ليس كل من غاب رحل تماما. بعض القلوب تستمر في النبض.. لكن في صدور الآخرين.
وسط عالم مليء بالتحولات والصعوبات، تبقى بعض القيم الإنسانية ثابتة لا تتغير، على رأسها التضامن والعطاء. وفي خضم هذا الزخم، يتجلى التبرع بالأعضاء كأحد أرقى صور الإنسانية، حيث يمنح الأمل والحياة لمن هم في أمس الحاجة إليها. إنه قرار يحمل في طياته معاني الرحمة والإيثار، إذ يمنح الحياة لمن هو على حافة فقدها.
لكن، رغم أهميته، مازال التبرع بالأعضاء يواجه تحديات عدة في مجتمعاتنا العربية بصورة عامة.
عندما نفكر في التبرع بالأعضاء، قد يتبادر إلى الذهن الجانب الطبي فقط، لكنه في الحقيقة أعمق من ذلك بكثير. إنه ليس مجرد إجراء طبي، بل رسالة خالدة بأن العطاء يمكن أن يتجاوز حدود الحياة، وأن التضامن الإنساني لا يقف عند حدود الجسد.
في مجتمع مثل البحرين، حيث تتجاور القيم الدينية مع مظاهر التقدم الصحي والتقني، قد تبدو فكرة التبرع بالأعضاء محل تردد عند البعض. فهناك من يرى فيها خطوة نبيلة وشجاعة، وهناك من لا يزال يتساءل حول مشروعيتها الدينية أو أثرها الأخلاقي.
وهذا التردد مفهوم، طالما أنه نابع من رغبة في الفهم وليس من رفض قاطع. لكن وسط هذه التساؤلات، تظل الحقيقة واضحة: من منطلق إنساني خالص، يمكن لهذا القرار أن يصنع فرقا بين الحياة والموت، وأن يعيد الأمل إلى من تقطعت به السبل.
إيماني بأهمية التبرع بالأعضاء لم يكن لحظة عابرة أو قرارًا لحظيا. منذ سنوات، قررت التسجيل كمتبرعة بالأعضاء بعد الوفاة، وأحمل بطاقتي في محفظتي أينما ذهبت. لم أعتبر الأمر مسؤولية إنسانية فقط، بل واجبا نحو من قد يحتاج إليَّ يوما. أخبرت أفراد أسرتي الصغيرة بهذا القرار ليكونوا على دراية، إذا جاء يوم يحتاج فيه أحدهم إلى اتخاذ قرار نيابة عني.
هذه ليست قصة شخصية فريدة، بل دعوة إلى التفكير في قيمة أن يظل جزء منك حيا بعد رحيلك.
لا يمكنني أن أنسى تلك الحادثة المؤلمة التي مرت بها صديقة لي من إحدى الدول العربية، حين فقدت شقيقتها أثناء انتظارها للحصول على كلية. كانت تعيش على أمل أن يأتي الخبر السعيد بأن هناك من تبرع لها بالعضو الذي سينقذ حياتها. لكن مع مرور الأيام وانعدام التبرعات، تدهورت حالتها الصحية تدريجيا حتى فقدت حياتها.
هذه القصة تعيد إلى الأذهان أن التردد في اتخاذ قرار التبرع قد يحرم شخصا من فرصة جديدة للحياة. لعلها تكون دعوة صادقة إلى التفكير بجدية في أهمية التسجيل كمتبرعين.
في البحرين، جاءت خطوة إيجابية من وزارة الصحة بإطلاق منصة «ومن أحياها» لتسهيل التسجيل للتبرع بالأعضاء. هذه المنصة تمثل نقلة نوعية في تسهيل العملية وتوفير المعلومات بطريقة ميسرة. المبادرة تهدف إلى تعزيز الوعي المجتمعي وضمان أن يكون القرار مبنيا على معرفة حقيقية ودراية كافية.
ورغم هذه الجهود، يبقى الوعي المجتمعي بحاجة إلى دفعة قوية؛ فالقصص الواقعية والأمثلة الحية تملك تأثيرا يفوق أي حملة توعوية تقليدية.
ربما تكون الحملات المعروفة مفيدة، لكنها لم تعد وحدها كافية في ظل التغيرات الاجتماعية والثقافية. نحن بحاجة إلى تجديد الخطاب وجعله أقرب إلى الناس، وإشراك الشخصيات المؤثرة والمحبوبة في المجتمع لنقل الرسالة بأسلوب حيّ. يمكن أيضا أن يتجسد التغيير في إدراج قصص ملهمة ضمن المناهج الدراسية، أو عبر مشاريع تفاعلية على منصات التواصل الاجتماعي.
أحيانا، تضعنا الحياة أمام مواقف لم نتخيلها من قبل. ماذا لو كنت أنت بحاجة إلى عضو جديد ينقذ حياتك؟ ألن تأمل حينها أن يكون هناك من يمد لك يد العون؟
إن التفكير بهذه الطريقة يجعلنا ندرك أن التبرع بالأعضاء مسؤولية تتطلب وعيا إنسانيا، لا موقفا عاطفيا عابرا.
كل ما نحتاج إليه اليوم هو أن يبقى الحديث عن التبرع بالأعضاء حيا، صادقا، ومرنا بما يكفي ليصل إلى الجميع. فالقيمة موجودة في القلوب، وما ينقصها أحيانا ليس القناعة، بل فرصة التعبير.
إن كان في جسدك ما يمكن أن يمنح حياة جديدة، فربما يكون أجمل ما تتركه بعدك.. أن تُكمل حياة شخص آخر.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك