قد تبدو قطعة السوشي الصغيرة بطابعها الياباني الغريب عن أطباقنا التقليدية، بعيدة كل البعد عن النقاشات الكبرى حول التنوع الثقافي، لكنها في جوهرها تحمل الدرس ذاته، حين نتعامل مع المختلف بفضول لا بخوف، نكتشف أن المسافة بين الغريب والمألوف أضيق مما نظن.
قبل نحو عشرين عاما، حين جلست لأول مرة أمام طبق من السوشي في مطعم ياباني بفندق الخليج، كنت أواجه شيئا أكثر تعقيدا من طعام غير مألوف. كانت تلك اللحظة اختبارًا لمدى قدرتي على تقبل ما يخرج عن نطاق العادات الغذائية الموروثة. ترددت. تذوقت. لم أجد الطعم صعبا، ولم أجده شهيًّا آنذاك.
لم يكن الهدف أن أتنازل عن ذوقي أو أن أتبنى طعما جديدا، بل إن أسمح لنفسي بفهم ما لا أعرفه دون رفض فوري.
لكنني وجدت فيه شيئا آخر: بداية شرخ صغير في الصورة النمطية التي كنت أحملها عن الآخر. كان السوشي أول جسر أعبره إلى عالم أوسع، لا يشبهني تماما، لكنه قادر على أن يثريني.
احتفل العالم في 21 مايو باليوم العالمي للتنوع الثقافي من أجل الحوار والتنمية، وهي مناسبة تهدف إلى ما هو أبعد من إبراز اختلاف العادات والمظاهر. إنها دعوة إلى إعادة التفكير في الكيفية التي ننظر بها إلى التنوع ذاته: هل نراه تهديدا للهوية أم فرصة لإعادة تعريفها بشكل أكثر مرونة وحيوية؟
وتكتسب هذه المناسبة أهمية خاصة في مجتمعات مثل مجتمعنا، حيث تتقاطع الثقافات يوميا في تفاصيل الحياة، ما يجعل من الحوار حاجة يومية لا احتفالا موسميا.
في البحرين، كما في كثير من المجتمعات التي تحتضن تعدد الثقافات، يظهر التنوع في وجوهه اليومية العادية، في الأسواق حيث تتجاور البهارات الهندية مع التمر البحريني، وفي الأزقة حيث تتداخل لهجات متعددة في حديث واحد، وفي المناسبات العامة حيث تلتقي أغانٍ من شرق آسيا مع أنغام العود الخليجي. هذه المشاهد اليومية تبدو للوهلة الأولى طبيعية، لكنها في الواقع نتاج مسار طويل من التعايش الذي لا يخلو من تحديات.
ليس كل تنوع قصة نجاح آلية. فالتنوع، حين يُترك دون حوار حقيقي أو فهم متبادل، قد يتحول إلى جزر منعزلة تعيش جنبا إلى جنب دون تفاعل. ومع ذلك، فإن وجود هذه التعددية يخلق فرصة فريدة لإعادة صياغة العقد الاجتماعي بطريقة تحتفي بالاختلاف لا تنكره.
في التعامل مع التنوع، ثمة فارق جوهري بين التسامح والاعتراف الحقيقي بالندية. فالتسامح قد يحمل في طياته شعورًا ضمنيا بالاعتداد بالذات، وكأن وجود الآخر مقبول كاستثناء تفضّل به. أما الاعتراف، فهو إقرار بأن لكل ثقافة حقها الطبيعي في الحضور والاحترام، دون وصاية أو انتقاص. هذا التحول من التسامح إلى الندية هو ما يصنع الفرق بين تعايش أولي قد ينهار أمام الأزمات، وتعايش متجذر قادر على الصمود والنمو.
مبادرات مثل مهرجان ربيع الثقافة في البحرين، الذي يجمع أصواتا وإبداعات من مختلف أنحاء العالم، تمثل محاولات واعية لتعزيز هذا التفاعل، وتجعل من الفن مساحة للقاء الإنساني والتقاطع الثقافي.
وما يُرسّخ هذا التفاعل أكثر هو استمراره في مجالات موازية، كالتعليم والإعلام والخطاب المجتمعي، ليصبح التنوع نمطا في التفكير والممارسة، لا مناسبة عابرة.
الحديث عن التنوع يكتسب معناه الحقيقي حين يتحول من تعبير جميل إلى وعيٍ أصيل، ومن كلمات مألوفة إلى مواقف تترجم في الواقع. بل يجب أن يكون اعترافا بأن التعايش مع المختلف يتطلب شجاعة فكرية.. أن نعيد تعميق قناعاتنا، أن نقبل بعدم الفهم الكامل أحيانا، وأن ندرك أن بعض الاختلافات لن تذوب، لكنها مع ذلك لا تمنع التعايش، بل تثريه.
أعود إلى السوشي، لا بوصفه وجبة غريبة أصبحت مألوفة، بل كمجاز عن المسار الذي نحتاج أن نخوضه مع كل ما يبدو غريبا علينا: أن نقترب، أن نتذوق التجربة، أن نترك لأنفسنا فرصة أن نتغير. ليس المطلوب أن نتبنى كل شيء، بل أن نكف عن رفض كل ما لا يشبهنا لمجرد اختلافه.
إن الإيمان بقيمة التنوع لا ينشأ من شعارات عابرة، بل من وعي حقيقي بأن اتساع أفق الإنسان يبدأ حين يتعلم أن يرى العالم بعيونٍ لا تشبه عينيه. كل اختلاف نحترمه، وكل حكاية مختلفة نصغي إليها، تضيف طبقة جديدة إلى فهمنا لأنفسنا ولغيرنا.
ومن هنا أهمية تعزيز لغة الحوار وامتلاك الشجاعة الكافية لنجعل من اختلافاتنا مصدر قوة حضارية متجددة.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك