لا شك أن القرارات المتتالية للدول الكبرى والمنظمات برفع العقوبات على سوريا تمثل خطوة مهمة للغاية ضمن التحولات التي تشهدها سوريا خلال الحقبة الجديدة، ابتداءً بقرار بريطانيا في أبريل 2025 إلغاء تجميد أصول تتبع وزارتي الدفاع والداخلية السوريتين وعدد من أجهزة المخابرات، مروراً بقرار الرئيس دونالد ترامب رفع العقوبات عن سوريا خلال جولته الخليجية في مايو 2025 وانتهاءً بقرار الاتحاد الأوروبي في الإطار ذاته في 20 مايو من العام ذاته، ولا شك أن الاقتصاد دائما هو قاطرة السياسة، حيث إن استعادة سوريا لقدرتها على التواصل مع العالم الخارجي اقتصاديا بما يتيح جذب الاستثمارات يعد ركيزة أساسية لتحقيق الاستقرار، ولكن التساؤل الذي يفرض ذاته هل تكفي تلك التحركات الدولية لنجاح مرحلة التحول الراهنة في سوريا؟ لا شك أن الأمن الاقتصادي يعد مصلحة استراتيجية داخلية وإقليمية على حد سواء، إلا أن التحديات التي تواجه سوريا في الوقت الراهن تتنازعها ثلاث دوائر متشابكة إلى حد كبير، أولها: على المستوى الداخلي، فهناك الكثير من الملفات التي يتعين العمل عليها من جانب الإدارة الجديدة، وفي مثل تلك الحالات تسود حالة من الجدل هل تكون الأولوية للأمن؟ أم للسياسة؟ أم للاقتصاد؟ صحيح أن تحسين مستوى المعيشة وضمان توفير المتطلبات الأساسية للمواطنين أمر حيوي وضروري ولكن بشكل متواز مع تحقيق الأمن وهو الملف الذي يتضمن أيضاً تحديات هائلة سواء من خلال مواجهة أنصار النظام السابق أو مسألة المقاتلين الأجانب حيث تشير التقديرات أنهم ينتمون إلى 18 دولة ويقدرون بالآلاف، بالإضافة إلى مضمون المظلة السياسية للتحولات في سوريا التي بدأت الإدارة الجديدة بالفعل في اتخاذ إجراءات بشأنها والتي يجب أن تشمل كل مكونات المجتمع السوري بما لا يتيح أي فرص للتدخلات الخارجية تحت دعاوى حماية ما يطلق عليه «الأقليات» وغيرها من الذرائع، إذ لوحظ صدور تصريحات أوروبية مفادها أنه ربما «يُعاد فرض العقوبات مرة أخرى إذا لم يكن هناك احترام لحقوق الأقليات وتعزيز الديمقراطية»، بالإضافة إلى تحذير وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو من أن «سوريا قد تكون على بُعد أسابيع فقط من انهيار محتمل وحرب أهلية شاملة»، الأمر الذي يتطلب اتخاذ إجراءات سريعة من جانب الإدارة الجديدة في سوريا للحفاظ على وحدة الأراضي السورية، فضلاً عن أهمية الدعم الإقليمي والعالمي لمنع وقوع تلك الحرب الأهلية، وثانيها: على المستوى الإقليمي، حيث إن لسوريا حدود تزيد على ألفي كم موزعة على خمس دول جوار وهي تركيا والعراق والأردن ولبنان وإسرائيل، ومن ثم فإن استقرار سوريا هو استقرار لدول الجوار، ولكن في عالم السياسة الأمر يبدو مختلفاً، فبعض دول الجوار لها أجندات ومصالح داخل سوريا، صحيح أنه من المهم ألا تكون الأراضي السورية منطلقاً لأي تهديدات لتلك الدول ولكن لا يجب أن يكون ذلك ذريعة للانتقاص من السيادة السورية أو أن تكون سوريا مجالاً لتنافس مشروعات دول الجوار واتخاذ تلك المشروعات مظاهر أمنية من خلال بناء قواعد أو مناطق عازلة أو غيره، فسوريا تقع في منطقة تماس استراتيجي، وحال تدهور الأوضاع الأمنية فيها فإن ذلك يعني احتدام الصراع الإقليمي مجدداً في تلك المنطقة الذي لن تقتصر أطرافه على الدول بل ستكون الجماعات من دون الدول حاضرة وبقوة، وفي تصوري أن المقترح التركي بتأسيس مجموعة مشتركة مقرها سوريا لمكافحة الإرهاب تضم تركيا والعراق والأردن وسوريا ولبنان يعد خطوة مهمة وحال التوافق بين الدول الخمس على عمل تلك الآلية الإقليمية سيكون دورها مهماً في مواجهة الإرهاب الذي يعد تحدياً مشتركاً لتلك الدول وكان دافعاً لتأسيس تحالفات في المنطقة من قبل من بينها التحالف الدولي ضد داعش عام 2014، بمعنى آخر أن وجود آليات للتعاون بين سوريا ودول جوارها يحول دون سعي تلك الدول لتنفيذ مشروعاتها وأجنداتها داخل سوريا وسوف يكون ذلك مثاراً للتنافس وتقاطع أجندات على الأراضي السورية بما يطيل أمد عملية التحول في سوريا وتقدم ليبيا نموذجاً واضحاً لذلك، وثالثها: الدائرة الدولية، ولا شك أن علاقات سوريا الدولية مرتهنة إلى حد كبير بكل من الولايات المتحدة وروسيا، فمع أهمية الخطوات الدولية برفع العقوبات حيث تمتد تلك العقوبات عقودا مضت ولكن لوحظ كما تناقلت وسائل الإعلام أن الرئيس ترامب طلب من الإدارة السورية خمس مطالب وهي: الانضمام للاتفاقيات الإبراهيمية، إخراج المقاتلين الأجانب من سوريا، ترحيل عناصر من حركات فلسطينية مسلحة، مساعدة الولايات المتحدة على منع عودة تنظيم داعش، أن تكون الحكومة السورية مسؤولة عن مراكز احتجاز مقاتلي تنظيم داعش شمال شرقي سوريا، وبغض النظر عما إذا كانت تلك شروط أمريكية لرفع العقوبات أم أنها مطالب سوف تحدد مستقبل العلاقات السورية – الأمريكية عموماً فإنها ليست بالأمر اليسير وتتقاطع مع ملفات سياسية وأمنية تعد تحديات لسوريا في المرحلة الراهنة، ولا يرتبط الأمر بالولايات المتحدة فحسب في ظل تأكيد مصادر رسمية روسية في أبريل 2025م أن القوات الروسية باقية في سوريا وأن هناك حواراً مستمراً مع الإدارة الجديدة في سوريا حول تلك القضية، ومع أهمية كل من الدور الأمريكي والروسي في سوريا إذ لا يتوقع التصادم بينهما ولكن ستكون أطراف أخرى معنية بالمسألة السورية وخاصة الاتحاد الأوروبي وكل الأطراف التي لديها مصالح حيوية في سوريا ولكن الدرس الأهم هو كيفية إدارة سوريا علاقاتها الدولية في تلك المرحلة بما يتيح توظيف تلك العلاقات لاستقرار سوريا وتلبية احتياجاتها في تلك المرحلة الانتقالية والحيلولة من دون تحول ذلك الاهتمام الدولي لحالة من التنافس السلبي وهناك صراعات إقليمية أخرى لم تنج من ذلك الأمر.
وبمعيار التحولات التي شهدتها أوروبا عبر تاريخها التي حسمت الأزمات واحدة تلو الأخرى فإن سوريا تواجه الأزمات ذاتها ولكن في وقت واحد ومنها التكامل والتنمية والأمن وإدارة علاقاتها الإقليمية والدولية.
إن وضوح أطر التحولات في سوريا ومشاركة الجميع فيها وفق خطط شاملة وحسن إدارة شراكات سوريا الإقليمية والدولية يعني العبور بالدولة السورية نحو الأمن والاستقرار الذي يعني تحقيق الأمن الإقليمي في الوقت ذاته.
توجد آليات عديدة لمساعدة الدول خلال مراحل التحول على الصعيد الاقتصادي من بينها ما أطلق عليه «مؤتمرات المانحين»، «مؤتمرات الأصدقاء» وكان منها أصدقاء سوريا وليبيا، ومضمون تلك الآليات هو توفير الدعم المالي الدولي اللازم لجهود إعادة الإعمار في الدول التي تشهد تحولات، وتسهم فيها العديد من الدول على المستويين الإقليمي والعالمي من خلال التعهد بدفع مبالغ مالية، وكذلك المنظمات الأممية ودورها المهم، وسوريا بحاجة ماسة إلى تلك الآليات لتحقيق أمنها واستقرارها.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك