زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
عندما يربي الابن الأب
إليكم اليوم حكايتين في «حكاية واحدة»: كان الأمريكي بوتش اوهير يقود سربا من المقاتلات الأمريكية، خلال الحرب العالمية الثانية في جنوب المحيط الهادي، عندما أدرك ان وقود طائرته لا يكفي لإنجاز المهمة، فتلقى الأمر بالعودة الى حاملة الطائرات ليقزينغتون، وفي طريق عودته رأى تشكيلا جويا يابانيا يتجه صوب مواقع الأسطول الأمريكي، فانتابه القلق لان الأسطول كان بلا غطاء جوي يحميه من الغارة المرتقبة، ولم تكن أدوات الاتصال المستخدمة وقتها تصلح لإرسال إشارات من مسافات بعيدة الى قيادة الأسطول، فما كان منه الا أن اتجه صوب الطائرات اليابانية وفتح النار عليها، وهكذا اشتبك معها في معركة غير متكافئة، ظل خلالها يراوغ يمينا ويسارا حتى أسقط طائرتين ثم نفدت ذخيرته فقرر شن هجمات انتحارية عليها، وظل يصطدم بالمقاتلات اليابانية يكسر مروحة هذه وجزءا من جناح تلك، وكانت محصلة مغامرته تلك سقوط 6 طائرات يابانية، وتشتيت السرب الياباني، حتى اضطرت بقية طائراته الى العودة من حيث أتت، ونجح اوهير في الوصول سالما بطائرته المكعكعة وقد نفد وقودها تماما الى حاملة الطائرات ليقزينغتون، وسجل التاريخ وشهود عيان من زملائه عمله البطولي الاستثنائي، وبالتالي لم يكن مستغربا أن يصبح أول من نال ميدالية الكونغرس الأمريكي للشرف، وتم إطلاق اسمه على مطار شيكاغو الحالي.
اما الحكاية الثانية فعن المحامي الأمريكي الشهير إيزي إيدي الذي تولى الدفاع ببراعة عن زعيم المافيا الأشهر، ال كابوني، ونجح في تبرئته من كل تهمة ألصقت به، رغم علمه أنه ارتكب ما هو أسوأ من ذلك وهو القتل بالجملة، وكان آل كابوني هو أشهر زعماء عصابة المافيا على مر التاريخ ومعروف أنها عصابة بدأت نشاطها بتهريب الخمور، ثم دخلت في مجال المخدرات، ثم انطلقت تشتري الذمم، ووضعت في جيبها العديد من ضباط الشرطة وأعضاء الكونغرس بل صارت حكومة داخل حكومة، بل وكانت للرئيس الأمريكي الأسبق جون كينيدي علاقات قوية بزعماء المافيا، ونظير جهود المحامي إيزي أيدي في تبرئته عدة مرات، كافأه ال كابوني الذي كان ينشط في مجال تهريب المخدرات والخمور والقمار والرقيق الأبيض (الدعارة)، بأن منحه بيتا ضخما بخدمه وحشمه وأرصدة مالية هائلة، وكان لهذا المحامي ولد وحيد وفّر له كل ما يشتهي: سيارات ومربيات ومدرسين خصوصيين ولعبا ودمى، وكان حريصا على ان يغرس في نفس ابنه قيم الخير والفضيلة، ولكنه كان مدركا أنه ليس قدوة حسنة حتى يعظ ابنه في مثل تلك الأمور، كما أدرك أيضا انه بعلاقاته مع عصابة إجرامية، لن يترك لابنه سمعة حسنة حتى يكون فخورا به كأب طالما كان معروفا أنه لوى عنق القانون لحماية عتاة في دنيا الإجرام، وطالما ان الجميع يعرفون ان ال كابوني الذي حصل له على البراءة عشرات المرات بسبب براعة محاميه القانونية، قاتل ومجرم قذر.
وعندما تم اعتقال ال كابوني مجددا بتهمة بسيطة رفض المحامي إيزي إيدي الدفاع عنه، بل وقف كشاهد اتهام، وبدأ يدلي بإفادة طويلة كشف فيها عن كل تفاصيل جرائم ال كابوني السابقة، وأبلغ السلطات بكل ما يعرفه عن المافيا، مما أدى الى الزج بقادتها في السجون، وبعدها أحس المحامي بالراحة والزهو، فرغم أنه كان يدرك انه بشهادته ضد المافيا أصدر على نفسه حكما بالإعدام الا انه كان مرتاحا لأنه ترك لولده ذكرى عطرة ومشرفة. وبالفعل تم اغتياله بعد ذلك بوقت قصير.
القاسم المشترك بين الحكايتين هو ان اوهير أشهر طيار في تاريخ امريكا العسكري هو ابن المحامي إيزي إيدي. ويفسر هذا كيف يمكن للابن ان يربّي أباه. أو بالأحرى كيف إن الإحساس بالواجب تجاه الأبناء يمكن أن يجعل الآباء أكثر استقامة.
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك