انطلاقا من اهتمامي بتاريخ العلوم وفلسفته، وفي أحدث ورقة علمية نُشرت لي بالمجلة المصرية لتاريخ وفلسفة العلوم، التي صدرت مؤخرًا ويرأس تحريرها العالم الجليل د. محمد لبيب سالم تحت عنوان: التيارات المتقاطعة: النهضة العلمية في العصر الذهبي الإسلامي والنهضة الأوروبية
عملت فيها على استكشاف التأثير العميق للعلماء المسلمين على عصر النهضة الأوروبية، مسلطًا الضوء على الترابط الوثيق بين هاتين الفترتين المحوريتين في تاريخ العلوم والتطور الفكري.
كما يتناول البحث التبادلات الثقافية والفكرية الثرية بين الحضارتين الإسلامية والمسيحية، مؤكدًا المساهمات الجوهرية للعلماء المسلمين في شتى المجالات العلمية، خاصة في ميادين الرياضيات والفلك والكيمياء والطب والفلسفة.
ومن خلال تحليل أعمال شخصيات بارزة مثل جابر بن حيان وأبوبكر الرازي، نسعى إلى إظهار الأثر العميق للعلم الإسلامي على المشهد الفكري الأوروبي. لقد كشفت نتائج البحث أن عصر النهضة الأوروبية تأثر بشكل كبير بالعلم الإسلامي. فقد استلهمت أعمال علماء بارزين مثل كوبرنيكوس وفيبوناتشي من التقدم العلمي الذي أحرزه مفكرون مسلمون أفذاذ مثل البتاني والخوارزمي وأبو كامل. كما لعبت ترجمة النصوص القديمة وحفظها، جنبًا إلى جنب مع استيعاب الفكر الإسلامي، دورًا حاسمًا في تطوير المناهج العلمية في أوروبا.
وخلصت الورقة إلى إبراز الترابط العميق بين العصر الذهبي للإسلام وعصر النهضة الأوروبية، مؤكدة أهمية التبادل الثقافي والحوار الفكري بين الحضارات. ومن خلال الاعتراف بالتراث المشترك بين هاتين الحضارتين العظيمتين، نكتسب تقديرًا أعمق لتطور المعرفة الإنسانية والطابع التعاوني للتقدم الفكري عبر التاريخ.
لم تكن مكتبات الأندلس ومراكز الترجمة النشطة في طليطلة مجرد مبانٍ حجرية صامتة، بل كانت بمثابة مختبرات حية لصناعة الحضارة. وفي «بيت الحكمة» في بغداد –وتحت الرعاية المستنيرة للخليفة المأمون– تحولت أعمال فلاسفة اليونان الكبار مثل أرسطو وبطليموس إلى نصوص عربية بليغة.
لم يكن العلماء المسلمون مجرد ناقلين للمعرفة، بل كانوا مُجددين أضافوا إليها وطوروها وحولوها إلى علم تطبيقي يخدم الحياة. فجابر بن حيان (721-815م) على سبيل المثال، أسس علم الكيمياء التجريبية بتصنيف المواد وابتكار أدوات مخبرية متطورة لا تزال تشكل أساس المختبرات الحديثة حتى يومنا هذا. وابن الهيثم (965-1040م) شكك بجرأة في نظريات الإغريق حول طبيعة الضوء، ووضع في كتابه الرائد «كتاب المناظر» أول منهج علمي حقيقي قائم على التجربة الدقيقة والملاحظة المنظمة، مؤكدًا أن الضوء ينعكس من الأجسام إلى العين، وليس العكس كما كان يُعتقد سابقًا!
والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو التأثير العميق للنماذج الرياضية الإسلامية على عمالقة عصر النهضة الأوروبية. فنيكولاس كوبرنيكوس – مؤسس نظرية مركزية الشمس – استند في حساباته الفلكية المعقدة على «ازدواج الطوسي»، وهو نموذج هندسي بارع وضعه العالم الفلكي نصير الدين الطوسي (1201-1274م) لحل الإشكالات الفلكية التي كانت تعتري نموذج بطليموس. التشابه بين النموذجين مذهل لدرجة تطابق الرموز الرياضية المستخدمة، لكن كوبرنيكوس لم يشر إلى مصدره الإسلامي! وتتكرر القصة مع ليوناردو فيبوناتشي، الذي أدخل نظام الأرقام العربية إلى أوروبا عبر كتابه الشهير «ليبر أباتشي» (1202م)، لكنه تجاهل الإشارة إلى العالم المسلم العظيم الخوارزمي، مؤسس علم الجبر، الذي استوحى منه فيبوناتشي مفاهيم الحساب الأساسية.
هذه «النزعة النسيانية المتعمدة» تعكس تحيزًا أوروبيًا سعى لطمس الإسهامات الهائلة للحضارة الإسلامية، واختزال عصور الظلام الأوروبية في كونها «فجوة» زمنية ضائعة بين العصرين اليوناني وعصر النهضة، متجاهلًا حقيقة أن العالم الإسلامي كان يحفظ شعلة المعرفة متوهجة لأكثر من ألف عام!
ولا تكتمل الصورة الزاهية من دون إلقاء الضوء على مدينة قرطبة في القرن العاشر الميلادي، حيث حولها المسلمون إلى عاصمة للتنوير العلمي والفكري وتفوقت على مدن أوروبية كبرى مثل باريس ولندن بقرون عديدة. هنا، جمعت مكتبة الخليفة الحكم الثاني ما يقارب 400 ألف مخطوط نفيس، وتلاقى علماء مسلمون ومسيحيون ويهود في حوار فكري وثقافي فريد من نوعه.
وفي هذه البيئة التعددية الخصبة، ظهرت إنجازات علمية رائدة في مختلف المجالات، مثل: الزراعة العلمية المتطورة: عبر كتاب «الفلاحة» لابن العوام الذي نقل تقنيات الري المبتكرة إلى أوروبا. الجراحة الحديثة: عبر أدوات الجراح العظيم أبي القاسم الزهراوي التي لا تزال نماذج منها تستخدم في كليات الطب حتى اليوم. علم الاجتماع المبكر: عبر مقدمة ابن خلدون الرائدة التي حللت بدقة صعود وسقوط الحضارات. وعندما سقطت الأندلس، هرب آلاف العلماء المسلمين واليهود والمسيحيين حاملين معهم كنوزًا من المخطوطات القيمة إلى إيطاليا، ليكونوا البذرة الأولى لعصر النهضة الأوروبية الذي غير وجه القارة العجوز.
إن المعرفة جسر للتواصل والتعاون، لا ساحة حرب للصراع والنزاع. واليوم، تذكرنا هذه الصفحات المشرقة من تاريخنا المشترك أن العلم هو لغة عالمية سامية تتخطى الحدود الجغرافية والثقافية. فالعلماء المسلمون لم يترجموا علوم اليونان لأنها كانت تمثل «ثقافة الغرب»، بل لأنهم اعتبروها جزءًا أصيلًا من المعرفة الإنسانية المشتركة. إن التقدم الحقيقي لا يُبنى بالانغلاق على الذات، بل بالانفتاح الواعي للعقول على كل مصادر المعرفة. وأختم بأن تاريخ العلم هو تذكير دائم بأن كل حضارة هي حلقة ضرورية في سلسلة الحضارة الإنسانية الطويلة والمتصلة.
{ أستاذ الكيمياء بكلية العلوم – جامعة القاهرة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك