العدد : ١٧٢٢٧ - الجمعة ٢٣ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٥ ذو القعدة ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢٢٧ - الجمعة ٢٣ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٥ ذو القعدة ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عندما يربي الابن الأب

إليكم‭ ‬اليوم‭ ‬حكايتين‭ ‬في‭ ‬‮«‬حكاية‭ ‬واحدة‮»‬‭: ‬كان‭ ‬الأمريكي‭ ‬بوتش‭ ‬اوهير‭ ‬يقود‭ ‬سربا‭ ‬من‭ ‬المقاتلات‭ ‬الأمريكية،‭ ‬خلال‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬المحيط‭ ‬الهادي،‭ ‬عندما‭ ‬أدرك‭ ‬ان‭ ‬وقود‭ ‬طائرته‭ ‬لا‭ ‬يكفي‭ ‬لإنجاز‭ ‬المهمة،‭ ‬فتلقى‭ ‬الأمر‭ ‬بالعودة‭ ‬الى‭ ‬حاملة‭ ‬الطائرات‭ ‬ليقزينغتون،‭ ‬وفي‭ ‬طريق‭ ‬عودته‭ ‬رأى‭ ‬تشكيلا‭ ‬جويا‭ ‬يابانيا‭ ‬يتجه‭ ‬صوب‭ ‬مواقع‭ ‬الأسطول‭ ‬الأمريكي،‭ ‬فانتابه‭ ‬القلق‭ ‬لان‭ ‬الأسطول‭ ‬كان‭ ‬بلا‭ ‬غطاء‭ ‬جوي‭ ‬يحميه‭ ‬من‭ ‬الغارة‭ ‬المرتقبة،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬أدوات‭ ‬الاتصال‭ ‬المستخدمة‭ ‬وقتها‭ ‬تصلح‭ ‬لإرسال‭ ‬إشارات‭ ‬من‭ ‬مسافات‭ ‬بعيدة‭ ‬الى‭ ‬قيادة‭ ‬الأسطول،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬منه‭ ‬الا‭ ‬أن‭ ‬اتجه‭ ‬صوب‭ ‬الطائرات‭ ‬اليابانية‭ ‬وفتح‭ ‬النار‭ ‬عليها،‭ ‬وهكذا‭ ‬اشتبك‭ ‬معها‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬غير‭ ‬متكافئة،‭ ‬ظل‭ ‬خلالها‭ ‬يراوغ‭ ‬يمينا‭ ‬ويسارا‭ ‬حتى‭ ‬أسقط‭ ‬طائرتين‭ ‬ثم‭ ‬نفدت‭ ‬ذخيرته‭ ‬فقرر‭ ‬شن‭ ‬هجمات‭ ‬انتحارية‭ ‬عليها،‭ ‬وظل‭ ‬يصطدم‭ ‬بالمقاتلات‭ ‬اليابانية‭ ‬يكسر‭ ‬مروحة‭ ‬هذه‭ ‬وجزءا‭ ‬من‭ ‬جناح‭ ‬تلك،‭ ‬وكانت‭ ‬محصلة‭ ‬مغامرته‭ ‬تلك‭ ‬سقوط‭ ‬6‭ ‬طائرات‭ ‬يابانية،‭ ‬وتشتيت‭ ‬السرب‭ ‬الياباني،‭ ‬حتى‭ ‬اضطرت‭ ‬بقية‭ ‬طائراته‭ ‬الى‭ ‬العودة‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬أتت،‭ ‬ونجح‭ ‬اوهير‭ ‬في‭ ‬الوصول‭ ‬سالما‭ ‬بطائرته‭ ‬المكعكعة‭ ‬وقد‭ ‬نفد‭ ‬وقودها‭ ‬تماما‭ ‬الى‭ ‬حاملة‭ ‬الطائرات‭ ‬ليقزينغتون،‭ ‬وسجل‭ ‬التاريخ‭ ‬وشهود‭ ‬عيان‭ ‬من‭ ‬زملائه‭ ‬عمله‭ ‬البطولي‭ ‬الاستثنائي،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مستغربا‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬نال‭ ‬ميدالية‭ ‬الكونغرس‭ ‬الأمريكي‭ ‬للشرف،‭ ‬وتم‭ ‬إطلاق‭ ‬اسمه‭ ‬على‭ ‬مطار‭ ‬شيكاغو‭ ‬الحالي‭.‬

اما‭ ‬الحكاية‭ ‬الثانية‭ ‬فعن‭ ‬المحامي‭ ‬الأمريكي‭ ‬الشهير‭ ‬إيزي‭ ‬إيدي‭ ‬الذي‭ ‬تولى‭ ‬الدفاع‭ ‬ببراعة‭ ‬عن‭ ‬زعيم‭ ‬المافيا‭ ‬الأشهر،‭ ‬ال‭ ‬كابوني،‭ ‬ونجح‭ ‬في‭ ‬تبرئته‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬تهمة‭ ‬ألصقت‭ ‬به،‭ ‬رغم‭ ‬علمه‭ ‬أنه‭ ‬ارتكب‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أسوأ‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬وهو‭ ‬القتل‭ ‬بالجملة،‭ ‬وكان‭ ‬آل‭ ‬كابوني‭ ‬هو‭ ‬أشهر‭ ‬زعماء‭ ‬عصابة‭ ‬المافيا‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬التاريخ‭ ‬ومعروف‭ ‬أنها‭ ‬عصابة‭ ‬بدأت‭ ‬نشاطها‭ ‬بتهريب‭ ‬الخمور،‭ ‬ثم‭ ‬دخلت‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬المخدرات،‭ ‬ثم‭ ‬انطلقت‭ ‬تشتري‭ ‬الذمم،‭ ‬ووضعت‭ ‬في‭ ‬جيبها‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬ضباط‭ ‬الشرطة‭ ‬وأعضاء‭ ‬الكونغرس‭ ‬بل‭ ‬صارت‭ ‬حكومة‭ ‬داخل‭ ‬حكومة،‭ ‬بل‭ ‬وكانت‭ ‬للرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬الأسبق‭ ‬جون‭ ‬كينيدي‭ ‬علاقات‭ ‬قوية‭ ‬بزعماء‭ ‬المافيا،‭ ‬ونظير‭ ‬جهود‭ ‬المحامي‭ ‬إيزي‭ ‬أيدي‭ ‬في‭ ‬تبرئته‭ ‬عدة‭ ‬مرات،‭ ‬كافأه‭ ‬ال‭ ‬كابوني‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ينشط‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬تهريب‭ ‬المخدرات‭ ‬والخمور‭ ‬والقمار‭ ‬والرقيق‭ ‬الأبيض‭ (‬الدعارة‭)‬،‭ ‬بأن‭ ‬منحه‭ ‬بيتا‭ ‬ضخما‭ ‬بخدمه‭ ‬وحشمه‭ ‬وأرصدة‭ ‬مالية‭ ‬هائلة،‭ ‬وكان‭ ‬لهذا‭ ‬المحامي‭ ‬ولد‭ ‬وحيد‭ ‬وفّر‭ ‬له‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يشتهي‭: ‬سيارات‭ ‬ومربيات‭ ‬ومدرسين‭ ‬خصوصيين‭ ‬ولعبا‭ ‬ودمى،‭ ‬وكان‭ ‬حريصا‭ ‬على‭ ‬ان‭ ‬يغرس‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬ابنه‭ ‬قيم‭ ‬الخير‭ ‬والفضيلة،‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬مدركا‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬قدوة‭ ‬حسنة‭ ‬حتى‭ ‬يعظ‭ ‬ابنه‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬الأمور،‭ ‬كما‭ ‬أدرك‭ ‬أيضا‭ ‬انه‭ ‬بعلاقاته‭ ‬مع‭ ‬عصابة‭ ‬إجرامية،‭ ‬لن‭ ‬يترك‭ ‬لابنه‭ ‬سمعة‭ ‬حسنة‭ ‬حتى‭ ‬يكون‭ ‬فخورا‭ ‬به‭ ‬كأب‭ ‬طالما‭ ‬كان‭ ‬معروفا‭ ‬أنه‭ ‬لوى‭ ‬عنق‭ ‬القانون‭ ‬لحماية‭ ‬عتاة‭ ‬في‭ ‬دنيا‭ ‬الإجرام،‭ ‬وطالما‭ ‬ان‭ ‬الجميع‭ ‬يعرفون‭ ‬ان‭ ‬ال‭ ‬كابوني‭ ‬الذي‭ ‬حصل‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬البراءة‭ ‬عشرات‭ ‬المرات‭ ‬بسبب‭ ‬براعة‭ ‬محاميه‭ ‬القانونية،‭ ‬قاتل‭ ‬ومجرم‭ ‬قذر‭.‬

وعندما‭ ‬تم‭ ‬اعتقال‭ ‬ال‭ ‬كابوني‭ ‬مجددا‭ ‬بتهمة‭ ‬بسيطة‭ ‬رفض‭ ‬المحامي‭ ‬إيزي‭ ‬إيدي‭ ‬الدفاع‭ ‬عنه،‭ ‬بل‭ ‬وقف‭ ‬كشاهد‭ ‬اتهام،‭ ‬وبدأ‭ ‬يدلي‭ ‬بإفادة‭ ‬طويلة‭ ‬كشف‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬تفاصيل‭ ‬جرائم‭ ‬ال‭ ‬كابوني‭ ‬السابقة،‭ ‬وأبلغ‭ ‬السلطات‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يعرفه‭ ‬عن‭ ‬المافيا،‭ ‬مما‭ ‬أدى‭ ‬الى‭ ‬الزج‭ ‬بقادتها‭ ‬في‭ ‬السجون،‭ ‬وبعدها‭ ‬أحس‭ ‬المحامي‭ ‬بالراحة‭ ‬والزهو،‭ ‬فرغم‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يدرك‭ ‬انه‭ ‬بشهادته‭ ‬ضد‭ ‬المافيا‭ ‬أصدر‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬حكما‭ ‬بالإعدام‭ ‬الا‭ ‬انه‭ ‬كان‭ ‬مرتاحا‭ ‬لأنه‭ ‬ترك‭ ‬لولده‭ ‬ذكرى‭ ‬عطرة‭ ‬ومشرفة‭. ‬وبالفعل‭ ‬تم‭ ‬اغتياله‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بوقت‭ ‬قصير‭.‬

القاسم‭ ‬المشترك‭ ‬بين‭ ‬الحكايتين‭ ‬هو‭ ‬ان‭ ‬اوهير‭ ‬أشهر‭ ‬طيار‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬امريكا‭ ‬العسكري‭ ‬هو‭ ‬ابن‭ ‬المحامي‭ ‬إيزي‭ ‬إيدي‭. ‬ويفسر‭ ‬هذا‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬للابن‭ ‬ان‭ ‬يربّي‭ ‬أباه‭. ‬أو‭ ‬بالأحرى‭ ‬كيف‭ ‬إن‭ ‬الإحساس‭ ‬بالواجب‭ ‬تجاه‭ ‬الأبناء‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يجعل‭ ‬الآباء‭ ‬أكثر‭ ‬استقامة‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا