العدد : ١٧٢٣٦ - الأحد ٠١ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٥ ذو الحجة ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢٣٦ - الأحد ٠١ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٥ ذو الحجة ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

اليوم العالمي للتنوع الثقافي وأهمية تعزيز لغة الحوار

بقلم: نبيلة رجب

الجمعة ٢٣ مايو ٢٠٢٥ - 02:00

قد‭ ‬تبدو‭ ‬قطعة‭ ‬السوشي‭ ‬الصغيرة‭ ‬بطابعها‭ ‬الياباني‭ ‬الغريب‭ ‬عن‭ ‬أطباقنا‭ ‬التقليدية،‭ ‬بعيدة‭ ‬كل‭ ‬البعد‭ ‬عن‭ ‬النقاشات‭ ‬الكبرى‭ ‬حول‭ ‬التنوع‭ ‬الثقافي،‭ ‬لكنها‭ ‬في‭ ‬جوهرها‭ ‬تحمل‭ ‬الدرس‭ ‬ذاته،‭ ‬حين‭ ‬نتعامل‭ ‬مع‭ ‬المختلف‭ ‬بفضول‭ ‬لا‭ ‬بخوف،‭ ‬نكتشف‭ ‬أن‭ ‬المسافة‭ ‬بين‭ ‬الغريب‭ ‬والمألوف‭ ‬أضيق‭ ‬مما‭ ‬نظن‭.‬

قبل‭ ‬نحو‭ ‬عشرين‭ ‬عاما،‭ ‬حين‭ ‬جلست‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬أمام‭ ‬طبق‭ ‬من‭ ‬السوشي‭ ‬في‭ ‬مطعم‭ ‬ياباني‭ ‬بفندق‭ ‬الخليج،‭ ‬كنت‭ ‬أواجه‭ ‬شيئا‭ ‬أكثر‭ ‬تعقيدا‭ ‬من‭ ‬طعام‭ ‬غير‭ ‬مألوف‭. ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬اختبارًا‭ ‬لمدى‭ ‬قدرتي‭ ‬على‭ ‬تقبل‭ ‬ما‭ ‬يخرج‭ ‬عن‭ ‬نطاق‭ ‬العادات‭ ‬الغذائية‭ ‬الموروثة‭. ‬ترددت‭. ‬تذوقت‭. ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬الطعم‭ ‬صعبا،‭ ‬ولم‭ ‬أجده‭ ‬شهيًّا‭ ‬آنذاك‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬الهدف‭ ‬أن‭ ‬أتنازل‭ ‬عن‭ ‬ذوقي‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬أتبنى‭ ‬طعما‭ ‬جديدا،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬أسمح‭ ‬لنفسي‭ ‬بفهم‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬أعرفه‭ ‬دون‭ ‬رفض‭ ‬فوري‭.‬

لكنني‭ ‬وجدت‭ ‬فيه‭ ‬شيئا‭ ‬آخر‭: ‬بداية‭ ‬شرخ‭ ‬صغير‭ ‬في‭ ‬الصورة‭ ‬النمطية‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أحملها‭ ‬عن‭ ‬الآخر‭. ‬كان‭ ‬السوشي‭ ‬أول‭ ‬جسر‭ ‬أعبره‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬أوسع،‭ ‬لا‭ ‬يشبهني‭ ‬تماما،‭ ‬لكنه‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يثريني‭.‬

احتفل‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬21‭ ‬مايو‭ ‬باليوم‭ ‬العالمي‭ ‬للتنوع‭ ‬الثقافي‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحوار‭ ‬والتنمية،‭ ‬وهي‭ ‬مناسبة‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬إبراز‭ ‬اختلاف‭ ‬العادات‭ ‬والمظاهر‭. ‬إنها‭ ‬دعوة‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬الكيفية‭ ‬التي‭ ‬ننظر‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬التنوع‭ ‬ذاته‭: ‬هل‭ ‬نراه‭ ‬تهديدا‭ ‬للهوية‭ ‬أم‭ ‬فرصة‭ ‬لإعادة‭ ‬تعريفها‭ ‬بشكل‭ ‬أكثر‭ ‬مرونة‭ ‬وحيوية؟

وتكتسب‭ ‬هذه‭ ‬المناسبة‭ ‬أهمية‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬مجتمعات‭ ‬مثل‭ ‬مجتمعنا،‭ ‬حيث‭ ‬تتقاطع‭ ‬الثقافات‭ ‬يوميا‭ ‬في‭ ‬تفاصيل‭ ‬الحياة،‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬الحوار‭ ‬حاجة‭ ‬يومية‭ ‬لا‭ ‬احتفالا‭ ‬موسميا‭.‬

في‭ ‬البحرين،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المجتمعات‭ ‬التي‭ ‬تحتضن‭ ‬تعدد‭ ‬الثقافات،‭ ‬يظهر‭ ‬التنوع‭ ‬في‭ ‬وجوهه‭ ‬اليومية‭ ‬العادية،‭ ‬في‭ ‬الأسواق‭ ‬حيث‭ ‬تتجاور‭ ‬البهارات‭ ‬الهندية‭ ‬مع‭ ‬التمر‭ ‬البحريني،‭ ‬وفي‭ ‬الأزقة‭ ‬حيث‭ ‬تتداخل‭ ‬لهجات‭ ‬متعددة‭ ‬في‭ ‬حديث‭ ‬واحد،‭ ‬وفي‭ ‬المناسبات‭ ‬العامة‭ ‬حيث‭ ‬تلتقي‭ ‬أغانٍ‭ ‬من‭ ‬شرق‭ ‬آسيا‭ ‬مع‭ ‬أنغام‭ ‬العود‭ ‬الخليجي‭. ‬هذه‭ ‬المشاهد‭ ‬اليومية‭ ‬تبدو‭ ‬للوهلة‭ ‬الأولى‭ ‬طبيعية،‭ ‬لكنها‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬نتاج‭ ‬مسار‭ ‬طويل‭ ‬من‭ ‬التعايش‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬تحديات‭.‬

ليس‭ ‬كل‭ ‬تنوع‭ ‬قصة‭ ‬نجاح‭ ‬آلية‭. ‬فالتنوع،‭ ‬حين‭ ‬يُترك‭ ‬دون‭ ‬حوار‭ ‬حقيقي‭ ‬أو‭ ‬فهم‭ ‬متبادل،‭ ‬قد‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬جزر‭ ‬منعزلة‭ ‬تعيش‭ ‬جنبا‭ ‬إلى‭ ‬جنب‭ ‬دون‭ ‬تفاعل‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬وجود‭ ‬هذه‭ ‬التعددية‭ ‬يخلق‭ ‬فرصة‭ ‬فريدة‭ ‬لإعادة‭ ‬صياغة‭ ‬العقد‭ ‬الاجتماعي‭ ‬بطريقة‭ ‬تحتفي‭ ‬بالاختلاف‭ ‬لا‭ ‬تنكره‭.‬

في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬التنوع،‭ ‬ثمة‭ ‬فارق‭ ‬جوهري‭ ‬بين‭ ‬التسامح‭ ‬والاعتراف‭ ‬الحقيقي‭ ‬بالندية‭. ‬فالتسامح‭ ‬قد‭ ‬يحمل‭ ‬في‭ ‬طياته‭ ‬شعورًا‭ ‬ضمنيا‭ ‬بالاعتداد‭ ‬بالذات،‭ ‬وكأن‭ ‬وجود‭ ‬الآخر‭ ‬مقبول‭ ‬كاستثناء‭ ‬تفضّل‭ ‬به‭. ‬أما‭ ‬الاعتراف،‭ ‬فهو‭ ‬إقرار‭ ‬بأن‭ ‬لكل‭ ‬ثقافة‭ ‬حقها‭ ‬الطبيعي‭ ‬في‭ ‬الحضور‭ ‬والاحترام،‭ ‬دون‭ ‬وصاية‭ ‬أو‭ ‬انتقاص‭. ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬من‭ ‬التسامح‭ ‬إلى‭ ‬الندية‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يصنع‭ ‬الفرق‭ ‬بين‭ ‬تعايش‭ ‬أولي‭ ‬قد‭  ‬ينهار‭ ‬أمام‭ ‬الأزمات،‭ ‬وتعايش‭ ‬متجذر‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬الصمود‭ ‬والنمو‭.‬

مبادرات‭ ‬مثل‭ ‬مهرجان‭ ‬ربيع‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬البحرين،‭ ‬الذي‭ ‬يجمع‭ ‬أصواتا‭ ‬وإبداعات‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم،‭ ‬تمثل‭ ‬محاولات‭ ‬واعية‭ ‬لتعزيز‭ ‬هذا‭ ‬التفاعل،‭ ‬وتجعل‭ ‬من‭ ‬الفن‭ ‬مساحة‭ ‬للقاء‭ ‬الإنساني‭ ‬والتقاطع‭ ‬الثقافي‭.‬

وما‭ ‬يُرسّخ‭ ‬هذا‭ ‬التفاعل‭ ‬أكثر‭ ‬هو‭ ‬استمراره‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬موازية،‭ ‬كالتعليم‭ ‬والإعلام‭ ‬والخطاب‭ ‬المجتمعي،‭ ‬ليصبح‭ ‬التنوع‭ ‬نمطا‭ ‬في‭ ‬التفكير‭ ‬والممارسة،‭ ‬لا‭ ‬مناسبة‭ ‬عابرة‭.‬

الحديث‭ ‬عن‭ ‬التنوع‭ ‬يكتسب‭ ‬معناه‭ ‬الحقيقي‭ ‬حين‭ ‬يتحول‭ ‬من‭ ‬تعبير‭ ‬جميل‭ ‬إلى‭ ‬وعيٍ‭ ‬أصيل،‭ ‬ومن‭ ‬كلمات‭ ‬مألوفة‭ ‬إلى‭ ‬مواقف‭ ‬تترجم‭ ‬في‭ ‬الواقع‭. ‬بل‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬اعترافا‭ ‬بأن‭ ‬التعايش‭ ‬مع‭ ‬المختلف‭ ‬يتطلب‭ ‬شجاعة‭ ‬فكرية‭.. ‬أن‭ ‬نعيد‭ ‬تعميق‭ ‬قناعاتنا،‭ ‬أن‭ ‬نقبل‭ ‬بعدم‭ ‬الفهم‭ ‬الكامل‭ ‬أحيانا،‭ ‬وأن‭ ‬ندرك‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الاختلافات‭ ‬لن‭ ‬تذوب،‭ ‬لكنها‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬تمنع‭ ‬التعايش،‭ ‬بل‭ ‬تثريه‭.‬

أعود‭ ‬إلى‭ ‬السوشي،‭ ‬لا‭ ‬بوصفه‭ ‬وجبة‭ ‬غريبة‭ ‬أصبحت‭ ‬مألوفة،‭ ‬بل‭ ‬كمجاز‭ ‬عن‭ ‬المسار‭ ‬الذي‭ ‬نحتاج‭ ‬أن‭ ‬نخوضه‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬غريبا‭ ‬علينا‭: ‬أن‭ ‬نقترب،‭ ‬أن‭ ‬نتذوق‭ ‬التجربة،‭ ‬أن‭ ‬نترك‭ ‬لأنفسنا‭ ‬فرصة‭ ‬أن‭ ‬نتغير‭. ‬ليس‭ ‬المطلوب‭ ‬أن‭ ‬نتبنى‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬بل‭ ‬أن‭ ‬نكف‭ ‬عن‭ ‬رفض‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يشبهنا‭ ‬لمجرد‭ ‬اختلافه‭.‬

إن‭ ‬الإيمان‭ ‬بقيمة‭ ‬التنوع‭ ‬لا‭ ‬ينشأ‭ ‬من‭ ‬شعارات‭ ‬عابرة،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬وعي‭ ‬حقيقي‭ ‬بأن‭ ‬اتساع‭ ‬أفق‭ ‬الإنسان‭ ‬يبدأ‭ ‬حين‭ ‬يتعلم‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬العالم‭ ‬بعيونٍ‭ ‬لا‭ ‬تشبه‭ ‬عينيه‭. ‬كل‭ ‬اختلاف‭ ‬نحترمه،‭ ‬وكل‭ ‬حكاية‭ ‬مختلفة‭ ‬نصغي‭ ‬إليها،‭ ‬تضيف‭ ‬طبقة‭ ‬جديدة‭ ‬إلى‭ ‬فهمنا‭ ‬لأنفسنا‭ ‬ولغيرنا‭.‬

‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬أهمية‭ ‬تعزيز‭ ‬لغة‭ ‬الحوار‭ ‬وامتلاك‭ ‬الشجاعة‭ ‬الكافية‭ ‬لنجعل‭ ‬من‭ ‬اختلافاتنا‭ ‬مصدر‭ ‬قوة‭ ‬حضارية‭ ‬متجددة‭.‬

 

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا