في العام قبل الماضي (2023) طُلب مني استشارة صغيرة في مؤسسة في دولة خليجية، ذهبت والتقيت ببعض الإداريين، وفي الحقيقة كانت الجلسات رائعة، وخرجنا بعدة مخرجات كانت ذات تأثير إيجابي في سير العمل في المؤسسة.
لم تمض بضعة أشهر، إلا وجاءني اتصال من أحد الأخوة العاملين في نفس تلك المؤسسة، وطلب مني الحضور مرة أخرى مدة يوم واحد فقط، بهدف مناقشة قضية صغيرة عالقة، ذهبت مرة أخرى، وجلست مع نفس الأشخاص تقريبًا، وكان السؤال المطروح هو: هل يستطيع أن يسهم (الكوتشينج المؤسسي) في تعميق تطوير وتعميق التخطيط والإدارة لدى الأفراد وفرق العمل والقادة في المؤسسة؟
أجبت بالإيجاب، فطلب مني الشرح والآليات وما إلى ذلك، فقمت بشرح الفكرة حسب ما هو موجود في ذاكرتي، إذ إن هذا الموضوع كبير ويحتاج إلى عرض وأمور وتمارين وما إلى ذلك.
سألني المدير التنفيذي: هل تستطيع أن تكون كوتش المؤسسة للزمن الذي تختار وتقوم بهذه الأفعال التي تحدثت عنها؟
احترت، فالإجابة عن مثل هذا السؤال ليس من السهولة بمكان، ولكنها فرصة مهمة لا يرغب أي شخص في تفويتها، والهروب منها، فهي تحد كبير جدًا، فأنت أمام مؤسسة بكل ما فيها ومن فيها، وتحاول خلال الفترة المطلوبة أن تقلب الطاولة وتعيد بناءها من جديد. فقلت: دعني أعود إلى منزلي وخلال يومين سوف أرسل لك الإجابة التي ستكون إن شاء الله بالإيجاب.
فكرت، ولكن تحت إلحاح المدير التنفيذي وافقت، وبذلك دخلت عالمًا جديدًا بالنسبة إلي، فلم أقم بمثل هذا العمل سابقًا، على الرغم أني عملت عدة مرات كمستشار لعدد من المؤسسات، ولكن هذا العمل يحتاج إلى جهود جبارة. عمومًا لنبدأ من البداية.
ماذا يعني الكوتشينج والكوتشينج المؤسسي؟
هي ببساطة ومن غير تعقيدات أو تعريفات أكاديمية، عملية تفاعلية تتطلب من الفرد والكوتش العمل معًا بشكل تعاوني، يلعب فيها الكوتش دورًا داعمًا وموجهًا، ويساعد الفرد على تحديد أهدافه وتطوير الخطة لتحقيقها وتطويرها. ويركز الكوتشينج على الحاضر وكيف ينطلق إلى المستقبل، ويهدف إلى مساعدة الفرد على التعرف على نقاط قوته وضعفه، وكيفية تطوير مهاراته وقدراته، وطرق اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، وفي النهاية كيفية تحقيق الأهداف.
هذا التعريف نفسه يمكن أن يصلح لتعريف الكوتشينج المؤسسي، ولكن يستعاض عن مصطلح (الفرد) بمصطلح (المؤسسة)، مع بعض التغييرات الطفيفة، التي لا تغير من الموضوع الأساسي أي شيء، فتبقى الحقيقة هي.
إذ نحن في العمل المؤسسي نقوم بتطوير معارف ومهارات الأفراد ومجتمع المؤسسة من أجل أن نسهم في التحسين المستمر من الأداء الوظيفي للأفراد وبالتالي يتطور العمل المجتمعي الوظيفي في المؤسسة، وهذا من المفروض أن يسهم في تحقيق الأهداف التنظيمية للمؤسسة التي يعمل بها كل هؤلاء الأفراد. وهذا يعني ببساطة أيضًا تحقيق الأداء العالي للفرد والأفراد من أجل تحسين المنتج أو الخدمات التي تقدم للعملاء أيًا ما كانوا.
ما الأعمال التي يقوم بها الكوتشينج في المؤسسة؟
الكوتشينج في المؤسسة لا يقوم بدور المسؤول الإداري بقدر ما يقوم بدور القائد الإداري، مع بعض التحفظات على هذا المصطلح في هذا المكان، فهو ليس بقائد بقدر ما هو يقوم ببعض المهام التي يجب أن تساعد كل فرد في المؤسسة، لذلك فيمكن تحديد مهامه بعد أن يتعرف على المؤسسة واستراتيجيتها وبرامجها وكل ما يتعلق بالمؤسسة، في بعض الأمور التالية:
أولاً: التوجيه؛ هي العملية التي تنطوي على كل الأنشطة التي صممت لتشجيع المرؤوسين على العمل بكفاءة وفاعلية على كل من المدى القريب والبعيد. حتى يصل الفرد إلى مرحلة التوجيه الذاتي في إطار المنظومة الجماعية، معتمدًا على المعلومات، وليس على السلطة، فإن كانت إدارة الوقت –مثلاً– هي إدارة للموارد البشرية فإن التوجيه يهتم بالمورد البشري من خلال الارتقاء بمواهبه وقدراته.
ولكي تتحقق أقصى فائدة من التوجيه، فإنه يُفترض توافر قاعدة سليمة ومناخ اجتماعي سليم في المؤسسة، ويجب ألا نطيل وقت إصدار التوجيهات حيث يكفي الاتصال الشفهي أو الهاتفي القصير لكي يتم تحقيق الهدف.
كما ينظر إليها بعض الباحثين على أنها مهمة مستمرة لصنع القرارات وتسجيلها في أوامر وتعليمات سواء كانت هذه الأوامر وتلك التعليمات عامة أو خاصة. وتعد هذه العملية من الوظائف الصعبة ويرجع سبب صعوبتها إلى أن المسؤول يتعامل مع الناس وهم قوى مركبة يختلفون في شخصياتهم ولكل منهم أهدافه ودوافعه التي قد تتفق مع أهداف المؤسسة أو قد تتعارض أحيانًا معها. وهذا يتطلب من المسؤول أن يتفهم هذه القوى حتى يتمكن من توجيه تلك الجهود الإنسانية نحو تحقيق أهداف المؤسسة.
وهنا يأتي دور الكوتشينج في التوجيه، فهو يجب أن يجلس مرة ومرات مع المسؤولين في المؤسسة حتى يرشدهم ويساعدهم في عملية التوجيه، بحيث (يأمر فيطاع)، ومن ناحية ثانية يصنع ثقافة مؤسسية عند الأفراد أن التوجيه لا يقصد بها فقط إصدار أوامر وتسلط وإنما هي أمور لا بد منها.
ثانيًا: الاستشارة؛ نحن نعلم اليوم أن الاستشارات أصبحت ليست مجرد خيار، بل ضرورة لضمان تحقيق أقصى إمكانيات الفرد في مسيرته المهنية، إن استشارات العمل لم تعد مقتصرة على تقديم نصائح عابرة حول تحسين علاقة زملاء العمل أو علاقة المسؤول بالعاملين أو أداء بعض الأعمال بطريقة مميزة؛ بل أصبحت أداة شاملة ومتكاملة تعنى بالتخطيط الاستراتيجي المهني، إدارة التغيير، وتطوير المهارات والقدرات اللازمة لمواكبة التطورات المستمرة في سوق العمل.
ويعد الكوتشينج والذي يعمل كمستشار أحد أبرز أدواره هو مساعدة الأفراد والمؤسسة على فهم نقاط القوة والضعف بدقة، وتحديد كيفية تحسين تلك النقاط بشكل استراتيجي. ولا يقتصر الأمر على تقييم الأداء وما إلى ذلك وإنما يمتد إلى التحليل العميق للمهارات الصعبة
(hard skills) والناعمة (soft skills) وتأثيرها في العمل وبيئة العمل.
ثالثًا: نشر الثقافة المؤسسية؛ من المعلوم أن الثقافة المؤسسية تعرف أنها مجموعة من المفاهيم والقيم والمبادئ التي تؤمن بها المؤسسة، بحيث تقوم المؤسسة بالعمل على صياغتها بطريقة تتناسب مع طبيعة وبيئة واستراتيجية العمل داخل المؤسسة، كما يجب أن يكون الموظفون مؤمنين بتلك الثقافة، وعلى قناعة تامة بتلك القيم والمفاهيم، ويعملون ويلتزمون بكل جدية بالعمل على تطبيقها بتوجيه وتمكين ودعم من الإدارة العليا بالمؤسسة.
وتلعب الثقافة المؤسسية دورًا محوريًا، كونها ذات تأثير مباشر في أداء الموظفين بشكل خاص، وانعكاس ذلك على أداء المؤسسة بشكل عام، إذ إنها تٌعد الإطار لتوجيه السلوك التنظيمي والمؤسسي، ووجود الثقافة يحافظ على القيم المؤسسية، وبالتالي زيادة الالتزام والضبط بالعمل على إستراتيجيتها وإدراك أهمية ما تسعى إليه المؤسسة ودفع الموظفين لتحقيق أهدافها، بحيث ينتج عن هذا التجانس تحفيزهم ودعمهم لتحقيق أهدافها. ومما لا شك فيه أن الثقافة المؤسسية لها دور مهم في عملية التطوير والإبداع وتعد عاملاً مستقلاً يرتكز على القيم ولها أهمية بارزة في عمليات استمرارية الأعمال واستمرارية المؤسسة بشكل عام.
رابعًا: التطوير؛ يعرف التطوير المؤسسي أنها عملية تحسين مستمر للأداء والفعالية داخل أي مؤسسة من خلال مجموعة من الاستراتيجيات والخطط المدروسة، وتشمل هذه العملية تحسين الهياكل الإدارية، تعزيز المهارات، وتبني تقنيات جديدة وما إلى ذلك. ويهدف تطوير المؤسسات إلى تحقيق أهداف طويلة الأمد، وزيادة الإنتاجية، والتكيف مع تغيرات السوق، وهذا يعني التركيز في مرحلة ما على الاستراتيجيات وبناء الاستراتيجيات وكيفية تنفيذها، وهذه تعد من أصلح مهام الكوتشينج.
كيف يقوم الكوتشينج بعمله؟
قلنا إنه يتوزع عمل الكوتشينج بين الأفراد والمؤسسة، فلنتحدث بشيء من الاختصار، حسب المساحة المتاحة،
أولاً: بالنسبة إلى الأفراد؛ يقوم الكوتشينج بعمل الأمور التالية:
* رفع وعي وثقافة الموظف،
* رفع الكفاءة الإنتاجية للموظف،
* تحقيق التناغم بين أفراد فريق العمل،
* زيادة الثقة بالنفس،
* أما بالنسبة إلى القادة والمسؤولين فإنه يقوم بتطوير القادة؛ وهذا يعني تحسين اتخاذ القرارات، المساعدة في تحقيق الأهداف، تطوير المهارات والقدرات.
ثانيًا: بالنسبة إلى المؤسسة؛ فإنه يجب أن يفكر في الأمور التالية:
* تحسين أداء الموظفين،
* تحقيق أهداف الأعمال،
* تطوير وتحسين المنتجات والخدمات القديمة والجديدة،
* تحسين خدمة العملاء،
* التطوير والتميز المؤسسي،
* تحقيق السعادة والوظيفية.
ما ذكرناه مجرد أساسيات لبعض الأمور النظرية، فالموضوع لا ينتهي عند هذا الحد، وإنما يحتاج إلى كثير من الصبر والجهد والكتابة والمتابعات، فهي ليست مجرد استشارة تنتهي بانتهاء الموضوع الذي يتم تداوله، وإنما هي استمرارية عمل ومتابعة، وإدارة ضغوط العمل، وفي كثير من الأحيان إدارة الغضب من جميع الفئات، وحتى الإدارة العليا في بعض الأحيان ينتابها الكثير من الغضب والملل من الوقت والزمن الذي يستغرق، وأنا هنا لا أريد أن أتحدث عن كل تلك الأمور التي جرت في المؤسسة، ولكن في الحقيقة بعد الفترة الزمنية المقررة كانت النتيجة مذهلة، حتى أنا لم أكن أتصور أن المؤسسة ستتحول بهذه الصورة.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك