العدد : ١٧٢٣٢ - الأربعاء ٢٨ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠١ ذو الحجة ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢٣٢ - الأربعاء ٢٨ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠١ ذو الحجة ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

ثقافة التبرع بالأعضاء.. حياة تنبض في أجساد الآخرين

بقلم: نبيلة رجب

الاثنين ٢٦ مايو ٢٠٢٥ - 02:00

ليس‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬غاب‭ ‬رحل‭ ‬تماما‭. ‬بعض‭ ‬القلوب‭ ‬تستمر‭ ‬في‭ ‬النبض‭.. ‬لكن‭ ‬في‭ ‬صدور‭ ‬الآخرين‭.‬

وسط‭ ‬عالم‭ ‬مليء‭ ‬بالتحولات‭ ‬والصعوبات،‭ ‬تبقى‭ ‬بعض‭ ‬القيم‭ ‬الإنسانية‭ ‬ثابتة‭ ‬لا‭ ‬تتغير،‭ ‬على‭ ‬رأسها‭ ‬التضامن‭ ‬والعطاء‭. ‬وفي‭ ‬خضم‭ ‬هذا‭ ‬الزخم،‭ ‬يتجلى‭ ‬التبرع‭ ‬بالأعضاء‭ ‬كأحد‭ ‬أرقى‭ ‬صور‭ ‬الإنسانية،‭ ‬حيث‭ ‬يمنح‭ ‬الأمل‭ ‬والحياة‭ ‬لمن‭ ‬هم‭ ‬في‭ ‬أمس‭ ‬الحاجة‭ ‬إليها‭. ‬إنه‭ ‬قرار‭ ‬يحمل‭ ‬في‭ ‬طياته‭ ‬معاني‭ ‬الرحمة‭ ‬والإيثار،‭ ‬إذ‭ ‬يمنح‭ ‬الحياة‭ ‬لمن‭ ‬هو‭ ‬على‭ ‬حافة‭ ‬فقدها‭.‬

لكن،‭ ‬رغم‭ ‬أهميته،‭ ‬مازال‭ ‬التبرع‭ ‬بالأعضاء‭ ‬يواجه‭ ‬تحديات‭ ‬عدة‭ ‬في‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬العربية‭ ‬بصورة‭ ‬عامة‭.‬

عندما‭ ‬نفكر‭ ‬في‭ ‬التبرع‭ ‬بالأعضاء،‭ ‬قد‭ ‬يتبادر‭ ‬إلى‭ ‬الذهن‭ ‬الجانب‭ ‬الطبي‭ ‬فقط،‭ ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬أعمق‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬بكثير‭. ‬إنه‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬إجراء‭ ‬طبي،‭ ‬بل‭ ‬رسالة‭ ‬خالدة‭ ‬بأن‭ ‬العطاء‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتجاوز‭ ‬حدود‭ ‬الحياة،‭ ‬وأن‭ ‬التضامن‭ ‬الإنساني‭ ‬لا‭ ‬يقف‭ ‬عند‭ ‬حدود‭ ‬الجسد‭.‬

في‭ ‬مجتمع‭ ‬مثل‭ ‬البحرين،‭ ‬حيث‭ ‬تتجاور‭ ‬القيم‭ ‬الدينية‭ ‬مع‭ ‬مظاهر‭ ‬التقدم‭ ‬الصحي‭ ‬والتقني،‭ ‬قد‭ ‬تبدو‭ ‬فكرة‭ ‬التبرع‭ ‬بالأعضاء‭ ‬محل‭ ‬تردد‭ ‬عند‭ ‬البعض‭. ‬فهناك‭ ‬من‭ ‬يرى‭ ‬فيها‭ ‬خطوة‭ ‬نبيلة‭ ‬وشجاعة،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يتساءل‭ ‬حول‭ ‬مشروعيتها‭ ‬الدينية‭ ‬أو‭ ‬أثرها‭ ‬الأخلاقي‭.‬

وهذا‭ ‬التردد‭ ‬مفهوم،‭ ‬طالما‭ ‬أنه‭ ‬نابع‭ ‬من‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬الفهم‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬رفض‭ ‬قاطع‭. ‬لكن‭ ‬وسط‭ ‬هذه‭ ‬التساؤلات،‭ ‬تظل‭ ‬الحقيقة‭ ‬واضحة‭: ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬إنساني‭ ‬خالص،‭ ‬يمكن‭ ‬لهذا‭ ‬القرار‭ ‬أن‭ ‬يصنع‭ ‬فرقا‭ ‬بين‭ ‬الحياة‭ ‬والموت،‭ ‬وأن‭ ‬يعيد‭ ‬الأمل‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬تقطعت‭ ‬به‭ ‬السبل‭.‬

إيماني‭ ‬بأهمية‭ ‬التبرع‭ ‬بالأعضاء‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لحظة‭ ‬عابرة‭ ‬أو‭ ‬قرارًا‭ ‬لحظيا‭. ‬منذ‭ ‬سنوات،‭ ‬قررت‭ ‬التسجيل‭ ‬كمتبرعة‭ ‬بالأعضاء‭ ‬بعد‭ ‬الوفاة،‭ ‬وأحمل‭ ‬بطاقتي‭ ‬في‭ ‬محفظتي‭ ‬أينما‭ ‬ذهبت‭. ‬لم‭ ‬أعتبر‭ ‬الأمر‭ ‬مسؤولية‭ ‬إنسانية‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬واجبا‭ ‬نحو‭ ‬من‭ ‬قد‭ ‬يحتاج‭ ‬إليَّ‭ ‬يوما‭. ‬أخبرت‭ ‬أفراد‭ ‬أسرتي‭ ‬الصغيرة‭ ‬بهذا‭ ‬القرار‭ ‬ليكونوا‭ ‬على‭ ‬دراية،‭ ‬إذا‭ ‬جاء‭ ‬يوم‭ ‬يحتاج‭ ‬فيه‭ ‬أحدهم‭ ‬إلى‭ ‬اتخاذ‭ ‬قرار‭ ‬نيابة‭ ‬عني‭.‬

هذه‭ ‬ليست‭ ‬قصة‭ ‬شخصية‭ ‬فريدة،‭ ‬بل‭ ‬دعوة‭ ‬إلى‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬قيمة‭ ‬أن‭ ‬يظل‭ ‬جزء‭ ‬منك‭ ‬حيا‭ ‬بعد‭ ‬رحيلك‭.‬

لا‭ ‬يمكنني‭ ‬أن‭ ‬أنسى‭ ‬تلك‭ ‬الحادثة‭ ‬المؤلمة‭ ‬التي‭ ‬مرت‭ ‬بها‭ ‬صديقة‭ ‬لي‭ ‬من‭ ‬إحدى‭ ‬الدول‭ ‬العربية،‭ ‬حين‭ ‬فقدت‭ ‬شقيقتها‭ ‬أثناء‭ ‬انتظارها‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬كلية‭. ‬كانت‭ ‬تعيش‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬الخبر‭ ‬السعيد‭ ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬تبرع‭ ‬لها‭ ‬بالعضو‭ ‬الذي‭ ‬سينقذ‭ ‬حياتها‭. ‬لكن‭ ‬مع‭ ‬مرور‭ ‬الأيام‭ ‬وانعدام‭ ‬التبرعات،‭ ‬تدهورت‭ ‬حالتها‭ ‬الصحية‭ ‬تدريجيا‭ ‬حتى‭ ‬فقدت‭ ‬حياتها‭.‬

هذه‭ ‬القصة‭ ‬تعيد‭ ‬إلى‭ ‬الأذهان‭ ‬أن‭ ‬التردد‭ ‬في‭ ‬اتخاذ‭ ‬قرار‭ ‬التبرع‭ ‬قد‭ ‬يحرم‭ ‬شخصا‭ ‬من‭ ‬فرصة‭ ‬جديدة‭ ‬للحياة‭. ‬لعلها‭ ‬تكون‭ ‬دعوة‭ ‬صادقة‭ ‬إلى‭ ‬التفكير‭ ‬بجدية‭ ‬في‭ ‬أهمية‭ ‬التسجيل‭ ‬كمتبرعين‭.‬

في‭ ‬البحرين،‭ ‬جاءت‭ ‬خطوة‭ ‬إيجابية‭ ‬من‭ ‬وزارة‭ ‬الصحة‭ ‬بإطلاق‭ ‬منصة‭ ‬‮«‬ومن‭ ‬أحياها‮»‬‭ ‬لتسهيل‭ ‬التسجيل‭ ‬للتبرع‭ ‬بالأعضاء‭. ‬هذه‭ ‬المنصة‭ ‬تمثل‭ ‬نقلة‭ ‬نوعية‭ ‬في‭ ‬تسهيل‭ ‬العملية‭ ‬وتوفير‭ ‬المعلومات‭ ‬بطريقة‭ ‬ميسرة‭. ‬المبادرة‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬تعزيز‭ ‬الوعي‭ ‬المجتمعي‭ ‬وضمان‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬القرار‭ ‬مبنيا‭ ‬على‭ ‬معرفة‭ ‬حقيقية‭ ‬ودراية‭ ‬كافية‭.‬

ورغم‭ ‬هذه‭ ‬الجهود،‭ ‬يبقى‭ ‬الوعي‭ ‬المجتمعي‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬دفعة‭ ‬قوية؛‭ ‬فالقصص‭ ‬الواقعية‭ ‬والأمثلة‭ ‬الحية‭ ‬تملك‭ ‬تأثيرا‭ ‬يفوق‭ ‬أي‭ ‬حملة‭ ‬توعوية‭ ‬تقليدية‭.‬

ربما‭ ‬تكون‭ ‬الحملات‭ ‬المعروفة‭ ‬مفيدة،‭ ‬لكنها‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬وحدها‭ ‬كافية‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬التغيرات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والثقافية‭. ‬نحن‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬تجديد‭ ‬الخطاب‭ ‬وجعله‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬الناس،‭ ‬وإشراك‭ ‬الشخصيات‭ ‬المؤثرة‭ ‬والمحبوبة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬لنقل‭ ‬الرسالة‭ ‬بأسلوب‭ ‬حيّ‭. ‬يمكن‭ ‬أيضا‭ ‬أن‭ ‬يتجسد‭ ‬التغيير‭ ‬في‭ ‬إدراج‭ ‬قصص‭ ‬ملهمة‭ ‬ضمن‭ ‬المناهج‭ ‬الدراسية،‭ ‬أو‭ ‬عبر‭ ‬مشاريع‭ ‬تفاعلية‭ ‬على‭ ‬منصات‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭.‬

أحيانا،‭ ‬تضعنا‭ ‬الحياة‭ ‬أمام‭ ‬مواقف‭ ‬لم‭ ‬نتخيلها‭ ‬من‭ ‬قبل‭. ‬ماذا‭ ‬لو‭ ‬كنت‭ ‬أنت‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬عضو‭ ‬جديد‭ ‬ينقذ‭ ‬حياتك؟‭ ‬ألن‭ ‬تأمل‭ ‬حينها‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يمد‭ ‬لك‭ ‬يد‭ ‬العون؟

إن‭ ‬التفكير‭ ‬بهذه‭ ‬الطريقة‭ ‬يجعلنا‭ ‬ندرك‭ ‬أن‭ ‬التبرع‭ ‬بالأعضاء‭ ‬مسؤولية‭ ‬تتطلب‭ ‬وعيا‭ ‬إنسانيا،‭ ‬لا‭ ‬موقفا‭ ‬عاطفيا‭ ‬عابرا‭.‬

كل‭ ‬ما‭ ‬نحتاج‭ ‬إليه‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬التبرع‭ ‬بالأعضاء‭ ‬حيا،‭ ‬صادقا،‭ ‬ومرنا‭ ‬بما‭ ‬يكفي‭ ‬ليصل‭ ‬إلى‭ ‬الجميع‭. ‬فالقيمة‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬القلوب،‭ ‬وما‭ ‬ينقصها‭ ‬أحيانا‭ ‬ليس‭ ‬القناعة،‭ ‬بل‭ ‬فرصة‭ ‬التعبير‭.‬

إن‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬جسدك‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يمنح‭ ‬حياة‭ ‬جديدة،‭ ‬فربما‭ ‬يكون‭ ‬أجمل‭ ‬ما‭ ‬تتركه‭ ‬بعدك‭.. ‬أن‭ ‬تُكمل‭ ‬حياة‭ ‬شخص‭ ‬آخر‭.‬

 

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا