وقف إطلاق النار المؤقتة في وقت سابق من هذا العام.
ونتيجةً لذلك، وصف «توم فليتشر»، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، حجم المساعدات التي سُمح بدخولها إلى غزة، بأنها «قطرة في بحر ما هو مطلوب بشدة»، مشيرًا إلى أن ما يجري لا يرقى إلى تلبية الحد الأدنى من الاحتياجات الإنسانية، وكان من بين عدد من كبار مسؤولي الشؤون الإنسانية الذين اتهموا إسرائيل بفرض ظروف غير إنسانية على المدنيين الفلسطينيين «بشكل متعمد وفج». وعلى وجه الخصوص، سلط الإعلام الغربي الضوء على التحذيرات المتعلقة بمعاناة نحو 14 ألف رضيع فلسطيني من سوء تغذية حاد، وتعرضهم لخطر الموت الوشيك، ما لم تصل إليهم المساعدات الطبية بشكل عاجل.
ويبدو أن حجم الكارثة المتفاقمة، التي بلغت مستويات غير مسبوقة من الموت والدمار الشامل للمدنيين الفلسطينيين، قد شكّل أخيرًا الخط الأحمر الذي دفع بعض الحكومات الغربية، إلى اتخاذ خطوات عقابية، وإن كانت محدودة، ضد الحكومة الإسرائيلية المتطرفة.
ففي «المملكة المتحدة»، خرج نحو 600 ألف متظاهر في 17 مايو في مسيرة حاشدة جابت وسط لندن وصولًا إلى مقر الحكومة، احتجاجًا على الدعم الرسمي الممنوح لإسرائيل. وفي تحوّل لافت في الخطاب السياسي، وصف رئيس الوزراء «كير ستارمر»، الوضع في غزة بأنه «لا يُطاق»، بينما اعتبر وزير خارجيته، للمرة الأولى، أن تصرفات إسرائيل «غير مبررة أخلاقيًّا». وفيما وصفته شبكة «بي بي سي»، بأنه «تبادل حاد للاتهامات»، داخل «مجلس العموم» في 20 مايو، أدان «لامي»، تقييد إسرائيل للمساعدات المقدمة لسكان غزة، باعتباره «إهانة لقيم الشعب البريطاني»، و«غير متوافق مع مبادئ البلاد في العلاقات الدبلوماسية الثنائية». وخلال الجلسة، التي تخللتها هتافات «عار»، أطلقها عدد من النواب، استشهد بتعليقات أدلى بها «بيسلئيل سموتريتش»، وزير المالية الإسرائيلي المتطرف بأن غزة «ستُدمر بالكامل»، وسيُجبر سكانها على المغادرة «بأعداد كبيرة إلى دول أخرى»، قائلاً للبرلمانيين «يجب أن نسمي هذا باسمه... «إنه تطرف، إنه خطير، إنه مقزز، إنه وحشي».
وفي أعقاب استدعاء السفيرة الإسرائيلية لدى بريطانيا، وتعليق مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة، وفرض بعض العقوبات على المستوطنين غير الشرعيين في الضفة الغربية؛ دعا أعضاء من مختلف الأحزاب السياسية البريطانية، حكومة «ستارمر»، إلى اتخاذ مزيد من الخطوات لمحاسبة إسرائيل، بما يشمل وقف جميع عمليات نقل الأسلحة، وفرض عقوبات صريحة على المسؤولين الإسرائيليين المتورطين في جرائم حرب ضد الفلسطينيين في غزة.
وفي هذا السياق، أدانت النائبة العمالية، «ابتسام محمد»، تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي، التي عبّر فيها «صراحة» عن نيته تنفيذ «تطهير عرقي». كما طالبت النائبتان العماليّتان، «روزينا خان»، و«ياسمين قريشي»، بفرض حظر شامل على الأسلحة المرسلة إلى إسرائيل، ومعاقبة المسؤولين الإسرائيليين. وانضمت إلى هذه الدعوات أحزاب المعارضة الأخرى، بما في ذلك «المحافظين»، و«الديمقراطي الليبرالي»، و«الوطني الاسكتلندي».
من جانبه، عبّر الوزير المحافظ السابق، «كيت مالثاوس»، عن خيبة أمله إزاء تجاهل الحكومة البريطانية لغضب النواب واستيائهم المتزايد، مؤكدًا أن محاولات دفع الوزراء لاتخاذ موقف فعّال لم تسفر حتى الآن عن أي استجابة سياسية ملموسة، مشيرا إلى أن المسؤولين الإسرائيليين، «لا يُظهرون أي اهتمام بمواقف النواب البريطانيين».. متسائلًا: «هل علينا أن نتوسل من أجل حياة الأطفال الفلسطينيين قبل أن تتحرك الحكومة وتتخذ إجراءً ملموسًا، ضد نتنياهو وحلفائه المتشددين؟».
وفي سياق متصل، طالب النائب المستقل، وزعيم حزب العمال السابق، «جيريمي كوربين»، بفتح تحقيق عام بشأن «دور بريطانيا في الإبادة الجماعية»، مشددًا على أن الناخبين البريطانيين، «يجب أن يعرفوا إلى مدى تورطت المملكة المتحدة في الجرائم ضد الإنسانية».
وجاءت هذه المواقف في أعقاب «بيان مشترك»، أصدره رئيس الوزراء البريطاني، إلى جانب نظيريه الكندي «مارك كارني»، والفرنسي «إيمانويل ماكرون»، دعوا فيه إسرائيل إلى «وقف حربها في غزة، و«السماح فورًا بإدخال المساعدات الإنسانية». إلا أن «كريج»، أوضح أن هذه البيانات «لن تغيّر سلوك إسرائيل على الأرض بشكل مباشر»، لكنها توسّع من «الخطاب الدولي»، وتُيسّر على الحكومات الأخرى اتخاذ مواقف علنية ضد الانتهاكات الإسرائيلية.
وفي السياق الأوروبي، أقرت «كايا كالاس»، مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، بأن الحرب والتدمير الذي تقوم به إسرائيل، أوجد ظروفًا «كارثية» للمدنيين الفلسطينيين. واستجابةً لطلب وزير الخارجية الهولندي، بدأ وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي بمراجعة اتفاقياتهم التجارية مع إسرائيل؛ بل إن وزيرة الخارجية السويدية، «ماريا مالمر ستينرجارد»، أعلنت أن بلادها ستدفع باتجاه فرض عقوبات أوروبية على الوزراء الإسرائيليين المتورطين في تجويع سكان غزة عمدًا.
ورغم هذه التطورات، لا تزال بريطانيا متأخرة في ردها على جرائم الحرب الإسرائيلية. وأشارت «ألكسندرا روجرز»، من شبكة «سكاي نيوز»، إلى تردد وزير الخارجية البريطاني «ديفيد لامي»، في وصف ما يحدث بـ«الإبادة الجماعية»، على الرغم من صدور مذكرات اعتقال من «المحكمة الجنائية الدولية»، بحق نتنياهو ووزير دفاعه السابق «يوآف جالانت»، بناءً على هذه التهم.
وبينما استهدفت العقوبات البريطانية بعض المستوطنين غير الشرعيين في الضفة الغربية، تشمل القيود المالية، وحظر السفر؛ أشار «وينتور»، و«هاريسون»، إلى تراجع «لامي»، عن فرض عقوبات على وزير المالية الإسرائيلي «بتسلئيل سموتريتش»، ووزير الأمن القومي «إيتمار بن غفير»، رغم مواقفهما المتطرفة. وفي دفاعه في مجلس العموم، قال «لامي»، إن تعليق بعض مبيعات الأسلحة إلى إسرائيل، يعني أن «لا أحد منا متواطئ في أي أعمال تنتهك القانون الإنساني الدولي»، مما يدل على أن تركيز الحكومة البريطانية لا يزال على تجنب التواطؤ المباشر، بدلاً من مواجهته بجدّية.
وفي السياق ذاته، أشار «كريج»، إلى أن «مفتاح تغيير سلوك إسرائيل لا يزال بيد الولايات المتحدة». وأكدت «شارب»، أن «إدارة ترامب»، رغم مواقفها السابقة، كانت «أقل صراحة» في انتقاد إسرائيل، على الرغم من تقارير تفيد بأن الرئيس الأمريكي نفسه «محبط»، من صور الأطفال الفلسطينيين الذين يعانون من الجوع، وقد حذر القيادة الإسرائيلية من احتمال «التخلي»، عن دعمها إذا لم تستجب للمطالب الأمريكية. ومع ذلك، لم يبدِ «نتنياهو»، أي اهتمام بانتقادات بريطانيا أو فرنسا أو كندا، بل حثّ الدول الأوروبية على تبنّي «رؤية ترامب» لإنهاء الحرب في غزة.
وفي خضم تصاعد الإدانة الغربية لحرب إسرائيل في غزة، كان هناك تصعيد أيضًا من جانب مؤيدي قوات الاحتلال. وانتقدت «بريتي باتيل»، وزيرة الداخلية البريطانية السابقة، ووزيرة الخارجية في حكومة الظل، «الكلمات القوية»، التي استخدمتها حكومة «ستارمر»، قائلة: إنها «لن تجدي نفعًا» في حل الأزمة، محذّرة من احتمال أن يكون الموقف البريطاني ناتجًا عن تأثير، أو دعم غير مباشر من حركة حماس، التي تُصنّفها بريطانيا كمنظمة إرهابية.
ورغم أن «وينتور»، و«هاريسون»، لاحظا استخدام وزير الخارجية البريطاني مؤخرًا لغة غير معتادة، منذ بدء التصعيد في غزة في أكتوبر2023 - كقوله إننا دخلنا «مرحلة مظلمة جديدة في هذه الحرب»- إلا أنه يبقى من غير المؤكد ما إذا كانت حكومته ستستجيب لنداءات برلمانيين، مثل «مالثاوس»، الذين طالبوا بإظهار «الشجاعة، والسلطة الأخلاقية»، لمعارضة حرب «نتنياهو»، وإنقاذ أرواح المدنيين الفلسطينيين، بمن فيهم الأطفال المهددون بالمجاعة.
ورغم تأكيد «كريج»، أن المواقف الجديدة من بريطانيا وفرنسا وكندا، قد تُحدث آثارًا طويلة الأمد على صورة إسرائيل كـ«حليف ديمقراطي» في الشرق الأوسط؛ إلا أن هذه التصريحات، لم تسهم في تخفيف المعاناة المروعة لمئات الآلاف من سكان غزة، الذين ما زالوا يواجهون ظروفًا إنسانية قاسية، دون تلقي أي مساعدات خارجية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك