من خلال رؤية ملكية إصلاحية، انطلقت منذ نحو ربع قرن، هدفت إلى إحداث نقلة نوعية للاقتصاد البحريني، تضعه في مصاف الدول المتقدمة، انطلقت جهود وطنية ضخمة لتطوير قطاعات هذا الاقتصاد. وقد أفضت هذه الجهود إلى تحوّل كبير في بنية الاقتصاد الوطني، من اقتصاد يعتمد اعتمادًا شبه كامل على القطاع النفطي – حيث كانت البحرين في مقدمة دول الخليج التي تم اكتشاف النفط بها، فمثلت عائداته المصدر الرئيسي لتمويل النفقات العامة، كما مثلت صادراته غالبية الصادرات البحرينية– إلى اقتصاد متنوع وأكثر شمولًا.
وقد انعكس هذا التحول في تزايد مساهمة القطاعات غير النفطية لتبلغ نحو 86% من هيكل الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يضع المملكة على طريق النمو المستدام، ويفتح آفاقًا واسعة للتشغيل، لا سيما أن هذه القطاعات تتمتع بقدرة أكبر على توفير فرص العمل مقارنة بالقطاع النفطي. كما يُسهم هذا التنوع في تقليص تأثر الاقتصاد بالتقلبات الحادة في أسعار النفط، وهي سمة ملازمة لهذه السلعة، وتُعاني منها أغلب الاقتصادات المعتمدة على النفط.
وكان الجانب الآخر للتحولات النوعية في بنية الاقتصاد البحريني، هو ذلك الدور الذي أخذ يضطلع به القطاع الخاص، ويرجع ذلك إلى «رؤية البحرين الاقتصادية 2030»، التي أطلقت العنان له؛ كي يقوم بالنشاط الاقتصادي، وحصرت دور الحكومة في الجانب التنظيمي. ومن خلال سياسة الشراكة الاستراتيجية مع القطاع الخاص، أخذ نشاط هذا القطاع يتمدد، ويتوسع في كل مجالات النشاط الاقتصادي، ساعده في ذلك «حجم التيسيرات الضخمة التي تقدمها الحكومة»، و«بيئة شبه خالية من الضرائب»، و«اتفاقات عقدتها الحكومة مع عديد من دول العالم للتعاون الاقتصادي»، و«تشجيع وحماية الاستثمارات المتبادلة»، و«منع الازدواج الضريبي، والتجارة الحرة.
وإذا كانت خطوات التحولات النوعية للاقتصاد البحريني، قد تسارعت في ربع القرن الأخير في ظل الرؤية الإصلاحية لجلالة الملك ؛ إلا أن المملكة قد أدركت منذ وقت مبكر، أن النفط مورد ناضب، وأنه يتعين عليها السير في طريق التنويع؛ فاتجهت بعد الاستقلال مباشرة بخطوات قوية في اتجاه التصنيع، وكانت طليعة المشروعات الصناعية الكبرى شركة «ألبا»، التي غدت حاليًا أحد عمالقة صناعة الألومنيوم في العالم، وشركة «الخليج لصناعة البتروكيماويات»، مستفيدة من الشراكات الخليجية، كما عملت على الاستفادة من موقعها في إدارة الأموال، وجذبت المصارف الأجنبية الكبرى كي تفتح فروعًا لها في البحرين، وأخذ القطاع المصرفي والخدمات المالية في النمو بمعدلات سريعة، حتى اكتسبت المملكة مكانتها المتميزة في المنطقة كمركز مال وأعمال، وتجاوزت إسهامات قطاع الخدمات المالية، إسهام القطاع النفطي في الناتج المحلي الإجمالي، وتراوح هذا الإسهام بين 17–19%، مقابل 14% للقطاع النفطي.
ولا يعني الاهتمام بتطوير القطاعات غير النفطية، وتنويع بنية الاقتصاد البحريني، أن القطاع النفطي لا يأخذ حظه من الاهتمام، فهو القطاع المنوط به أمن الطاقة، فضلاً عن إيراداته التي تمول نفقات الميزانية العامة، فقد استمرت جهود البحث والتنقيب عن مكامن النفط والغاز، وتطوير حقل البحرين لزيادة إنتاجه، وتعميق التعاون مع السعودية، لتطوير مصفاة «سترة»، وخط الأنابيب الذي ينقل النفط إليها، وهي المشروعات التي اكتملت، وأضافت إلى طاقتها الإنتاجية 113 ألف برميل يوميًا، وبلغت التكلفة الاستثمارية لمشروع تطوير المصفاة نحو 7 مليارات دولار، وبه ترتفع قدرتها من 267 ألف برميل يوميًا، إلى نحو 400 ألف برميل يوميًا، وتقوم بتكرير إنتاج حقل البحرين -فضلاً عن النفط المستورد من السعودية بنسبة 85% من قدرة المصفاة- فيما تتكفل منتجاتها بتوفير احتياجات السوق المحلية، ومن ثمّ، ضمان أمن الطاقة بينما معظم إنتاجها (نحو 92%)، يتوجه إلى التصدير، كما استمرت جهود تطوير المنتجات النفطية، لجعلها متوافقة مع الاشتراطات البيئية.
ومن المعلوم، أن جهود البحث والتنقيب قد أسفرت عام 2018 عن اكتشاف حقل «خليج البحرين»، الذي يعد أكبر اكتشاف منذ بدء إنتاج البحرين النفطي في 1932. وبحسب بيانات «وحدة أبحاث الطاقة في واشنطن»، يحتوي هذا الحقل على 80 مليار برميل نفط صخري، إضافة إلى 30 تريليون قدم مكعب من الغاز المصاحب، كما أسفرت جهود البحث والتنقيب في 2022 عن اكتشاف مكمنين جديدين للغاز الطبيعي؛ ما يسهم في تعزيز إنتاج المملكة لتلبية احتياجاتها المتنامية منه. ومن المشروعات التطويرية التي تم تنفيذها في قطاع الغاز «مرفأ البحرين للغاز الطبيعي المسال»، فيما يبلغ متوسط الإنتاج السنوي من الغاز نحو 26 مليار متر مكعب، وهو مازال يكفي حاجة الاستهلاك المحلي، أما إنتاج النفط فيبلغ 200 ألف برميل يوميًا، يصدر منه خام إنتاج حقل أبو سعفة البالغ 150 ألف برميل يوميًا.
وتأهلاً لمعطيات الثورة الصناعية الرابعة، والتحول الرقمي للاقتصاد، وتحقيق أقصى استفادة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي؛ فقد قاد «قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات»، النمو الاقتصادي في العام الماضي. وفيما بينت الحسابات الختامية لهذا العام نمو الأنشطة غير النفطية –التي تشكل نحو 86% من حجم الاقتصاد– بمعدل 3.8%، ما أسهم في تحقيق نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 2.6%؛ فقد تصدّر قطاع الاتصالات هذا النمو، محققًا أعلى نسبة بين القطاعات غير النفطية بلغت 12.3%. ويعزز هذا الأداء الإيجابي: «تسارع وتيرة التحول الرقمي، والحكومة الإلكترونية، والتجارة الإلكترونية، فضلاً عن دوره المحوري في دعم القطاعات الأخرى، خاصة قطاع الخدمات المالية واللوجستية».
ومنذ تحرره مطلع الألفية، حافظ قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات على معدل نمو مرتفع، ما أهّل البحرين لاحتلال المرتبة السابعة عالميًا في «مؤشر تنمية تقنية المعلومات والاتصالات»، الصادر عن «الاتحاد الدولي للاتصالات» في عام 2023. ويخدم هذا النمو المتسارع الأهداف الاستراتيجية للقطاع، المؤمل تحقيقها بالكامل بحلول عام 2026، من خلال «توفير بنية تحتية متطورة بمستوى عالمي»، و«الارتقاء بمرتبة البحرين في مؤشر المشاركة الإلكترونية ضمن تقرير الأمم المتحدة»، و«تعزيز معايير الأمن السيبراني، و«جعل البحرين مركزًا إقليميًا للابتكار الرقمي». كما يسعى القطاع إلى استقطاب الشركات الرائدة في مجال تكنولوجيا المعلومات، وتطوير كفاءة الخدمات الحكومية، والتوسع في استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي، بما يسهم في ابتكار طرق جديدة لتقديم الخدمات، ويعزز جاهزية المملكة لمتطلبات الثورة الصناعية الرابعة.
وفيما تسعى البحرين إلى تحقيق أقصى استفادة من إمكاناتها السياحية، والتي يعززها موقعها الجغرافي، وإرثها الثقافي والحضاري، فقد قارب معدل نمو قطاع السياحة نحو 6% في عام 2024. ومن المعلوم أن نشاط السياحة يرتبط بعدد من القطاعات الأخرى، كما أنه يُعد من القطاعات الواعدة في توفير فرص العمل. وقد سجل هذا القطاع عام 2024 زيادة في نسبة السياح بلغت 20% مقارنة بعام 2023، إلى جانب نمو في إيراداته بنسبة 13%، ما يشير إلى أن تنفيذ» الاستراتيجية السياحية الوطنية (2022 – 2026)، يمضي بوتيرة مرضية. ويعكس ذلك نجاح الجهود الترويجية، وجذب الاستثمارات في القطاعات المرتبطة بالبنية التحتية السياحية، بما يعزز دور السياحة كرافد اقتصادي رئيسي.
وانطلاقًا من هذه المؤشرات الإيجابية لقطاع السياحة، تعمل المملكة على ترسيخ مكانته ضمن ركائز الاقتصاد الوطني. وقد أصبح هذا القطاع يمثل نحو 7% من هيكل الناتج المحلي الإجمالي، بعد أن كانت نسبته 4% فقط في عام 2015، عند إطلاق «الاستراتيجية السياحية الوطنية الأولى» (2016 – 2019)، فيما يستهدف أن تصل هذه النسبة إلى 11.4% بحلول عام 2026.
ولتعزيز هذه المكانة، تسعى البحرين إلى استقطاب 16 من أبرز الفنادق العالمية لافتتاح فروع لها في المملكة حتى نهاية 2026، ما يضيف أكثر من 3 آلاف غرفة فندقية جديدة، ويعزز مكانتها كوجهة سياحية مفضلة إقليميًا وعالميًا. كما يوفر نمو قطاع السياحة فرص عمل واعدة في مجالات متعددة، مثل تقنية المعلومات، والاتصالات، والمحاسبة، والتسويق، في وقت أصبح فيه المواطن البحريني أكثر تقبلًا للعمل في المجالات السياحية، وهو ما تؤكده زيادة نسبة البحرينيين في كلية «فاتيل» للضيافة إلى 66%. وفي فبراير الماضي، شهدت الكلية حفل تخريج الفوجين الثالث والرابع، والبالغ عددهم 32 خريجًا وخريجة يحملون شهادة البكالوريوس في إدارة الفنادق الدولية، وتشكل كلية «فاتيل» البحرينية إحدى فروع مجموعة «فاتيل» الفرنسية الرائدة في تعليم الضيافة.
وفيما تميز «قطاع الخدمات المالية»، بكونه أكبر الأنشطة مساهمة في الناتج المحلي الإجمالي، فقد واصل نموه بوتيرة مرتفعة خلال العام الماضي، بلغت 4.4%. كما يُعد من أكثر القطاعات تحقيقًا لنسب البحرنة، إذ تصل نسبة المواطنين فيه إلى نحو 70% من إجمالي عدد العاملين البالغ 14.4 ألف موظف. ولا يزال القطاع جاذبًا للنشاط المصرفي الإقليمي والدولي، إذ تتجاوز ميزانيته الموحدة 528% من الناتج المحلي الإجمالي. ويضم القطاع 368 مؤسسة مالية، وتبلغ مساهمته نحو 18% في الناتج المحلي الإجمالي، فيما بلغ إجمالي موجوداته 247.8 مليار دولار. ويحتوي على 82 بنكًا -منها 53 بنك جملة، و29 بنك تجزئة- فضلًا عن 15 مصرفًا إسلاميًا، بإجمالي موجودات بلغ 63.4 مليار دولار، ما يعكس الدور الريادي للبحرين في قطاع الصيرفة الإسلامية.
وفي ضوء هذه المؤشرات الواعدة، تتعزز المكانة التنافسية للبحرين في مجال الخدمات المالية، فقد بلغ عدد مؤسسات التأمين المرخصة 137 مؤسسة، تشمل ممثلي شركات التأمين، بينما وصل عدد صناديق الاستثمار إلى 1739 صندوقًا بإجمالي موجودات قدره 11.2 مليار دولار. وتُبرز هذه الأرقام قدرتها على استقطاب الاستثمارات المالية والمصرفية، وهو ما تُرجم إلى حصولها على المركز «التاسع عالميًا»، في «مؤشر كفاءة الخدمات المالية والمصرفية المقدّمة للأنشطة التجارية»، وفق تصنيف التنافسية العالمية 2024، الصادر عن «مركز التنافسية العالمية»، بالمعهد الدولي للتنمية الإدارية. ويعكس هذا التقدير الدولي وجود أنظمة مالية ومصرفية متطورة، وبيئة تشريعية متقدمة، وحرية مالية واستثمارية، إلى جانب توافر كفاءات بشرية عالية التأهيل ومناخ تجاري داعم للاستثمار. كما حققت المملكة المركز «السادس عالميًا»، في المؤشر المعني «بقياس الأثر الإيجابي لسياسات المصرف المركزي على الاقتصاد»؛ ما يرسّخ موقع البحرين، كمركز مالي رائد في المنطقة.
وقد أفضى الالتزام بـ«رؤية البحرين الاقتصادية 2030»، التي أطلقت مجالات النشاط الاقتصادي للقطاع الخاص، إلى أن هذا القطاع قد غدا يتولى 82% من حجم الاقتصاد البحريني، ويُعزى إلى نشاطه ذلك النمو الكبير في نسبة إسهام القطاعات غير النفطية في الناتج المحلي الإجمالي، ومعدل النمو الذي حققته هذه القطاعات، فضلاً عن نمو تشغيل العمالة الوطنية، وقد عززت الحكومة هذا الاتجاه من خلال سياسة الشراكة الاستراتيجية مع القطاع الخاص، ومجمل التيسيرات والحوافز التي قدمتها. ويعد أداء هذا القطاع مفسرًا لارتفاع عدد العمالة البحرينية بنسبة 2.1% في 2024، لتصل إلى نحو 155 ألفا، منهم 42% امرأة، بمتوسط أجور يبلغ 893 دينارا شهريًا، فيما بلغت نسبة البحرنة في القطاع الخاص نحو 33%، مقابل 80% في القطاع الحكومي.
وفيما يعزز وضع القطاعات غير النفطية من مرونة الاقتصاد البحريني، ويبعده عن ضغوط القطاع النفطي؛ فإن القطاعات الأكثر نموًا -التكنولوجيا والخدمات- قد غدت تقود النشاط الاقتصادي، وأدت إلى استقرار التجارة الخارجية رغم انخفاض الصادرات النفطية، كما كانت سببًا في الارتفاع التدريجي في الاستثمار الأجنبي المباشر، والتحول النوعي في توجهات الاستثمار، حيث تركزت معظم الاستثمارات في قطاعات الخدمات.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك